الأحد 12 / ربيع الآخر / 1447 - 05 / أكتوبر 2025
فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"ثم قال تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ الذي أنزل هذا القرآن العظيم.

آخر تفسير سورة الحاقة، ولله الحمد والمنة".

فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ "فسبح باسم ربك" ابن جرير - رحمه الله - يقول: المعنى بذكر ربك، وتسمية العظيم يعني هذا مثل قوله: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [سورة الأعلى:1] المعنى الذي ذكره ابن جرير يعني سبحه ذاكرًا اسمه العظيم، تقول: سبحان ربي العظيم تذكر هذا الاسم؛ لأن قوله - تبارك وتعالى -: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ سبِّح باسمه يعني سبِّح اللهَ - تبارك وتعالى - ذاكرًا اسمه، فهنا جاء بـ"الباء" سبح باسم، لكن في مثل قوله: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى هل المقصود تنزيه الاسم أي نزِّه اسم ربك الأعلى، أو المقصود تنزيه الرب - تبارك وتعالى - بذكر اسمه؟ النبي ﷺ كان إذا قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال: سبحان ربي الأعلى، فسبَّحَ ربَّه ولم يسبح الاسم، فهذا تفسير من النبي ﷺ لهذا الموضع، فيكون ذلك بمعنى سبِّح ربك ذاكرًا اسمه، فيكون ذكر الاسم مقصودًا.

قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "ثم أخبر سبحانه أن القرآن تذكرة للمتقين، يتذكر به المتقى، فيبصر ما ينفعه فيأتيه، وما يضره فيجتنبه، ويتذكر به أسماء الرب - تعالى -، وصفاته، وأفعاله؛ فيؤمن، ويتذكر به ثوابه، وعقابه، ووعيده، وأمره، ونهيه، وآياته في أوليائه، وأعدائه، ونفسه وما يزكيها، وما يطهرها، ويعليها، وما يدسيها، ويخفيها، ويحقرها، ويذكر به علم المبدأ، والمعاد، والجنة والنار، وعلم الخير والشر، فهو التذكرة على الحقيقة، تذكرة حجة للعالمين، ومنفعة، وهداية للمتعلمين"[1].

يعني هذه الأشياء الداخلة تحت قوله: وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ فهو تذكرة في كل هذه الأشياء.

قال ابن القيم - رحمه الله -: " ثم قال سبحانه: وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ أي: لا يخفون علينا، فسنجازيهم بتكذيبهم.

ثم أخبر سبحانه أن رسوله، وكلامه؛ حسرة على الكافرين إذا عاينوا حقيقة ما أخبر به كان تكذيبهم عليهم من أعظم الحسرات حين لا ينفعهم التحسر، وهكذا كل من كذب بحق، وصدق بباطل، فإنه إذا انكشف له حقيقة ما كذب به، وصدق به؛ كان تكذيبه، وتصديقه؛ حسرة عليه، كمن فرط فيما ينفعه وقت تحصيله حتى إذا اشتدت حاجته إليه، وعاين فوز المحصلين صار تفريطه عليه حسرة.

ثم أخبر سبحانه أن القرآن، والرسول؛ حق اليقين، فقيل: هو من باب إضافة الموصوف إلى صفته أي الحق اليقين، نحو مسجد الجامع، وصلاة الأولى، وهذا موضع يحتاج إلى تحقيق فنقول وبالله التوفيق:

ذكر الله - سبحانه - في كتابه مراتب اليقين وهي ثلاثة: حق اليقين، وعلم اليقين، وعين اليقين كما قال تعالى: كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ۝ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ۝ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ [سورة العاديات:5-7] فهذه ثلاث مراتب لليقين أولها: علمه وهو التصديق التام به بحيث لا يعرض له شك، ولا شبهة تقدح في تصديقه، كعلم اليقين بالجنة مثلاً، وتيقنهم أنها دار المتقين، ومقر المؤمنين، فهذه مرتبة العلم، كيقينهم أن الرسل أخبروا بها عن الله، وتيقنهم صدق المخبر.

المرتبة الثانية: عين اليقين وهي مرتبة الرؤية، والمشاهدة كما قال تعالى: ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ، وبين هذه المرتبة والتي قبلها فرق ما بين العلم والمشاهدة، فاليقين للسمع، وعين اليقين للبصر، وفي المسند للإمام أحمد مرفوعاً: ليس الخبر كالمعاينة[2]"[3].

بمعنى أنه إذا تيقن صدق ما أخبر به النبي ﷺ، وما أخبر به القرآن؛ فهذا علم اليقين، فإذا شاهده شاهد الجنة أو النار فهذا عين اليقين، فإذا دخل في الجنة فهذا حق اليقين، وابن القيم - رحمه الله - في مواضع أخرى مثل لهذا بأمثلة يقول: إذا وُصف لإنسان مثلًا عسل، واستيقن خبر المخبر؛ فهذا علم اليقين، فإذا رآه هذا عين اليقين، فإذا ذاقه فهذا حق اليقين، هذه المراتب الثلاث، وإبراهيم ﷺ لما قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى [سورة البقرة:260] كان قد بلغ الكمال في اليقين، والإيمان، ولكنه أراد أن ينتقل من مرتبة إلى مرتبة أعلى منها في الكمال، والكمال يتفاوت، أراد أن ينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين، بعض أهل العلم كالحافظ ابن القيم - رحمه الله - في بعض كتبه يقول: إن المساحة بين علم اليقين وعين اليقين يقال لها: شك ليس من باب التردد؛ وإنما فقط من باب التسمية، يقول: لهذا قال النبي ﷺ: نحن أحق بالشك من إبراهيم[4]، وإلا فإبراهيم لم يكن شاكًا - عليه الصلاة والسلام - بل كان من أئمة أهل اليقين، أئمة الموقنين.

وقال - رحمه الله -: "فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ وهي جديرة بهذه الخاتمة لما تضمنته من الإخبار عن عظمة الرب - تعالى -، وجلاله، وذكر عظمة ملكه، وجريان حكمه بالعدل على عباده في الدنيا، والآخرة، وذكر عظمته - تعالى - في إرسال رسوله، وإنزال كتابه، وأنه - تعالى - أعظم، وأجل، وأكبر عند أهل سماواته والمؤمنين من عباده من أن يقر كذباً متقوَّلاً عليه، مفترى عليه"[5].

هو يتكلم عن المناسبة مناسبة ختم السورة لموضوعها أو مضمونها، هذا النوع في الكلام على المناسبات لا يكاد يذكر إطلاقًا، المناسبات التي تُذكر هي المناسبة بين فاتحة السورة، وخاتمتها، المناسبة بين الآية والآية، بين الجملة والجملة، والكلمة والكلمة، المناسبة بين السورة والسورة عند القائلين بأن ترتيب السور توقيفي، المناسبة بين المقطع والمقطع، لكن المناسبة بين ختم السورة، ومضمون السورة أو موضوعها هذا لا يكاد يتكلم عنه أحد، فهم يتكلمون عن ختم الآية مناسبة ختم الآية بمضمونها هذا موجود وكثير، يعني مثلًا حينما قال عيسى ﷺ: إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة المائدة:118] ما مناسبة ذكر العزيز الحكيم في هذا المقام مثلًا؟ هذا في الأشياء التي قد تشكل، أما الواضحات فهي أكثر من أن تحصى.

لكن هذا نوع لا يكاد يذكر عند المشتغلين بالمناسبات.

قال - رحمه الله تعالى -: "وأنه - تعالى - أعظم، وأجل، وأكبر عند أهل سماواته، والمؤمنين من عباده؛ من أن يقر كذباً متقولاً عليه، مفترى عليه، يبدل دينه، وينسخ شرائعه، ويقتل عباده، ويخبر عنه بما لا حقيقة له، وهو سبحانه مع ذلك يؤيده، وينصره، ويجيب دعواته، ويأخذ أعداءه، ويرفع قدره، ويعلي ذكره، فهو - سبحانه - العظيم الذي تأبى عظمته أن يفعل ذلك بمن أتى بأقبح أنواع الكذب، والظلم، فسبحان ربنا العظيم، وتعالى عما ينسبه إليه الجاهلون علواً كبيراً"[6].

  1. التبيان في أقسام القرآن (ص: 190).
  2. رواه أحمد في المسند، برقم (1842)، وقال محققوه: "حديث صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5373).
  3. التبيان في أقسام القرآن (ص:190-192).
  4. رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قوله : وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ [الحجر:52]، برقم (3372)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة، برقم (151).
  5. التبيان في أقسام القرآن (ص:193).
  6. التبيان في أقسام القرآن (ص:193).