الأحد 10 / محرّم / 1447 - 06 / يوليو 2025
فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"يقول الله - تعالى -: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ۝ وَلَا يَسْتَثْنُونَ ۝ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ ۝ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ۝ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ ۝ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ ۝ فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ۝ أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ ۝ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ ۝ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ۝ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ۝ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ ۝ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ۝ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ ۝ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ ۝ عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ ۝ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [القلم: 17-33].

قال المفسر - رحمه الله -: هذا مثل ضربه الله - تعالى - لكفار قريش فيما أهدى إليهم من الرحمة العظيمة، وأعطاهم من النعم الجسيمة وهو بعثُهُ محمدًا ﷺ إليهم، فقابلوه بالتكذيب، والرد، والمحاربة، ولهذا قال تعالى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ أي: اختبرناهم كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ وهي البستان المشتمل على أنواع الثمار، والفواكه إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ أي: حلفوا فيما بينهم ليجُذنّ ثمرها ليلاً؛ لئلا يعلم بهم فقير، ولا سائل، ليتوفر ثمرها عليهم، ولا يتصدقوا منه بشيء وَلَا يَسْتَثْنُونَ أي فيما حلفوا به، ولهذا حنّثهم الله في أيمانهم فقال تعالى: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ أي: أصابتها آفة سماوية.

فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ قال ابن عباس: "أي كالليل الأسود"، وقال الثوري، والسدي: "مثل الزرع إذا حُصد، أي هشيمًا يبسًا"".

فقوله - تبارك وتعالى -: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ أي: هؤلاء الذين بعث فيهم النبي ﷺ من كفار قريش، وهذا الذي ابتلاهم الله - تبارك وتعالى - به: الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا يقول: فيما أهدى إليهم من الرحمة العظيمة، وأعطاهم من النعمة الجسيمة يعني أنْ بعث فيهم نبيه ﷺ، وقابلوا ذلك بالتكذيب.

وبعض أهل العلم يقول: "المراد بذلك ما وقع من دعاء النبي ﷺ عليهم، فجعلها الله - تبارك وتعالى - عليهم سنين كسني يوسف، فأصابهم الجهد، والقحط، والمشقة، والمجاعة"، وهذا من توابع ذاك، ومن آثاره، يعني لما قابلوا بالتكذيب حصل لهم هذه العقوبة.

إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ هنا ليس هناك حاجة لتحديد المبهم مَن هؤلاء؟ وأين وجدوا؟ أين توجد هذه الجنة؟

وإذا نظرت إلى الأقوال الواردة في ذلك كل هذا يرجع إلى ما تلقاه المفسرون عن بني إسرائيل، وهي أقوال متنافية يعني من يقول: إنها في اليمن، ثم يختلفون في تحديد هذا الموضع من أرض اليمن، ومنهم من يبعد جدًّا، فيذكر نواحيَ أخرى غير اليمن، هذا لا فائدة فيه، وكما بينَّا مرارًا أن تتبع مثل هذه المبهمات هو قليل الفائدة، وأنه لو كان في ذلك مصلحة لذكرها الله ، فلا يُشتغل بهذا يقول: إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ يقول: أي: حلفوا فيما بينهم ليجُذنّ ثمرها ليلاً.

الصرم هو القطع، والمقصود به قطع الثمر، يعني جذ الثمر.

مُصْبِحِينَ قال: ليلاً، وهذا قد لا يخلو من إشكال؛ لأن قوله: مُصْبِحِينَ أي: داخلين في وقت الصباح، ولهذا قالوا: أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ والغدو هو الوقت الذي يكون في أول النهار قبل طلوع الشمس فيذهبون إليها قبل انتشار الناس؛ لئلا يراهم أحد، فيجذونها وهم داخلون في وقت الصباح، يعني في الصباح الباكر، يقول: وَلَا يَسْتَثْنُونَ الأخبار الواردة في هذا وهي من الأخبار الإسرائيلية وإن لم يصرح بذلك، يقولون: إن هذه الأرض، هذا الحرث، هذه المزرعة كانت لأبيهم، وكان أبوهم صالحًا، وكان يجعل جزءًا مما خرج من هذه الأرض للمساكين، فإذا جاء وقت الحصاد والجذاذ جعل هذا للمساكين خاصة، فيأتون ويجدون ذلك موفرًا لهم، فهؤلاء قالوا: إن الناتج والحاصل من هذه الأرض قليل، والورثة كثير، فأرادوا أن يوفروا هذا الجزء لأنفسهم، وبصرف النظر: هل كان الأمر كما قيل أو لا لكن واضح أن هؤلاء أرادوا أن يمنعوا حق هؤلاء المساكين، ولا شك أنهم أرادوا بذلك أن يوفروا القدر الأكبر لأنفسهم، وأن يستأثروا بناتج الثمر الذي خرج من هذه الأرض - والله المستعان -.

فهذا في مقاييس البشر المحضة قد يرون أنه من التوفير، وأن ذلك مما يكثرون به المال، ولكنه بالمقاييس الشرعية بخلاف ذلك، فالنبي ﷺ أخبر: أنه ما نقص مال عبد من صدقة[1].

فالمعايير في الشرع تختلف عن المعايير القاصرة عند البشر حينما تلوح الأطماع، فهذا الذي يُعطَى لهؤلاء المساكين يدفع الله به من البلاء ما لا يقادر قدره، ويحصل فيه من البركة، وتكثير المال، والزرع، والثمر، والعبرة إنما هي بالبركة وليست بكثرة العدد من هذه الثمار، أو الأشجار أو نحو ذلك، العبرة بالبركة، فكم من محصل لكثير ولكنه في النتيجة وفي النهاية لا يكاد يبقى في يده منه شيء، فهؤلاء أرادوا هذا، فحصل لهم خلاف مقصودهم.

إذًا على العبد أن يراعي حق الله، وأن يحفظ حدوده، وأن يعلم أن هذا هو الطريق دون ما سواه يقول: وَلَا يَسْتَثْنُونَ أي: فيما حلفوا به، يعني ما قالوا: "إن شاء الله" بل هم واثقون من أنفسهم، يدفعهم هذا الطمع، فغلب على نفوسهم، فنسوا هذا الاستثناء، يقول: ولهذا حنّثهم الله في أيمانهم، هذا هو ظاهر الآية - والله تعالى أعلم -: وَلَا يَسْتَثْنُونَ يعني حينما أقسموا، مع أن من أهل العلم من قال كعكرمة: وَلَا يَسْتَثْنُونَ يعني ما للمساكين من جملة هذا الثمر أو الزرع الذي يستحصد، يعني أنهم عزموا على أخذه كله، ولم يستثنوا، ولا يريدون أن يستثنوا من ذلك شيئًا للمحتاجين، والفقراء، والمساكين؛ وَلَا يَسْتَثْنُونَ لا يستثنون منه شيئًا، هكذا جاء عن عكرمة؛ والذي عليه عامة أهل العلم: أن المراد بذلك: وَلَا يَسْتَثْنُونَ يعني في اليمين.

يقول: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ يقول: أي: أصابتها آفة سماوية، هذا الطائف الذي أصابها الظاهر أنه ليلاً؛ لأنهم لما غدوا عليها، فرأوها في هذه الحال: قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ، وهنا قوله: وَهُمْ نَائِمُونَ يدل كل ذلك على أنه كان في الليل، ولهذا قال بعض أهل العلم كابن جرير - رحمه الله -: إن الطائف في لغة العرب لا يكون إلا ليلاً، لا يقع إلا ليلاً.

فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ ما هذا الطائف الذي حل بها؟

هي آفة سماوية، نزل بها أمر الله، صاعقة، نزل بها عقوبة، فأصبحت بهذه المثابة، احترقت، وأَصبحَتْ كَالصَّرِيمِ يقول: قال ابن عباس: "كالليل الأسود"، وهذا قال به أيضًا من أصحاب المعاني الفراء، يقول وقال الثوري والسدي: "مثل الزرع إذا حصد أي: هشيمًا يابسًا"، الهشيم اليابس يكون متغيرًا، وهذا اللفظ "الصريم" بعضهم يقول: إنه الرماد الأسود فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ وهذا قريب من قول من قال: هشيمًا مثل الزرع إذا حصد أي: هشيمًا يابسًا، فبعض أهل العلم يقول: الرماد الأسود بلغة خزيمة يقال له: الصريم، وبعض أصحاب المعاني كالأخفش يقول: كالصبح إذا انصرم من الليل.

تأمل ذاك يقول: الليل، وهذا يقول: كالصبح إذا انصرم من الليل، يعني صارت يابسة بيضاء بعد أن كانت غنَّاء شديدة الخضرة فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ،  وظاهر من هذا - وهؤلاء أهل لغة -: أن الصريم يأتي لمعنيين متضادين، فهو من الأضداد، الصريم يقال: الليل، سوداء كالليل، وكذلك أيضًا: النهار بيضاء كالصبح، فالنهار، والليل؛ كل ذلك يقال له: صريم، فهذا ينصرم عن هذا، وهذا ينصرم عن هذا؛ كما يقول الفراء، وبعضهم يقول: قيل لليل صريم؛ لأنه يقطع بظلمته عن التصرف، والتنقل، والاشتغال بطلب المعاش، والرزق، فيقال له: صريم.

ويمكن الجمع بين هذين القولين المتقابلين: أنها أصبحت كالصريم يعني سوداء محترقة، أو أنها بيضاء، والسواد والبياض ضدان، النسبة بينهما التضاد، والضدان هما ما لا يجتمعان في موضع واحد - في محل واحد - في وقت واحد، ويمكن ارتفاعهما يعني قد لا تكون سوداء، ولا بيضاء، ولكن حمراء مثلاً، لكن لا يمكن أن تكون سوداء بيضاء في نفس الوقت، في نفس الموضع؛ إما أسود، وإما أبيض، هذان الضدان لا يجتمعان، ويمكن ارتفاعهما، يقال: لا أسود، ولا أبيض، بخلاف النقيضين، فإنهما لا يجتمعان، ولا يرتفعان مثل الليل والنهار، والحياة والموت، لا يمكن أن تقول: لا ليل ولا نهار، لا حي ولا ميت، ولا يمكن أن تقول: حي ميت، ليل نهار، إما هذا، وإما هذا، ولا ثالث لهما.

فالمقصود: أن الصريم هنا من الأضداد، فقول من قال: إنها صارت سوداء محترقة، ومن قال: إنها صارت بيضاء كل ذلك يمكن أن يجتمع، فيكون حاصله: أنه لم يبق فيها شيء، فمن قال: إنها بيضاء يقصد أن الزرع الذي فيها، أو الثمر والشجر؛ كل ذلك قد انقشع وزال، ولم يبق منه شيء، صارت أرض جرداء، ومن قال: إن ذلك بمعنى الليل، فالصريم يعني سوداء محترقة، فهذا بمعنى قول من قال أيضًا: إن ذلك كله قد ترحل، وزال، وتقشع، فلم يبق فيها شيء.

المقصود: أنها أصابها التلف، ولم يبق فيها زرع، ولا شجر - الله المستعان - صارت بهذه المثابة، وحمله بعضهم كالحسن "كالصريم" على معني صرم منها الخير، لكن هذا يمكن أن يكون من قبيل التفسير باللازم.

  1. رواه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر، رقم (2325) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، رقم (16).