الأحد 13 / ذو القعدة / 1446 - 11 / مايو 2025
وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱمْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ٱبْنِ لِى عِندَكَ بَيْتًا فِى ٱلْجَنَّةِ وَنَجِّنِى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِۦ وَنَجِّنِى مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ۝ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ [سورة التحريم:11-12].

وهذا مثل ضربه الله للمؤمنين أنهم لا تضرهم مخالطة الكافرين إذا كانوا محتاجين إليهم، كما قال تعالى:  لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً [سورة آل عمران:28] قال قتادة: كان فرعون أعتى أهل الأرض وأكفرهم، فوالله ما ضر امرأتَه كفرُ زوجها حين أطاعت ربها، ليعلموا أن الله تعالى حكم عدل، لا يؤاخذ أحداً إلا بذنبه.

وروى ابن جرير عن سلمان قال: كانت امرأة فرعون تعذب في الشمس، فإذا انصرف عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها، وكانت ترى بيتها في الجنة.

ثم روى ابن جرير عن القاسم بن أبي بزة قال: كانت امرأة فرعون تسأل من غلب؟ فيقال: غلب موسى وهارون، فتقول: آمنت برب موسى وهارون، فأرسل إليها فرعون، فقال: انظروا أعظم صخرة تجدونها فإن مضت على قولها فألقوها عليها، وإن رجعت عن قولها فهي امرأتي، فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء فأبصرت بيتها في الجنة، فمضت على قولها، وانتُزعت روحها، وألقيت الصخرة على جسد ليس فيه روح، فقولها: رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ [سورة التحريم:11] أي: خلصني منه فإني أبرأ إليك من عمله، وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [سورة التحريم:11] وهذه المرأة هي آسية بنت مزاحم - ا.

وقوله تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا [سورة التحريم:12] أي: حفظته وصانته، والإحصان هو العفاف والحرية فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا [سورة التحريم:12].

ما يتعلق بامرأة فرعون كونها تحت فرعون هذا لا يقال الآن على أنه حُكم في هذه الشريعة، شريعة محمد ﷺ؛ لأن المرأة المسلمة لا تحل للكافر، وإذا كان زوجها على غير الإيمان فإنه لا يجوز لها البقاء معه، بل إذا كان فاجراً فاسقاً يقارف الفواحش وما أشبه ذلك فإنها تؤمر بمفارقته إذا لم يُجدِ معه النصح، ولم تصلح حاله.

فعلى كل حال تعرفون أن هذه الشريعة لها أحكام تختص بها، فما يتعلق بأحكام القرآن حينما ينظر في القصص قصص الأنبياء أو القصص التي ذكرها القرآن فإنه يؤخذ من شرع من قبلنا ما يوافق شرعنا، أو على الأقل ما لا يخالفه على القول الآخر، وهذه مسألة معروفة على كل حال.

وفي قوله تعالى هنا: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا [سورة التحريم:12] قال: الإحصان هو العفاف والحرية، هذه بعض معاني الإحصان أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا [سورة التحريم:12] أي: حفظته وصانته من مقارفة ما لا يليق، وإلا فالإحصان يأتي أيضاً بمعنى -كما سبق في الكلام على سورة النساء- الزواج، فَإِذَا أُحْصِنَّ [سورة النساء:25] أي: تزوجن فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ [سورة النساء:25] يعني: الحرائر.

فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا [سورة التحريم:12] أي: بواسطة الملَك، وهو جبريل ، فإن الله بعثه إليها، فتمثل لها في سورة بشر سويٍّ، وأمره الله تعالى أن ينفخ بفيه في جيب درعها، فنزلت النفخة فولجت في فرجها، فكان منه الحمل بعيسى ؛ ولهذا قال تعالى: فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ [سورة التحريم:12] أي: بقدره و شرعه وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ [سورة التحريم:12].

بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ [سورة التحريم:12] قال: بقدره وشرعه، باعتبار أن الكلمات هي الكلمات الكونية أعوذ بكلمات الله التامات[1] فهي التي لا يجاوزها بر ولا فاجر، وهي التي يحصل بها التكوين، وأما الكلمات الشرعية فهي مثل القرآن، وكلام الله في كتبه، يقال لها: الكلمات الشرعية وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ[سورة التحريم:12].

روى الإمام أحمد عن ابن عباس - ا - قال: خط رسول الله ﷺ في الأرض أربعة خطوط، وقال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله ﷺ: أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون[2].

وقد ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري عن النبي ﷺ قال: كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام[3]وقد ذكرنا طرق هذه الأحاديث وألفاظها، والكلام عليها في قصة عيسى ابن مريم - عليهما السلام - في كتابنا البداية والنهاية، ولله الحمد والمنة.

آخر تفسير سورة التحريم، ولله الحمد والمنة.

  1. أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره (4/ 2080- 54) (2708).
  2. أخرجه أحمد (4/ 409- 2668) وأخرجه أبو يعلى (2722)، والحاكم 3/185 من طريق يونس بن محمد المؤدب، بهذا الإسناد. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه بهذه السياقة.وأخرجه عبد بن حميد (597)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (148)، وابن حبان (7010)، والطبراني (11928) من طرق عن داود بن أبي الفرات، به. وصححه الألباني في الصحيحة (1508).
  3. أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون [التحريم: 11]إلى قوله: وكانت من القانتين [التحريم: 12] (4/ 158-3411) ومسلم  في كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل خديجة أم المؤمنين - ا - (4/ 1886- 70) (2431).