ليس بالضرورة أن يكون المراد بقوله: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً [سورة الأنعام:9]: لو أنزلنا مع الرسول البشري ملكاً كما يقول الحافظ - رحمه الله -؛ وذلك أنهم ربما كانوا يعتقدون أن الرسل لا تكون إلا من الملائكة، ولهذا قالوا لأقوامهم: إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا [سورة إبراهيم:10] يعني أنهم نزّلوا المعلوم منزلة المجهول، يعني أن المعلوم لا يحتاج إلى تأكيد، فجاءوا به بأسلوب الحصر لمعنىً وهو أن ذلك وقع جرياً على اعتقادهم بأن الرسول لا بد أن يكون ملائكياً مع أن الرسل - عليهم الصلاة والسلام - يعرفون أنهم بشر، وهم لم يقولوا: نحن لسنا من البشر، فالله ردَّ عليهم فقال: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً [سورة الأنعام:9] أي: لجعلناه رجلاً يستطيعون الأخذ عنه؛ لأنهم لا يطيقون التلقي من ملك، بل ولا رؤية الملك على صورته الحقيقية، وحتى لو أطاقوا رؤيته فإن كل ما يعمله هذا الملك لا تحصل به الأسوة والقدوة؛ لأنه منزوع الشهوات، وهو في خلق آخر يختلف تماماً عن خلقهم حيث إنه خُلق من نور وليس فيه النزعة الطينية التي تشده إلى الأرض، ثم إن الناس اليوم إذا قيل لهم: اقتدوا بالصحابة في كذا وكذا قالوا: هؤلاء صحابة، وأين نحن منهم حتى نقتدي بهم في كل شيء - مع أن الصحابة بشر مثلهم - فكيف سيكون الحال إذا طُلب منهم الاقتداء بملك من الملائكة؟!
قال تعالى: وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ [سورة الأنعام:9] أي: إذا كانوا يلبسون على أقوامهم وعلى الناس بأن الرسول لا بد أن يكون ملائكياً، أو لا بد أن يأتي معه ملك يشهد على رسالته، فالله يقول: لو نزلناه ملكاً، لجعلناه في صورة رجل، ولخلطنا عليهم الأمر فوقع لهم الالتباس هل هذا ملك أو بشر؟.
وهذا أحد المعنيين في قوله: وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ [سورة الأنعام:9] فالمعنى الأول أنهم يلبسون على الناس - كما سبق -، والمعنى الثاني أي ما يلبسون على أنفسهم.
ومن أشباه هذه الآية قوله - تبارك وتعالى -: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [سورة الجمعة:2] فهو يمتن - تبارك وتعالى - على عباده أن أرسل إليهم رسولاً بشرياً منهم ليكون مُشاكِلاً لأحوالهم يستطيعون التلقي، والفهم عنه؛ بخلاف ما لو أرسل إليهم فيلسوفاً - مثلاً - فإنهم لن يعرفوا لغته، ولن يفهموا عنه، ولن يعقلوا ما يقول، وما يأمرهم به، لكن لما أرسل إليهم رسولاً أميَّاً وهم في أمة أمية كان ذلك أدعى للقبول، والفهم، إضافة إلى ما في ذلك من تحقيق المعجزة، وتصديق بشارات الأنبياء.
وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ [سورة الأنعام:9] أي: ولخلطنا عليهم ما يخلطون، وقال الوالبي عنه - ا -: "ولشبهنا عليهم"".