الخميس 22 / ذو الحجة / 1446 - 19 / يونيو 2025
وَغَدَوْا۟ عَلَىٰ حَرْدٍ قَٰدِرِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"قال تعالى: فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أي: لما كان وقت الصبح نادى بعضهم بعضًا ليذهبوا إلى الجذاذ أي: القطع: أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ أي: تريدون الصرام فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أي: يتناجون فيما بينهم بحيث لا يُسمعون أحدًا كلامهم.

ثم فسر الله عالِم السر، والنجوى؛ ما كانوا يتخافتون به فقال تعالى: فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ۝ أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ أي: يقول بعضهم لبعض: لا تمكنوا اليوم فقيرًا يدخلها عليكم.

قال الله - تعالى -: وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ أي: قوة، وشدة قَادِرِينَ أَيْ: عَلَيْهَا فِيمَا يَزْعُمُونَ، وَيَرُومُونَ".

قوله: فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ۝ أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ "أن" هذه مفسرة لهذا التخافت ماذا يقولون؟ أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ، وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ يقول: أي: قوة، وشدة قادرين أي عليها فيما يزعمون، ويرومون.

وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ الحرد هنا فسره بعضهم: بالمنع، والقصد، وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ يعني أنهم قصدوا منع الفقراء، أن لا يدخل عليهم أحد من هؤلاء، فيمنعوهم حقهم، وجاء عن جماعة من السلف - كقتادة، ومقاتل، والكلبي، والحسن، ومجاهد - تفسير: الحرد: بالقصد، وهؤلاء أهل لغة يحتج بكلامهم، وتفسيرهم اللغوي؛ لأنهم في وقت الاحتجاج، ففسروا الحرد: بالقصد، قالوا؛ لأن القاصد إلى شيء حارد.

حَرْدٍ أي قصد، حردتُ حردَك، يعني قصدت قصدك، وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ يعني على قصد بيتوه، وجاء عن بعض أصحاب المعاني كأبي عبيدة والمبرد، وبه قال ابن قتيبة أيضًا: "أن الحرد بمعنى: المنع"، تأمل هناك القصد، وهنا المنع.

وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ أي منع، فيقولون: الحارد من النوق هي قليلة اللبن، وإذا حاردت الإبل يعني منعت لبنها، يعني لم يوجد فيها شيء، أو قلت ألبانها، وفسره بعضهم: بالغضب وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ يعني على غضب كما جاء عن السدي، وسفيان، والشعبي، وهذا أيضًا له ما يدل عليه من كلام العرب.

تفسير الحرد بالغضب جاء في كلام العرب شعرًا ونثرًا، العرب يقولون: أسد حارد؛ يعني غاضب، وحرد الأسد إذا غضب، وجاء عن جماعة أيضًا من السلف تفسير ذلك: بالحسد وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ يعني على حسد، وهذا قال به قتادة، ومجاهد أيضًا: على حسد، وفعلهم هذا لا شك أنه يدل على نفوس ضعيفة، وعلى لؤم، وعلى حسد، وعلى أمراض وعلل في هذه النفوس التي لا تجود بنفع، ولا خير للناس، ولا ترق قلوبهم للمحتاجين، والضعفاء، والمساكين، فكيف بالأقوياء، والأغنياء؟!.

وجاء أيضًا تفسير ذلك عن الحسن بأن الحرد يعني: الحاجة، والفاقة وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ، وبعضهم فسر ذلك: بالانفراد، قال: حرد عن قومه يعني انفرد، واعتزل، تنحى عنهم، لم يخالطهم، وهذا قال به كبير من أئمة أهل اللغة كالأصمعي - رحمه الله -، وهذه الأقوال لا يستهان بها، والأصمعي - رحمه الله - خزانة من خزائن العرب، فهو من أحفظ الناس لكلامهم، وشعرهم، ونثرهم، ففسره بالانفراد، وهذا أيضًا قال به الإمام الآخر صاحب تهذيب اللغة الأزهري فهؤلاء جبال، أئمة كبار، وتأمل هذه المعاني التي قالوها.

لكن قد يكون أبعدَ من فسر ذلك: بالجنة وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ يعني اسم هذه الجنة التي كانت لهم، أو قول من قال بأن ذلك بمعنى: القرية، أو هو اسم للقرية التي كان فيها ذلك البستان، فهذا قد لا يخلو من بعد - والله تعالى أعلم -.

وعبارة ابن جرير - رحمه الله - في هذا يقول - تأملوا عبارة ابن كثير وابن جرير - ابن جرير يقول: وغدوا على أمر قد قصدوه، واعتمدوه، واستسرّوه بينهم، قادرين عليه في أنفسهم، ففسر ذلك بالقصد؛ على أمر قد قصدوه.

ابن كثير يقول: وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ: أي: قوة، وشدة، فما دامت هذه الأقوال صحيحة في اللغة: أن الحرد بمعنى القصد، وأنه أيضًا بمعنى: المنع، وأيضًا الغضب، ونحو ذلك من المعاني التي ذكروها، فيكون هؤلاء قد غدوا على حرد يعني على قصد للمنع، وهم في غاية التصميم، حتى إنهم لم يستثنوا، وفي حال من الانفعال، نفوسهم قد شُحنت ومُلئت بالحنق؛ لئلا يدخل عليهم أحد من المحتاجين، النفوس حينما تضيق يحصل فيها مثل هذا، حينما يريد الإنسان أن يستأثر بشيء دون الآخرين يذهب تدفعه نفس ضعيفة صغيرة، دفعًا للأثرة، أو الاستئثار بهذا، ولو كان من الأمور الصغيرة التافهة، لو أراد الإنسان أن ينافس على شيء تافه، في الطريق يمنع الناس من أن يجتازه أحد، أو أن يفسح لأحد بحاجة إلى أن يقف، سيارة قادمة في زحام شديد، يريد صاحبها أن يعبر من طريق فرعي، إذا كانت النفس ضعيفة تجد هذا الإنسان يعارك، ويستعد من مدة قبل أن يصل إليها ليضع السيارة في مؤخرة السيارة الثانية مباشرة، لئلا يعطيه فرصة، وتجد النفس تضيق، هكذا يفعل اللؤم بأصحابه، ولهذا قال الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ [المجادلة:11]، وذكرنا هناك أن الفسح في المجالس يجازي الله عليه بهذا الفسح الذي أطلقه: يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ بماذا؟ بالصدر يجد انشراحًا، وسعة في الصدر، وكذلك في الرزق، وكذلك في القبر، وكذلك في الآخرة.

وأما إذا كان الإنسان ضيق النفس، ضيق العطن، لا يفسح للآخرين؛ فإن مثل هذا حتى في المجالس حينما لا يفسح والناس بحاجة في يوم الجمعة، أو في المجامع الكبار كالعيد، أو في الحرم أو نحو ذلك، تجد أن نفسه تنقبض انقباضًا شديدًا، فيبقى في هذا الوقت كله إلى أن تنقضي الصلاة وهو يشرع بالانقباض؛ لئلا يأتي أحد هنا أو هنا، فيضيق عليه المكان بزعمه، هذه أمور ناتجة عن هذه الممارسات والنفوس الضعيفة.

قَادِرِينَ أي: عليها فيما يزعمون، ويرومون، وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ، قَادِرِينَ هنا النصب بعضهم يقول: على الحال، يعني حال كونهم كذلك.

وبعضهم كالفراء فسر: قَادِرِينَ يعني أنهم قد قدّروا أمرهم ليس من القدرة، وإنما من التقدير: قَادِرِينَ قدّروا أمرهم، بنوا عليه.

لكن جاء عن بعض السلف كقتادة أن المراد "قادرين" يعني على هذه الجنة، وتحصيل الثمر، والاستئثار به دون الفقراء.

وبعضهم فسره بتفسير لا يبعد من هذا كقول الشعبي "قادرين" يعني على المساكين يعني على منعهم.

فقول من قال: قادرين على الثمر، قادرين على المساكين على منعهم، جاءوا فلم يجدوا شجرًا، ولا ثمرًا.