الإثنين 23 / صفر / 1447 - 18 / أغسطس 2025
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلْأَقَاوِيلِ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"قال تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ۝ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ۝ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ۝ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ۝ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ۝ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ ۝ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ۝ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ۝ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [سورة الحاقة:44-52].

يقول تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا أي: محمد ﷺ لو كان كما يزعمون مفتريًا علينا فزاد في الرسالة، أو نقص منها، أو قال شيئاً من عنده فنسبه إلينا وليس كذلك؛ لعاجلناه بالعقوبة؛ ولهذا قال تعالى: لأخذنا منه باليمين قيل: معناه لانتقمنا منه باليمين لأن هذه أشد في البطش".

قوله - تبارك وتعالى -: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ يقول: إنه محمد ﷺ، وفي الموضع الذي قبله أيضًا لما قال: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ قال: هو محمد ﷺ، وذكرنا أن من أهل العلم من قال: إنه جبريل - عليه الصلاة والسلام -، وهنا أيضًا في قوله: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ منهم من قال: إنه جبريل - عليه الصلاة والسلام -، لكن بهذا الموضع كأن الأقرب - والله أعلم - أن المقصود به هو محمد ﷺ، يعني هناك قرينة في الأول يمكن أن يحتج بها من قال: إنه جبريل - عليه الصلاة والسلام - وهي ما في آية التكوير، وهنا قال بهذا السياق: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ۝ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ۝ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فهذا يشعر أن المراد هو النبي ﷺ، ولقائل أن يقول: إن ذلك في الموضعين واحد، فيكون ذلك قرينة على أن الأول أيضًا هو النبي ﷺ، فكأن ذلك - والله أعلم - هو الأقرب إلى نظر إلى السياق، ولا مانع من أن يكون في هذا الموضع يراد به النبي ﷺ، وفي سورة التكوير أنه جبريل - عليه الصلاة والسلام -، فكلاهما مبلغ عن الله - تبارك وتعالى -، يقول: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ التقول هو التكلف، لو تقوَّل يعني لو تكلف ذلك، وجاء به من عند نفسه؛ بمعنى أنه اختلقه، ونسبه إلى الله - تبارك وتعالى -؛ فإن الله لا يقره على هذا؛ ولهذا فإن ما يُستدل به - كما هو معلوم - على صحة نبوة رسول الله ﷺ غير المعجزات أنه يضيف ذلك جميعاً إلى الله، ويقول: هذا كلامه، وهذا وحيه، وهذا أمره، وهذا نهيه، وهذا شرعه، وهو الذي أمرني بقتال الكفار، والمخالفين، ثم الله - تبارك وتعالى - ينصره، ويؤيده، ويبقى على ذلك هذه المدة الطويلة، ثم تكون العاقبة له، هذا لا يكون، ولهذا قال: لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ قيل: معناه لانتقمنا منه باليمين؛ لأنها أشد في البطش، وكما يقول ابن جرير - رحمه الله -: إن ذلك خرج مخرج الإذلال على عادة الناس في الأخذ بيد من يعاقَب، بمعنى لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ أي: بيمينه هو يعني على عادة العرب في أخذ من يريدون معاقبته، وعلى المعنى الأول أن ذلك عبر به؛ لأن اليمين هي الأقوى، وإذا كان ذلك في مكان العقوبة فهذا أشد في البطش، وبعض أهل العلم كأصحاب معاني القرآن فسروا ذلك بالقوة، والقدرة لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ فاليمين تأتي مرادًا بها هذا المعنى، هذا الذي ذهب إليه الفراء، والزجاج، وكذلك المبرد، وابن قتيبة، قالوا: المراد بذلك القوة، والقدرة؛ لكون القوة كامنة في اليمين، فقوة كل شيء في ميامنه، ولهذا يقال لليد الأخرى الشمال يقال لها: يسار من باب التيمن، وفي صفة الله - تبارك وتعالى - قال: وبيده الأخرى[1] ما قال: الشمال، معنى ذلك جاء في رواية عند مسلم لكن تكلم العلماء عليها، فمنهم من قال: إن هذه اللفظة شاذة بيده الأخرى، وكلتا يديه يمين[2] على توجيهات ذكرها أهل العلم هناك، فالشاهد أن قوة كل شيء في ميامنه، ففُسر هذا بالقوة، والقدرة، يعني يؤخذ أخذًا قويًا شديدًا، وهذا المعنى لم يقل به أصحاب المعاني هؤلاء فقط ومعهم ابن قتيبة من أهل السنة كما هو معروف، ولكن نقل عن بعض السلف تفسير اليمين، وهنا ليست هذه من آيات الصفات لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ يقول هنا: لأنها أشد في البطش.

قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: " وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ۝ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ۝ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ۝ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ يقول سبحانه: لو تقول علينا قولاً واحداً من تلقاء نفسه لم نقله، ولم نوحه إليه؛ لما أقررناه، ولأخذنا بيمينه، ثم أهلكناه؛ هذا أحد القولين، قال ابن قتيبة: في هذا قولان:

أحدهما: أن اليمين القوة، والقدرة، وأقام اليمين مقام القوة؛ لأن قوة كل شيء في ميامنه، قلت: وعلى هذا تكون اليمين من صفة الأخذ، وهذا قول ابن عباس في اليمين.

قال: ولأهل اللغة في هذا مذهب آخر، وهذا أن الكلام ورد على ما اعتاده الناس من الأخذ بيد من يعاقَب، وهو قولهم إذا أرادوا عقوبة رجل: خذ بيده، وأكثر ما يقوله السلطان، والحاكم بعد وجوب الحكم، خذ بيده، واسفَع بيده، فكأنه قال: لو كذب علينا في شيء مما بلّغ إليكم عنا لأخذنا بيمينه، ثم عاقبناه بقطع الوتين، وإلى هذا المعنى ذهب الحسن ا.هـ.

فقد أخبر سبحانه أنه لو تقول عليه شيئاً من الأقاويل لما أقره، ولعاجله بالعقوبة، فإنّ كذباً على الله ليس ككذب على غيره، ولا يليق به أن يقر الكاذب عليه فضلاً عن أن ينصره، ويؤيده، ويصدقه.

وقوله: ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ والوتين نياط القلب، وهو عرق يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب إذا انقطع بطلت القوى، ومات صاحبه، هذا قول جميع أهل اللغة، قال ابن قتيبة: ولم يُرد أنا نقطع ذلك العرق بعينه، ولكنه أراد لو كذب علينا لأمتناه، أو قتلناه، فكان كمن قطع وتينه قال: ومثله قوله ﷺ: ما زالت أكلة خيبر تعاودني، وهذا أوانُ قَطعتْ أبْهَري[3]، والأبْهَر عرق يتصل بالقلب فإذا انقطع مات صاحبه، فكأنه قال: فهذا أوان قتَلَني السمُّ، فكنت كمن انقطع أبْهَره.

ثم قال تعالى: فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِين أي: لا يحجزه مني أحد، ولا يمنعه مني"[4].

  1. رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف، برقم (993).
  2. رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم، برقم (1827).
  3. رواه أبو داود في سننه، كتاب الديات، باب فيمن سقى رجلاً سُما أو أطعمه فمات أيقاد منه؟، برقم (4512)، والبيهقي في السنن الكبرى، برقم (19499)، وقال الألباني: حسن صحيح.
  4. التبيان في أقسام القرآن (ص: 183-185).