يعني هنا إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء قال: زاد على الحد، هنا الطغيان هو مجاوزة الحد، وقول ابن عباس - ا -: طَغَى الْمَاء كثر، وهكذا أيضًا من فسره بما يرجع إلى هذا فإن ذلك من قبيل التفسير على المعنى؛ كثر، هو حينما يتجاوز الحد فهذا يعني أنه كثر.
هنا قوله - تبارك وتعالى -: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ الذين حُملوا هم الأجداد الذين كانوا في زمن نوح - عليه الصلاة والسلام -، فكيف جاء الخطاب إلى من بعدهم، من نزل عليهم القرآن؟ باعتبار أنهم الذرية، ففي ذلك حمل لهم ضمنًا وهم في أصلاب آبائهم، حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ، وفيه أيضًا ما هو معروف من أن المنة التي تكون على الآباء تلحق الأبناء، حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ؛ ولهذا تجد الخطاب كثيراً في القرآن لبني إسرائيل وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ [سورة البقرة:49]، وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [سورة البقرة:57] وما إلى ذلك مع أن ذلك وقع لأجدادهم، لكن هذه المنة التي تكون لاحقة للآباء تلحق الأبناء، كما أن المذمة التي تكون للآباء تلحق الأبناء إذا كانوا على طريقتهم، وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55] الذين قالوا هم الأجداد لا هؤلاء، وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [سورة البقرة:72] فلما كان هؤلاء الذين في زمن النبي ﷺ على هذه الحال القبيحة؛ كان ذلك الذم متصلًا بهم.
هنا في قوله: لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً "لنجعلها" الضمير يرجع إلى ماذا؟ لنجعلها لكم تذكرة أي السفينة، ابن كثير يقول: عاد الضمير على الجنس لدلالة المعنى عليه، أي وأبقينا لكم من جنسها يعني أن السفينة التي كانت في زمن نوح ﷺ، وركبوها؛ لم يعد لها وجود، ما شاهدها الناس في زمن نزول القرآن، وما جاء عن بعضهم من أن ذلك كان موجودًا يعني بقية من بقاياها هذا الكلام لا صحة له، وهكذا ما يذكر اليوم من كلام لا قيمة له في هذا الموضوع من أنهم وجدوا بقايا في مكان كذا في تركيا ...إلخ هو كلام غير صحيح، وعجبًا لقوم يبحثون عن بقايا سفينة ويتركون الأصل الكبير الذي من أجله صنعت هذه السفينة، ونجّى الله راكبيها، وأغرق أهل الأرض وهو: الكفر، والإيمان، يعرضون عن هذا كله، ويبحثون عن أخشاب وبقايا السفينة، وهنا ابن كثير حمله على هذا المعنى أي أبقى جنس السفينة يعني السفن التي نشاهدها هي تذكِّر بتلك السفينة لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً، وابن جرير - رحمه الله - حمل ذلك على تلك السفينة لا على أنها كانت موجودة في زمن نزول القرآن، أو يوجد بقية منها؛ فإن الناس لا عهد لهم بذلك إطلاقًا، ولكنه حمل ذلك على سفينة نوح أي لنجعل السفينة الجارية التي حملناكم فيها تذكرة، فالله ذكر خبرها: صنْع نوح ﷺ، وركوب من معه فيها، ونجاتهم، كل هذا؛ ليكون ذلك تذكرة لهم، يتذكرون فيها بأس الله - تبارك وتعالى -، وعقوبته لأهل الكفر، والطغيان، ويذكرون فضله، ونعمته، ومنته على أهل الإيمان حيث نجاهم، فهذه عبرة كبيرة، والعجيب أنه لم يطل بالناس زمان حتى رجعوا إلى الكفر، والمحادة، والإصرار على ذلك غاية الإصرار، وانظروا ما قص - تبارك وتعالى - مفصلًا في خبر صالح - عليه الصلاة والسلام -، وهود، هؤلاء العهد بينهم وبين قوم نوح لم يكن طويلًا يعني المؤرخون يذكرون مددًا ليست بتلك في الطول نسبيًا، لا أقصد أنها عشر سنين، لكن أثر ابن عباس أن الناس بقوا على التوحيد عشرة قرون، ثم بعد ذلك وقع الشرك في زمن نوح ﷺ، لكن بعد نوح حتى جاء الشرك مرة أخرى المدة لم تكن طويلة نسبيًا، إذا أردت أن تحصي من خلق آدم - عليه الصلاة والسلام - إلى يومنا هذا في ما ذكره المؤرخون من المدد - على اختلاف كثير فيما بينهم -، وأخذت أعلى ما قيل؛ فتجد أن ذلك لا يتجاوز 12000 سنة على أقصى تقدير - والله أعلم -، لكن نحن نقول في المدد التي ذكرها المؤرخون ذكروا مددًا متفاوتة ليست محل اتفاق أصلًا، ولكن إذا أخذت بالأعلى دائمًا، وجبرت الكسر، المدد هذه كلها من آدم إلى يومنا هذا لا تتجاوز 12000 سنة، أنا لا أقول: إنها 12000 سنة - الله يعلم -، لكن أقول: فيما يذكره المؤرخون لا تتجاوز هذا القدر، فأين الذين يقولون: من ملايين السنين، والعصر البرونزي، والعصر الحجري، والكذب الكثير الذي يلفقونه، ويرجمون بالغيب من مكان بعيد، يأتي بقطعة خزف ويقول: هذه قبل أربعة ملايين سنة وستمائة وخمسة وعشرين يوماً، قطعة خزف! هذا كذب.
نوح - عليه الصلاة والسلام - إلى يومنا هذا لا يتجاوز 12000 سنة بأعلى ما قاله المؤرخون في المدد التي بين الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، حتى ما ذكره النبي ﷺ لما ذكر الأمم، وما يمثل ذلك من النهار بأجزائه، وما تمثله بعثة النبي ﷺ فكأن الدنيا كلها يوم واحد، فإذا قست ما بقي منها بما تمثله بعثة النبي ﷺ إلى ما قبله تجد أنها قليلة - والله أعلم -، لأنا لا نعلم متى تكون الساعة، وكم يكون بين النبي ﷺ والساعة، لكنه يقول: بعثت أنا والساعة كهاتين[1]، فلا شك أنها قريبة، وأن بعث النبي ﷺ من أشراطها، وهذه المدة لآخر النهار فيما بين بعثته والساعة يدل على أن ذلك قريب.
قبل هذا لا زال الكلام في قوله: لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً إما جنس السفن كما يقول ابن كثير، أو تلك السفينة كما يقول ابن جرير، وهذا ليس محل اتفاق بين أهل العلم في عود الضمير، بعضهم يقول: لا يعود إلى السفينة، وإنما لِنَجْعَلَهَا يعني نجعل هذه الأمور المذكورة عبرة، وعظة للمعتبرين، لنجعلها لكم عبرة، وعظة؛ تعتبرون بها، وتستدلون بها على عظيم قدرة الله - تبارك وتعالى -.
هذا السياق إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ الأصل أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، والجارية مؤنث، والضمير جاء مؤنثًا، فرجوعه إلى الجارية سواء قلنا: جنس السفن أو السفينة التي ركبوا فيها هذا أقرب من هذا القول، وهو حمل ذلك على هذه الأمور، وبعضهم يقول: لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ يعني هذه الفعلة التي حصلت وهي إنجاء نوح ﷺ ومن معه من المؤمنين، وإغراق هؤلاء المجرمين، وهذا أقرب ممن جعل ذلك عائدًا إلى الأمور المذكورة قبله يعني هنا إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً يعني هذا الإنجاء والإهلاك تذكرة؛ هذا له وجه، لكن رجوع ذلك إلى السفينة باعتبار أنها أقرب مذكور هو أقرب الأقوال - والله تعالى أعلم -.
هذا الكلام غير صحيح، لا يوجد لها أثر، ولم يدركها أحد، وكل ما ينقل في هذا غير صحيح، هذا لا أساس له.
هذه المعاني كلها متقاربة وترجع إلى شيء واحد، وأصل ذلك يرجع إلى حفظ الشيء، ومنه قيل: الوعاء؛ لأنه يحوي ما في داخله، وما يوضع فيه، وهكذا قال: وَجَمَعَ فَأَوْعَى [سورة المعارج:18] يعني حفظ هذا الذي جمعه، وأمسكه من المال؛ ولهذا أصحاب المعاني كالزجاج، والفراء؛ يفسرونه بالحفظ، فهذا الذي حفظه وعاه، لكن مجرد الحفظ لا يغني عنه فلا بدّ من استيعاب ذلك، لا بدّ من تعقله؛ ولهذا فسروه هنا قال قتادة: "عقلت عن الله فانتفعت"، فحفظه وسيلة - لأن الحفظ يقابله النسيان، فإذا نسيه لم يعقل ذلك - فيبقى ذلك حاضرًا في الأذهان قد عقلته القلوب.
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: " قوله تعالى: إِنَّا لما طَغى المَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَة لنجعلها لكم تذكرة وَتَعيهَا أذن وَاعِيَة قَالَ قَتادَة: "أذن سَمِعت، وعقلت عَن الله مَا سَمِعت"، وَقَالَ الْفراء: "لتحفظها كل أذن، فَتكون عظة لمن يَأْتِي بعدُ"، فالوعي تُوصَف بِهِ الأذن كَمَا يُوصف بِهِ الْقلب، يُقَال: قلب واعٍ، وَأذن وَاعِيَة لما بَين الأذن وَالْقلب من الارتباط، فالعلم يدْخل من الأذن الى الْقلب، فَهِيَ بَابه، وَالرَّسُول الْموصل إليه الْعلمَ، كَمَا أن اللِّسَان رَسُوله الْمُؤَدى عَنهُ، وَمن عرف ارتباط الْجَوَارِح بِالْقَلْبِ علم أن الأذن أحقها أن تُوصَف بالوعي، وأنها إِذا وعت وعي الْقلب"[2].
- رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب قول النبي ﷺ: بعثت أنا والساعة كهاتين برقم (6504)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب قرب الساعة، برقم (2951).
- مفتاح دار السعادة (1/ 125).