وقال محمد بن إسحاق: جعلت تبتلع تلك الحبال والعصيّ واحدة واحدة حتى ما يُرى بالوادي قليل ولا كثير مما ألقوا، ثم أخذها موسى فإذا هي عصا في يده كما كانت، ووقع السحرة سجداً قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [سورة الأعراف:121-122] لو كان هذا ساحراً ما غلبنا.
وقال القاسم بن أبي بزة: أوحى الله إليه أن ألق عصاك، فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين فاغر فاه، يبتلع حبالهم وعصيهم، فأُلقي السحرة عند ذلك سجداً فما رفعوا رءوسهم حتى رأوا الجنة والنار وثواب أهلهما.
ورد في بعض الآثار عن بعض السلف أنهم رأوا الجنة والنار، لكن مثل هذا حتى لو قيل: له حكم الرفع؛ لأنه لم يؤخذ من الإسرائيليات فإن هذا يكون في حكم المرسل، لكن لو أن ذلك صح فهو يفسر أمراً قد يُتساءل عنه هنا - وهو وراد تماماً - وذلك أن هؤلاء سحرة وهم أسوأ الناس وأظلم الناس نفوساً، وأبعد الناس عن الخير، وهو جاء بكل سحار عليم، وهؤلاء السحرة بهذه المثابة وبهذه المنزلة معناها أنه جاء بأقذر من في مصر وأظلم الناس نفوساً وقلوباًَ وأبعدهم عن الحق والهدى، والعجيب أن التفاصيل التي جاءت بعده في هذه السورة وفي غيرها إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [سورة طـه:73] و إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى جَنَّاتُ عَدْنٍ [سورة طـه:74-76] وتفاصيل من أين عرفوها بهذه اللحظات؟!
أنا كنت أقف دائماً عند مثل هذه الآيات وأقول: ما الذي وقع للسحرة، كيف عرفوا هذه التفاصيل العجيبة، وهم أظلم الناس نفوساً وأبعد الناس عن الخير؟ من أين عرفوا هذه التفاصيل كلها وكيف كان منهم هذا الثبات العظيم؟، ثم إن الله – تبارك وتعالى - عقّب بالفاء في بعض الآيات كقوله: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى [سورة طـه:70] فيدل على المباشرة أي أنهم بمجرد ما رأوا هذا خروا سجداً، وثبتوا هذا الثبات العظيم، وأمام من؟ وهم قبل لحظات كانوا يقولون: أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [سورة الشعراء:41-42] فمن الذي يستطيع أن يكون مقرباً عند فرعون وهم إنما جاءوا لطمع، ولا تسأل عن الآفات والأمراض فكل أمراض الدنيا موجودة في نفوس هؤلاء العتاة من السحرة، من الحسد والتنافس غير الشريف، والتهافت على الدنيا وعلى التوصل إليها بأقذر الأشياء، فهذا معروف، ومع كل ذلك يتحولون مباشرة إلى هذا الثبات العظيم، وهذا الرد البليغ، وهذه التفاصيل في الرد، فكيف عرفوها؟ لو صحّ أنهم رأوا الجنة والنار أو الجنة والثواب فقد يكون هذا جواباً، أي أن هؤلاء لما رأوا الجنة ذكروا هذه الأشياء وحصل لهم هذا الثبات العظيم، فالإنسان قد يرى آية ولا يؤمن، كما حصل لفرعون، فموقفهم لا يقل عن موقف فرعون؛ لأنه في مقام المباراة والمناظرة أو المحاجَّة أو المغالبة يكون للنفوس حضور كبير عند العلماء بالشريعة فضلاً عن السحرة الذين هم أوسخ الناس، فالعلماء في الفقه إذا حصل بينهم تناظر أو نحو ذلك يكون لحظوظ النفس حضور كبير، ولذلك تجد الوجه يحمر، وتجده يحتج بأشياء هو لا يرتضيها أصلاً ولا يرى أنها تصلح متمسكاً في الاحتجاج، ومع ذلك يتمسك بها وربما رد الآية أو الحديث في مقام المناظرة والطيش ونحو ذلك، بل ذكر بعضهم - كابن قدامة والجويني - وجماعة: أنه يصل الأمر إلى أن الرجل يأخذ بلحية صاحبه، وربما قذفه في عرضه وأمه من الغضب أثناء المناظرة وهم علماء! فإذا كان هذا يحصل بين علماء في مقام المناظرة في أمور شرعية، فتصور سحرة جاءوا أمام فرعون وأمام الناس في يوم عيد حيث إن العالَم ذلك اليوم في أجازة وهم جالسون يتفرجون فرأوا هزيمة ساحقة، وليس ذلك فقط بل القضية أن فرعون سيسحقهم حيث سيقول لهم: خذلتموني وسيكون مآلهم القتل حتى لو لم يؤمنوا، والله أعلم.
أضف إلى ذلك أن هؤلاء الناس حينما أتوا ليس لهم صنعة إلا السحر فهل يُتوقع أنه يكون خلال أيام أو شهور ناجحاً في مجالات أخرى كأن يتحول إلى فقيه أو عالم أو نحو ذلك؟ مثل هذا يحتاج أن يبدأ من الصفر في الكتاتيب، ولهذا فإن الشيخ المعلمي اليماني - رحمه الله - في كتاب التنكيل الذي أفرد جزءاً منه فسماه "القائد إلى تصحيح العقائد" ذكر فصلاً في غاية الأهمية في أسباب رد الحق، فقال: "ومنهم من يكون له في الباطل شهرة ومعيشة" أي أن بعض الناس يردون الحق؛ لأن لهم في الباطل شهرة ومعيشة، فالساحر له شهرة وله معيشة فهو يقدّر في باله أنه إذا اتبع الحق وأعلنه فمعنى ذلك أن شهرته والأضواء التي كانت له ستذهب، وستذهب معها الأموال التي يأخذها من الناس وسيصر فقيراً لا يجد له وظيفة إذ ليست عنده مؤهلات.
ومنهم من يقدر أشياء أخرى فيقول مثلاً: إذا أعلنتُ الحق أو اتبعت صاحب الحق فمعنى ذلك أن الحق ظهر على يده وصار له فضل عليَّ فكيف أقر له بهذا إذ كيف يفضل عليّ ويجيء الحق على يده؟، وهذا باب من أبواب الحسد، ثم يقدر أشياء أخرى فيقول: إذا قلت: إن ما مع الآخر هو الحق فمعنى ذلك أني كنت على الباطل طول عمري الذي ذهب حتى شابت مفارقي! وليس ذلك فحسب بل الأهل والعشيرة وقومي كلهم على الباطل، إذاً ما هو الحل؟ الإصرار على هذا الباطل والتمسك به ومكابرة الأدلة وبراهين الحق، وردها ولو كانت أوضح من الشمس!
والمقصود أن هذه الأمور كلها مجتمعة لهؤلاء السحرة ومع ذلك أقروا في لحظة أنهم كانوا على باطل ولم يبالوا بفرعون، ولو كان حصل منهم هذا الرجوع إلى الحق في غياب فرعون لقيل: غيبة فرعون عن مشاهدة الحدث جعلت ذلك أخف وطأة في النفوس وأثراً لكن العجيب أن هذا كله حصل أمامه وهو حاضر بكل ما عنده من إمكانية في الحضور من جنده ووزرائه، فكل هذه الأمور مجتمعة تجعلهم يتمسكون بالباطل ويكابرون موسى ﷺ لكن الذي حدث أنهم في لحظات رجعوا إلى الحق وصاروا أناساً متهذبين فسجدوا لله خاضعين مقرين بالحق.