الجمعة 04 / ذو القعدة / 1446 - 02 / مايو 2025
وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَٰهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ [سورة الأنعام:9] أي: ولو أنزلنا مع الرسول البَشَرِيّ ملكًا، أي: لو بعثنا إلى البشر رسولاً ملكيًا لكان على هيئة الرجل ليمكنهم مخاطبته، والانتفاع بالأخذ عنه".

ليس بالضرورة أن يكون المراد بقوله: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً [سورة الأنعام:9]: لو أنزلنا مع الرسول البشري ملكاً كما يقول الحافظ - رحمه الله -؛ وذلك أنهم ربما كانوا يعتقدون أن الرسل لا تكون إلا من الملائكة، ولهذا قالوا لأقوامهم: إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا [سورة إبراهيم:10] يعني أنهم نزّلوا المعلوم منزلة المجهول، يعني أن المعلوم لا يحتاج إلى تأكيد، فجاءوا به بأسلوب الحصر لمعنىً وهو أن ذلك وقع جرياً على اعتقادهم بأن الرسول لا بد أن يكون ملائكياً مع أن الرسل - عليهم الصلاة والسلام - يعرفون أنهم بشر، وهم لم يقولوا: نحن لسنا من البشر، فالله ردَّ عليهم فقال: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً [سورة الأنعام:9] أي: لجعلناه رجلاً يستطيعون الأخذ عنه؛ لأنهم لا يطيقون التلقي من ملك، بل ولا رؤية الملك على صورته الحقيقية، وحتى لو أطاقوا رؤيته فإن كل ما يعمله هذا الملك لا تحصل به الأسوة والقدوة؛ لأنه منزوع الشهوات، وهو في خلق آخر يختلف تماماً عن خلقهم حيث إنه خُلق من نور وليس فيه النزعة الطينية التي تشده إلى الأرض، ثم إن الناس اليوم إذا قيل لهم: اقتدوا بالصحابة في كذا وكذا قالوا: هؤلاء صحابة، وأين نحن منهم حتى نقتدي بهم في كل شيء - مع أن الصحابة بشر مثلهم - فكيف سيكون الحال إذا طُلب منهم الاقتداء بملك من الملائكة؟!
قال تعالى: وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ [سورة الأنعام:9] أي: إذا كانوا يلبسون على أقوامهم وعلى الناس بأن الرسول لا بد أن يكون ملائكياً، أو لا بد أن يأتي معه ملك يشهد على رسالته، فالله يقول: لو نزلناه ملكاً، لجعلناه في صورة رجل، ولخلطنا عليهم الأمر فوقع لهم الالتباس هل هذا ملك أو بشر؟.
"ولو كان كذلك لالتبس عليهم الأمر كما هم يلبسون على أنفسهم في قبول رسالة البشري".

وهذا أحد المعنيين في قوله: وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ [سورة الأنعام:9] فالمعنى الأول أنهم يلبسون على الناس - كما سبق -، والمعنى الثاني أي ما يلبسون على أنفسهم.
"كقوله تعالى: قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً [سورة الإسراء:95] فمن رحمته تعالى بخلقه أنه يرسل إلى كل صنف من الخلائق رسلاً منهم ليدعو بعضهم بعضاً، وليمكن بعضهم أن ينتفع ببعض في المخاطبة، والسؤال كما قال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ الآية [سورة آل عمران:164]".

ومن أشباه هذه الآية قوله - تبارك وتعالى -: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [سورة الجمعة:2] فهو يمتن - تبارك وتعالى - على عباده أن أرسل إليهم رسولاً بشرياً منهم ليكون مُشاكِلاً لأحوالهم يستطيعون التلقي، والفهم عنه؛ بخلاف ما لو أرسل إليهم فيلسوفاً - مثلاً - فإنهم لن يعرفوا لغته، ولن يفهموا عنه، ولن يعقلوا ما يقول، وما يأمرهم به، لكن لما أرسل إليهم رسولاً أميَّاً وهم في أمة أمية كان ذلك أدعى للقبول، والفهم، إضافة إلى ما في ذلك من تحقيق المعجزة، وتصديق بشارات الأنبياء.
"قال الضحاك عن ابن عباس - ا - في الآية، يقول: لو أتاهم ملك ما أتاهم إلا في صورة رجل؛ لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة من النور.
وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ [سورة الأنعام:9] أي: ولخلطنا عليهم ما يخلطون، وقال الوالبي عنه - ا -: "ولشبهنا عليهم"".

مرات الإستماع: 0

"وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ [الأنعام: 9] قال ابن عباس: المعنى لو أنزلنا ملكا، فكفروا بعد ذلك لعُجل لهم العذاب، ففي الكلام على هذا حذف."

يعني كما قال الله : مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ [الحجر: 8] يعني: يأتيهم العذاب لو نزل، وهكذا في قوله: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ [الفرقان: 22].

"وقضي الأمر - وفي جميع النسخ - [وقضاء الأمر] على هذا: تعجيل أخذهم.

وقيل: المعنى لو أنزلنا ملكا لماتوا من هول رؤيته، فقضي الأمر على هذا: موتهم، وفي جميع النسخ [فقضاء الأمر على هذا موتهم]."

الأول أقرب - والله أعلم - أن المقصود أنهم يعاجلون بالعقوبة إن لم يؤمنوا.

"قوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكًا لَجَعَلْناهُ رَجُلاً [الأنعام: 9] أي: لو جعلنا الرسول ملكا لكان في صورة رجل، لأنهم لا طاقة لهم على رؤية الملك في صورته وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [الأنعام: 9] أي: لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم، وعلى ضعفائهم، فإنهم إذا رأوا الملك في صورة إنسان قالوا: هذا إنسان، وليس ملكا"