السبت 19 / ذو القعدة / 1446 - 17 / مايو 2025
وَمَا لَا تُبْصِرُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"قال الله - تعالى -: فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ۝ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ۝ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ۝ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ۝ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ۝ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الحاقة:38-43].

يقول تعالى مقسمًا لخلقه بما يشاهدونه من آياته في مخلوقاته الدالة على كماله في أسمائه، وصفاته، وما غاب عنهم مما لا يشاهدونه من المغيبات عنهم: إن القرآن كلامه، ووحيه، وتنزيله على عبده، ورسوله الذي اصطفاه لتبليغ الرسالة، وأداء الأمانة فقال تعالى: فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ۝ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ۝ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ يعني محمدًا ﷺ أضافه إليه على معنى التبليغ؛ لأن الرسول من شأنه أن يبلغ عن المرسِل، ولهذا أضافه في سورة التكوير إلى الرسول الملكي: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ۝ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ۝ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [سورة التكوير:19-21] وهذا جبريل ".

قوله - تبارك وتعالى -: فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ "لا" هذه قد مضى الكلام على نظائرها في مثل قوله - تبارك وتعالى -: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [سورة القيامة:1]، لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [سورة البلد:1]، فمن أهل العلم من يقول: إن دخول "لا" هذه في القسم إنما يكون لتقويته - لتقوية القسم - يعني هذا الذي يعبر عنه بعضهم بأنها زائدة إعرابًا، وإن كان لا يليق التعبير بمثل هذا في القرآن، يعني يقال: زائد لكنهم يقصدون إعرابًا، وإلا فالقرآن ليس فيه زيادة؛ لأن الزيادة حشو، والقرآن منزه عن هذا، فيكون ذلك إثباتًا للقسم، وتقوية له، وتأكيدًا، فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ يعني أقسم بما تبصرون، وبعض أهل العلم يقول: إنها على بابها في النفي، ففي بعض المواضع يقولون: إن ذلك يتعلق بمقدر محذوف، لكن هنا مما يقوله من قال: إنها على بابها في النفي؛ إن ذلك لكونه من الوضوح، والجلاء بحيث لا يحتاج إلى قسم، فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ۝ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ۝ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وكون هذه للقسم - والله تعالى أعلم - أقرب، وأنها كنظائرها، وقوله - تبارك وتعالى -: فَلَا أُقْسِمُ يعني أقسم بما تبصرون، وَمَا لَا تُبْصِرُونَ يعني أقسم الله - تبارك وتعالى - بهذا القسم الذي يحوي هذا المعنى الواسع، وهو أوسع قسمٍ في القرآن، فإن قوله: بِمَا تُبْصِرُونَ ۝ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ يدخل فيه كل شيء من عالم الغيب والشهادة، أقسم بهذا القسم العظيم على أن هذا القرآن قول رسول كريم، أضافه إلى الرسول هنا بأي اعتبار؟ "إنه لقول رسول كريم" من هذا الرسول؟، الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا قال: هو محمد ﷺ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وهذا تحتمله الآية، ويحتمل أن يكون المراد جبريل ﷺ، وبهذا قال جمع من السلف كالحسن، ومقاتل، والكلبي، قالوا: الرسول هو الرسول الملائكي جبريل ﷺ، فسروه بالآية الأخرى ما هي؟ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ما صفته؟ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [سورة التكوير:20-21] هذه صفة من؟ صفة جبريل ﷺ فقالوا: هذه الآية تفسرها تلك، فأضاف ذلك إلى الملَك باعتبار أنه مبلغ له، وسواء كان ذلك يقصد به النبي ﷺ، أو يقصد به جبريل؛ فهؤلاء كلهم من المخلوقين، والقرآن كلام الله غير مخلوق، فلفظه ومعناه من الله تكلم به حقيقة، وليس بكلام مخلوق، ولكنه يضاف إلى جبريل أو إلى محمد ﷺ باعتبار أنه المبلغ عن الله - تبارك وتعالى - يقول: وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ [سورة التكوير:22] يعني محمداً ﷺ، والصحبة تقال لأدنى ملابسة، يعني هذه الصحبة التي أضافها إليهم بأي اعتبار؟ باعتبار أنه أرسل إليهم، وهو منهم أي من هؤلاء الذين بعث فيهم، فالصحبة تقال لأدنى ملابسة، قد تكون لصلة وشيجة إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا [سورة التوبة:40]، وقد تكون لغير ذلك، صاحب الجنة الذي ذكر الله خبره في سورة الكهف جاء فيه هذا الوصف وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ [سورة الكهف:35] فاغتر، وأعجب بها، وقال: مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا فالشاهد أنه: قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ [سورة الكهف:37] فالصحبة تقال لأدنى ملابسة، قد تكون بينهما خصومة، ويقال: هذا صاحبك، قد يحضر عند القاضي خصمان فيقول للآخر: هذا صاحبك؛ قد حضر.

وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ [سورة التكوير:22] المقصود به محمد ﷺ بلا إشكال، لكن ما قبله إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ۝ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ هذا لا شك أنه جبريل - عليه الصلاة والسلام -، وكل هذا قد مضى الكلام عليه.

"ثم قال تعالى: وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ يعني محمداً ﷺ، وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [سورة التكوير:23] يعني أن محمدًا قد رأى جبريل على صورته التي خلقه الله عليها، وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [سورة التكوير:24] أي: بمتهم".

وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ [سورة التكوير:25] وهكذا قال هاهنا: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ۝ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ فأضافه الله تارة إلى قول الرسول الملكي، وتارة إلى الرسول البشري؛ لأن كلًّا منهما مبلغ عن الله ما استأمنه عليه من وحيه، وكلامه، ولهذا قال تعالى: تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ".

قوله - تبارك وتعالى -: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ هم تفرقت أقوالهم في النبي ﷺ، فتارة يقولون: مجنون، وتارة يقولون: شاعر، وتارة يقولون: كاهن، فهم في قول مضطرب، ولا يثبتون فيه على شيء، هذا القول كما وصفه الله مختلف؛ لأنه لا حقيقة له وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ بعضهم يقول: إن "ما" هذه زائدة إعرابًا، فالمعنى يكون في وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وهكذا ما بعده من قوله: قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ: أنكم تؤمنون قليلًا، تذكّرون قليلًا، أو زمانًا قليلًا، والقلة هنا بمعنى النفي، والعرب تعبر بمثل هذا وتقصد به النفي قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ۝ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ الكاهن معروف؛ الذي يدعي علم الغيب قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "قوله تعالى: فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ۝ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ۝ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ قال مقاتل: "بما تبصرون من الخلق، وما لا تبصرون منه"، وقال قتادة: "أقسم بالأشياء كلها بما يُبصَر منها، وما لا يبصر"، وقال الكلبي: "تبصرون من شيء، ولا تبصرون من شيء"، وهذا أعم قسم وقع في القرآن، فإنه يعم العلويات، والسفليات، والدنيا، والآخرة، وما يُرى، وما لا يرى، ويدخل في ذلك الملائكة كلهم، والجن، والإنس، والعرش، والكرسي، وكل مخلوق، وكل ذلك من آيات قدرته، وربوبيته، وهو - سبحانه - يصرف الأقسام كما يصرف الآيات، ففي ضمن هذا القسم أن كل ما يُرى، وما لا يرى؛ آية ودليل على صدق رسوله، وأن ما جاء به هو من عند الله، وهو كلامه لا كلام شاعر، ولا مجنون ولا كاهن.

ومن تأمل المخلوقات ما يراه منها وما لا يراه، واعتبر ما جاء به الرسول بها، ونقل فكرته في مجاري الخلق، والأمر؛ ظهر له أن هذا القرآن من عند الله، وأنه كلامه، وهو أصدق الكلام، وأنه حق ثابت كما أن سائر الموجودات ما يُرى منها، وما لا يُرى حق؛ كما قال تعالى: فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ [سورة الذاريات:23] أي: إن كان نطقكم حقيقة - وهو أمر موجود لا تمارون فيه، ولا تشكون - فهكذا ما أخبرتكم به من التوحيد، والمعاد، والنبوة؛ حق، فكأنه سبحانه يقول: إن القرآن حق كما أن ما شاهدوه من الخلق، وما لا يشاهدونه حق موجود، بل لو فكرتم فيما تبصرون، وما لا تبصرون؛ لدلكم ذلك على أن القرآن حق، ويكفي الإنسانَ من جميع ما يبصره، وما لا يبصره بعينه؛ مبدأُ خلقه، ونشأتُه، وما يشاهده"[1].

الآن هو يتكلم على الربط بين المقسم به، والمقسم عليه، وجه المناسبة بينهما.

وقال - رحمه الله -: "وما يشاهده من أحواله ظاهراً، وباطناً؛ ففي ذلك أبين دلالة على وحدانية الرب، وثبوت صفاته، وصدق ما أخبر به رسوله، وما لم يباشر قلبه ذلك حقيقة لم تخالط بشاشة الإيمان قلبه.

ثم ذكر سبحانه المقسم عليه فقال: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وهذا رسوله البشري محمد"[2].

الآن هو يوافق ابن كثير أن الرسول هو محمد ﷺ، وابن جرير يقول: "هو جبريل ".

وقال - رحمه الله -: "وهذا رسوله البشري محمد ﷺ، وفي إضافته إليه باسم الرسالة أبين دليل أنه كلام المرسِل، فمن أنكر أن يكون الله قد تكلم بالقرآن؛ فقد أنكر حقيقة الرسالة، ولو كانت إضافته إليه إضافة إنشاء، وابتداء؛ لم يكن رسولاً، ولناقضَ ذلك إضافته إلى رسوله الملكي في سورة التكوير"[3].

وقال - رحمه الله -: "ثم أخبر سبحانه أنه تنزيل من رب العالمين، وذلك يتضمن أمورًا:

أحدها: أنه - تعالى - فوق خلقه كلهم، وأن القرآن نزل من عنده"[4].

هذا باعتبار أن النزول لا يكون إلا من أعلى إلى أسفل، وهذا دليل على علو الله ، وأن القرآن منزل من الله، والتنزيل في القرآن جاء على ثلاث صور:

الصورة الأولى: إخبار بأن بعض الأشياء أنزلها - تبارك وتعالى - من عنده، هذا لم يرد إلا في القرآن تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ وهذه إحدى الآيات والأمثلة على هذا النوع.

الصورة الثانية: الإخبار بالإنزال مطلقًا وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ [سورة الحديد:25]، ما قال: من السماء ولا غير ذلك.

الصورة الثالثة: تقييد المنزل بقيد لكن ليس منه - تبارك وتعالى - وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء [سورة البقرة:22]، وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [سورة الزمر:6] من الأنعام، من السماء، وهذه الصور الثلاث كلها تدل على أن النزول من أعلى إلى أسفل، نزول حقيقي، إنزال الحديد مثلًا يقولون: أجود أنواع الحديد إنما يؤخذ من أعالي الجبال وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ يقولون: باعتبار أن أصولها أنزلت من السماء، أصول الأنعام، أو باعتبار أن ذكورها تنزو على إناثها فيقع ذلك منها في الأرحام وهو نزول وإنزال، أو باعتبار أن الولد حينما يخرج ينزل منها إلى الأرض، فالنزول حاصل وواقع، المقصود أن كل استعمالات النزول تدل على نزول من أعلى إلى أسفل، لكن تقييد ذلك بأنه من الله هذا لم يرد إلا في القرآن.

قال ابن القيم - رحمه الله -: " والثاني: أنه تكلم به حقيقة لقوله: مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ولو كان غيره هو المتكلم به لكان من ذلك الغير، ونظير هذا قوله: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي [سورة السجدة:13]، ونظيره قوله: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقّ [سورة النحل:102]، وقوله: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [سورة الزمر:1]، وقوله: تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [سورة فصلت:42] وما كان من الله فليس بمخلوق، ....

وتأمل كيف أضافه - سبحانه - إلى الرسول بلفظ القول، وأضافه إلى نفسه بلفظ الكلام في قوله: حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [سورة التوبة:6] فإن الرسول يقول للمرسَل إليه ما أمر بقوله، فيقول: قلت كذا وكذا، وقلت له ما أمرتني أن أقوله كما قال المسيح: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ [سورة المائدة:117]، والمرسِل يقول للرسول: قل لهم كذا وكذا كما قال تعالى: قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ [سورة إبراهيم:31]، وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة الإسراء:53]، قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [سورة النور:30] ونظائره، فإذا بلغ الرسول ذلك صح أن يقال: قال الرسول كذا، وهذا قول الرسول أي: قاله مبلِّغاً، وهذا قوله مبلِّغاً عن مرسِله، ولا يجيء في شيء من ذلك تكلم لهم بكذا وكذا، ولا تكلم الرسول بكذا وكذا، ولا أنه بكلام رسول كريم، ولا في موضع واحد، بل قيل للصديق - وقد تلى آية -: هذا كلامك وكلام صاحبك، فقال: "ليس بكلامي، ولا كلام صاحبي، هذا كلام الله".

الأمر الثالث: ما تضمنه قوله تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أن ربوبيته الكاملة لخلقة تأبى أن يتركهم سدى؛ لا يأمرهم، ولا ينهاهم، ولا يرشدهم إلى ما ينفعهم، ويحذرهم ما يضرهم، بل يتركهم هملاً بمنزلة الأنعام السائمة، فمن زعم ذلك لم يقدر رب العالمين قدره، ونسبه إلى ما لا يليق به - تعالى -: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [سورة المؤمنون:116].

ثم أقام سبحانه البرهان القاطع على صدق رسوله، وأنه لم يتقول عليه فيما قاله، وأنه لو تقول عليه لما أقره، ولعاجله بالإهلاك، فإن كمال علمه، وقدرته، وحكمته؛ تأبى أن يقر من تقول عليه، وافترى عليه، وأضل عباده، واستباح دماء من كذبه، وحريمهم، وأموالهم، وأظهر في الأرض الفساد، والجور، والكذب، وخالف الخلق، فكيف يليق بأحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين وأقدر القادرين؛ أن يقره على ذلك؟ بل كيف يليق به أن يؤيده، وينصره، ويعليه، ويظهره، ويظفره بأهل الحق يسفك دماءهم، ويستبيح أموالهم، وأولادهم، ونساءهم؛ قائلاً: إن الله أمرني بذلك، وأباحه لي؟! بل كيف يليق به أن يصدقه بأنواع التصديق كلها، فيصدقه بإقراره، وبالآيات المستلزمة لصدقه التي دلالتها على التصديق كدلالة التصديق بالقول، وأظهر، ثم يصدقه بأنواعها كلها على اختلافها، فكل آية على انفرادها مصدقة له، ثم يحصل باجتماع تلك الآيات تصديق فوق تصديق كل آية بمفردها، ثم يعجز الخلق عن معارضته، ثم يصدقه بكلامه، وقوله، ثم يقيم الدلالة القاطعة على أن هذا قوله وكلامه، فيشهد له بإقراره، وفعله، وقوله؟!، فمن أعظم المحال، وأبطل الباطل، وأبين البهتان؛ أن يجوز على أحكم الحاكمين، ورب العالمين؛ أن يفعل ذلك بالكاذب المفترى عليه الذي هو شر الخلق على الإطلاق، فمن جوز على الله أن يفعل هذا بشر خلقه، وأكذبهم؛ فما آمن بالله قطعاً، ولا عرف الله، ولا هذا هو رب العالمين، ولا يحسن نسبة ذلك إلى من له مُسْكة من عقل، وحكمة، وحجا، ومن فعل ذلك فقد أزرى بنفسه، ونادى على جهله"[5].

  1. التبيان في أقسام القرآن (ص: 175)
  2. المصدر السابق (ص: 176)
  3. المصدر السابق.
  4. المصدر السابق (ص: 176-177)
  5. التبيان في أقسام القرآن (ص:177-180).