فرّق بين هذه الأسماء بهذه المعاني باعتبار أن الله جمعها، وعطف بعضها على بعض في هذا الموضع، فالخالق يأتي بمعنى المقدر، ويأتي بمعنى الموجد من العدم، ويأتي بمعنى المصور الذي يعطي هيئة وشكلًا لهذا المخلوق، ولذلك فإن الخلق بمعنى التقدير يفسر به هذا الموضع هنا باعتبار أنه ذكر بعدهالْبَارِئُ فهذا أحد معاني الخالق، الخلق بمعنى التقدير، يعني هذا المبنى الآن قبل أن يوجد وُجد تصور له، وُجد مخطط له هذا يسمى تقديرًا، وهذه الطاولة قبل أن يصنعها النجار وَضع تصورًا لها بطولها وعرضها وارتفاعها، فهذا يقال له: تقدير، ويكون قبل الخلق والإيجاد، فيفسر هنا الخالق بالمقدر في هذا الموضع فقط، لكن في المواضع الأخرى الخالق يتضمن المقدر والموجد إلى آخره، ويأتي الخالق بمعنى المصور والموجد من العدم أيضًا، يعنيوَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ[سورة المائدة:110] فالخلق هنا بمعنى التصوير والتشكيل، وهو أحد معاني الخالق لكن لما ذكر هنا المصور، وذكر البارئ حُمل الخالق على المقدر، والبارئ على الموجد من العدم، والمصور هو الذي يعطي كل مخلوق صورته اللائقة به،الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ[سورة السجدة:7]،لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ[سورة التين:4]،وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ[سورة التغابن:3] كل هذا مضى الكلام عليه، والذين يمتهنون التصوير هؤلاء معتدون على هذا الاسم الكريم، والله-تبارك وتعالى- توعدهم، والناس للأسف أسرعوا في ذلك وتساهلوا به كثيرًا.
وقوله تعالى:الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ أي: الذي إذا أراد شيئًا قال له كن فيكون على الصفة التي يريد والصورة التي يختار، كقوله تعالى:فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ[سورة الإنفطار:8]، ولهذا قال:الْمُصَوِّرُ أي: الذي ينفذ ما يريد إيجاده على الصفة التي يريدها.
وقوله تعالى:لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى قد تقدم الكلام على ذلك في سورة الأعراف ونذكر الحديث المروي في الصحيحين عن أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ:إن لله تعالى تسعة وتسعين اسمًا مائة إلا واحدًا من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر[1].
وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى[سورة الأعراف:180]يعني البالغة في الحسن غايته، والحسنى جمع للأحسن وليست بجمع للحَسن،وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فهي حسنى في ألفاظها لا يوجد فيها لفظ موحش، وهي حسنة في معانيها وما تضمنته من الأوصاف، فهي أسماء متضمنة لأوصاف الكمال، أسماء المخلوقين قد تكون فيها أسماء غير جيدة في اللفظ، وقد تكون تحمل معانيَ غير جيدة، وقد لا يكون لها معنى أصلًا، والناس أولعوا بالإغراب يبحثون عن أسماء غريبة يَسبقون إليها، وأحيانًا لو سألتهم عن المعنى لا يوجد لها معنى، وأحيانًا يقول: نبتة في الصحراء، وأحيانًا معنى ركيك، وأحيانًا اسم للقرد، أو اسم لأشياء قبيحة، ولكن هم يرون أن هذا الاسم جديد، وأنه غريب وما سُبقوا إليه، الله أسماؤه حسنى ليس فيها شيء من ذلك وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى، في ألفاظها وفي معانيها، وتحمل أوصافًا، الإنسان يسمى بأسماء ولا يرجع إليه من هذه الأسماء ما تضمنته معانيها، لا يرجع إليه منها شيء، فهي مجرد أعلام، أما أسماء الله تعالى فهي أعلام وأوصاف تتضمن أوصاف الكمال.
كما قلنا: السورة افتتحت بالتسبيح واختتمت بالتسبيح، وهذا التسبيح حقيقي،يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا يؤول ويحمل ذلك على الخضوع أو غير ذلك، وإنما هو تسبيح حقيقي، وكما قال الله :وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ فكل شيء يسبح بحمد الله، والنبيﷺ يقول:إني لأعرف حجرًا كان يسلم عليّ في مكة[2]، والجذع حنّ لفراق رسول الله ﷺ حينما تركه بعد أن كان يخطب عليه[3]، وكذلك أيضًا تسبيح الطعام[4]، وما أشبه ذلك،يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ[سورة سبأ:10]،عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ[سورة النمل:16]،قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ[سورة النمل:18].
وقوله تعالى:وَهُوَ الْعَزِيزُ أي فلا يرام جنابه، الْحَكِيمُ في شرعه وقدره.
- رواه البخاري، كتاب الدعوات، باب لله مائة اسم غير واحد، برقم (6410)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها، برقم (2677).
- رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي ﷺ وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، برقم (2277).
- رواه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، برقم (3583).
- رواه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، برقم (3579).