لاحظ على هذه القراءة - وهي قراءة متواترة - قراءة أبي عمرو والكسائي وَجَاء فِرْعَوْنُ وَمَن قِبَلَهُ قال: يعني ومن عنده ممن في زمانه من أتباعه، يعني جاء بمن معه من الأتباع، والجند، يشهد لهذه القراءة ما جاء من قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب وجاء فرعون ومن معه، وقراءة أبي موسى ومن يلقاه يعني من معه، ومن يلقاه من مكانه، في زمانه؛ جاء بهم، جاء بمن استطاع، أي يحشد، ويجمع من الجموع، فهذه القراءة تدل على هذا المعنى "ومن قِبَله".
القراءة الثانية التي نقرأ بها قراءة الجمهور وَمَن قَبْلَهُ - بفتح القاف - يعني من الأمم لاحظ هذا معنى، وهذا معنى مختلف تمامًا، "ومن قِبَله" يعني من أهل زمانه من أتباعه، وجنده، والمعنى الثاني "ومن قَبْله" من الأمم المكذبة كل هؤلاء جاءوا بالخاطئة، والقراءتان إذا كان لكل قراءة معنى فهما بمنزلة الآيتين، يعني كأنه عندنا الآن آية دلت على أن فرعون جاء بمن استطاع من جنده، وأتباعه، حشد الحشود بمن يقدر عليه، والثانية أنه جاء فرعون، ومن قبله من الأمم المكذبة؛ بجرمهم، وكفرهم، ومحادتهم لله - تبارك وتعالى -، فالقراءتان إذا كان لكل قراءة معنى فهما بمنزلة الآيتين.
ابن كثير حمله على هذا المؤتفكات: الأمم المكذبون، ذهب به إلى معنى الإفك الذي هو أبين الكذب، وأوضح الكذب، ومن قَبله والمؤتفكات قال: الأمم المكذبون بالرسل، وأحسن منه - والله تعالى أعلم - ما قاله عامة أهل العلم - الجمهور -، ومنهم ابن جرير - رحمه الله - من أن المقصود قرى قوم لوط، فإن الله - تبارك وتعالى - ذكر ذلك في مواضع من كتابه تارة بالإفراد "المؤتفكة"، وتارة بالجمع "المؤتفكات"، فبالإفراد باعتبار الجنس هي مجموعة من القرى لقوم لوط، جنس هذه القرى يقال له: المؤتفكة، وبالجمع يقال: المؤتفكات، فتفسر بذلك أولى، وهذا هو الاستعمال المعروف في القرآن وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى [سورة النجم:53].
هنا الخاطئة هذه الأقوال التي نقلها عن هؤلاء السلف - رحمهم الله -: المعصية، والخطايا؛ كل هذا بمعنى واحد، الخاطئة يعني الفعلة الخاطئة، والفرق بين المخطئ والخاطئ أن المخطئ هو الذي يقع على الخطأ من غير قصد، والخاطئ من يقع بقصد، يقع في المعصية بقصد، هنا جاءوا بالخاطئة يعني بالخطايا، المعاصي، بالفعلة الخاطئة.
هذا بالإضافة: فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ يعني عصوا رسله، عصوا رسول ربهم يعني يجاب عن إفراد الرسول هنا بجوابين:
أولًا: أن الرسول مفرد مضاف وهذا يفيد العموم، يعني عصوا رسل ربهم.
ثانياً: أن من كذب برسول فهو مكذب بجميع الرسل، ويكون ذلك في كل قوم مع رسولهم، فمعني فعصوا رسول ربهم أن قوم نوح عصوا رسول ربهم، وهكذا ثمود، وقوم لوط، كل هؤلاء عصوا الرسول الذي أرسل إليهم.
مع أن نوحاً - عليه الصلاة والسلام - هو أول رسول أرسل إلى أهل الأرض فقال: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ لأن من كذب رسولًا فهو مكذب لجميع الرسل.
هنا هذا التفسير أن رابية: "شديدة"، أو أنها عظيمة، شديدة، أليمة، أو أنها مهلكة كل هذا تفسير على المعنى؛ لأن أصل هذه المادة رَبَا والرِّبا كل ذلك يدل على الزيادة، ولذلك تجد من يدققون في مثل هذه الأشياء، ومن ينظرون إلى الألفاظ مثل أصحاب معاني القرآن يفسرون ذلك بما يتفق مع اللفظ، أو يراعون فيه اللفظ، ولهذا نجد أن الزجاج مثلًا يقول: أَخْذَةً رَّابِيَةً تزيد بمعنى أنها تزيد على الأخذات، زائدة، وابن جرير قال: زائدة، شديدة، نامية، ذكر زائدة، ونامية؛ رَبا يربو ربْوة، هذا يربو على كذا أي يزيد، والرِّبا؛ لأنه زيادة من غير وجه مشروع، فالذين فسروها أنها عظيمة، أو أنها شديدة، أو مهلكة؛ كل هذا صحيح، لكن هو ليس من قبيل التفسير على اللفظ، لكن رابية يعني أنها أخذة زائدة، هذه الزائدة هي العظيمة، هي الشديدة، هي المهلكة.