الجمعة 04 / ذو القعدة / 1446 - 02 / مايو 2025
فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُمَا صَٰلِحًا جَعَلَا لَهُۥ شُرَكَآءَ فِيمَآ ءَاتَىٰهُمَا ۚ فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [سورة الأعراف: 190]
روى ابن جرير عن الحسن  : جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا قال: كان هذا في بعض أهل الملل ولم يكن في آدم.


فالكلام موصول لفظاً مقطوع معنى، فكأنه يتحدث عن قضية واحدة، لكنه في المعنى مفصول، فالكلام الأول - وعليه عامة أهل العلم - في آدم وحواء، وضمير التثنية يدل عليه في قوله:  هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ، فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ كل هذا في آدم وحواء فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا، ذهب كثير من السلف إلى أن المراد به آدم وحواء في قوله: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً، ويذكرون روايات إسرائيلية أنه جاءهما إبليس وطاف بهما، وقال: إنه يكون له قرن أيل ويشق بطنك، فخافت من هذا فأرشدها إلى المخرج من هذا كله، وهو أن تسميه بعبد الحارث، وأن الحارث هو الشيطان، فسموه بعبد الحارث - يعني آدم ﷺ وحواء - والشيطان قد أغواهما من قبل بالأكل من الشجرة، فأُخرجا من الجنة، فنزلا إلى دار الشقاء، وآدم نبي، يوحى إليه، ثم بعد ذلك يقع مرة ثانية في الشرك، هذا شيء لا يمكن أن يعقل ولا يقبل، نبي ويقع في الشرك، ويخدعه الشيطان مرتين، والثانية أشد من الأولى، قالوا: هذا شرك تسمية، وشرك التسمية ما هو بشرك، فسموه بهذا الاسم خوفاً من حصول مشكلة، وهذا الكلام غير صحيح، ولا مقبول ولا يصح إطلاقاً عن النبي ﷺ شيء في هذا، ومثل هذه الروايات لا يعوّل عليها، مع كثرة القائلين بها، لذلك قال الحسن وطائفة: إن هذا الكلام من قبيل الموصول لفظاً المفصول معنى، فيكون أول الآية في آدم وحواء، وهذا الجزء الأخير فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء في بعض أهل الملل، يعني في غير آدم وحواء، هذا فيمن وقع من ذريته من الإشراك، ومن أهل العلم كابن جرير - رحمه الله - من قال: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء أي: آدم وحواء، لكن المفصول عنده في الذرية؛ لأنها جاءت بصيغة الجمع فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ عما وقع من إشراك من أشرك بالله من ذرية آدم ﷺ، فابن جرير - رحمه الله - نظر إلى التثنية في الضمير وأنه متسق مع كل ما قبله ثم جاء بصيغة الجمع، والذين قالوا: هذا كله في آدم وحواء، قالوا: إن هذا من الالتفات، التفت من التثنية إلى الجمع، وقد يعبر عن الاثنين بصيغة الجمع، كما قال الله  : فإن كان له أخوة، ومعلوم أن هذا الحجب - حجب النقصان - يحصل بأخوين، تحجب الأم من الثلث إلى السدس، فالذي يظهر - والله أعلم - أن أول الآية في آدم وحواء، وأن قوله: جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء ليس في آدم وحواء، وقول الحسن هو الأقرب والأحسن - والله أعلم -.

وعنه قال: عنَى بها ذرية آدم ومن أشرك منهم بعده، يعني جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا.
وعن قتادة قال: كان الحسن يقول: هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولاداً فهوّدوا ونصّروا، وهذه أسانيد صحيحة عن الحسن ، أنه فسر الآية بذلك، وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حملت عليه الآية، وأنه ليس المراد بهذا السياق آدم وحواء، وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته، وهو كالاستطراد من ذكر الشخص إلى الجنس، كقوله: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ [سورة الملك:5] الآية، ومعلوم أن المصابيح وهي النجوم التي زينت بها السماء ليست هي التي يرمى بها، وإنما هذا استطراد من شخص المصابيح إلى جنسها، ولهذا نظائر في القرآن، والله أعلم.


قوله: وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ لا يرجم بالمصباح، ولكن يرجم بالشهب.

مرات الإستماع: 0

"مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ يعني آدم زَوْجَها يعني حوّاء."

بعضهم يقول: أي: من جنسها من نفس واحدة وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [الأعراف: 189] يعني من جنسها.

وبعضهم يقول: من هيئة واحدة، وشكل واحد، وليس ذلك آدم خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [الأعراف: 189] يعني هيئة واحدة لكن هذا بعيد، وكأن هؤلاء أرادوا أن يخرجوا من الإشكال الذي قد يستشكلونه في قوله: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ [الأعراف: 190] أن ذلك ليس في آدم وهذا القول أعني المعنى من هيئة واحدة، وشكل واحد، وأنه ليس بآدم هذا غير صحيح، هذا بعيد، وهو خلاف ظاهر القرآن، وما تدل عليه الأدلة الأخرى، فالنفس الواحدة هي آدم، والزوج حواء يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء: 1] فحواء خلقت من آدم، وجعل منها زوجها كما قال تعالى: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا [النحل: 72] يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى [الحجرات: 13] آدم، وحواء.

"لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف: 189] يميل إليها، ويستأنس بها."

يعني يأوي إليها فأصل سكن يدل على خلاف الاضطراب، والحركة وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا [الروم: 21] فما ذكره المؤلف من أنه يميل إليها، ويأنس بها داخل في هذا المعنى، فتسكن نفسه إلى هذه، لا يستوحش لو كانت من غير جنسه لما ألفها، وسكن إليها.

"قوله تعالى: تَغَشَّاها كناية عن الجماع."

أصل المادة يدل على تغطية شيء بشيء، فكأن الرجل حينما يعلو المرأة يكون بهذه المثابة.

 "قوله تعالى: حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا أي: خف عليها، ولم تلق منه ما يلقى بعض الحوامل من حملهنّ من الأذى، والكرب."

يعني هذا باعتبار أن الحمل كان خفيفًا لم تلق منه شدة، والمقصود بذلك أول الحمل؛ لأنه قال بعده: فَلَمَّا أَثْقَلَتْ [الأعراف: 189] وكأن المؤلف هنا يعني أول الحمل لكن بعض النساء في أول الحمل تلقى شدة يعني من مثل الوحم، ونحو هذا.

وقيل: الحمل الخفيف في فرجها، والحمل عمومًا في أوله يكون خفيفًا؛ لكونه في مرحلة النطفة، ومرحلة العلقة، ومرحلة المضغة، ثم يثقل بعد ذلك. 

"وقيل: الحمل الخفيف المني في فرجها.

قوله تعالى: فَمَرَّتْ بِهِ قيل: معناه استمرّت به إلى حين ميلاده، وقيل: معناه قامت، وقعدت."

فَمَرَّتْ بِهِ قيل: استمرت به، وهذا قرأ بها ابن عباس - ا - وهي قراءة غير متواترة مرت أي استمرت، والقراءة متواترة تفسر بالقراءة الأحادية إذا صح سندها مرت أي استمرت بحمله، وهذا مروي عن جماعة من السلف كمجاهد، والحسن، وإبراهيم النخعي، والسدي فَمَرَّتْ بِهِ أي: استمرت بحمله[1].

وهكذا قامت، وقعدت، ولم يثقلها الحمل إلى حين ميلاده، وجاء عن ميمون بن مهران - رحمه الله -: "فَمَرَّتْ بِهِ أي: استخفته"[2].

وجاء عن قتادة: "استبان حملها"[3] وعبارة ابن جرير - رحمه الله -: "استمرت بالماء قامت به، وقعدت"[4].

وفي قراءة شاذة (فمارت به) من المور، وهو المجيئ، والذهاب، هذا معنى الذي قال بأنها قامت، وقعدت، ونحو ذلك.

وهذه القراءة (مارت) مروية عن ابن عمر - ا - وقرئ أيضًا في بعض القراءات (فمرَت) بالتخفيف به، وفسر بمعنى جزعت لذلك، وهذه مروية عن ابن عباس - ا - وعن يحيى بن يعمر مرت، فتفسير ذلك فمرت به يعني استمرت هذا معنى صحيح، وتفسره القراءة الأخرى، أو تؤيده القراءة الأخرى.

وهكذا قول من قال: قامت، وقعدت، ولم يثقلها الحمل، فهذا قامت، وقعدت هذا قد يفسره أيضًا القراءة الأخرى (فمارت به).

ويمكن أن يقال: فمرت به أي استمرت، وقامت، وقعدت، ولم يثقلها حملها، وهذا يقتضي المعنى الآخر المروي عن ميمون يعني استخفته، إذا كانت قامت، وقعدت، وذهبت، وجاءت إلى آخره مع وصفه بالخفيف، فَمَرَّتْ بِهِ أي استخفته، وأقرب هذه المعاني استمرت به، وبعض هذه المعاني قد لا يتنافى معه، والعلم عند الله .

"قوله تعالى: فَلَمَّا أَثْقَلَتْ أي: ثقل حملها، وصارت به ثقيلة.

وقوله تعالى: لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحًا أي: ولدًا صالحًا سالما في بدنه."

صالحًا سالما في بدنه، يعني ليس به عاهة، ونحو ذلك، وفي الإسرائيليات روايات أن الشيطان جاءها، وقال لها: إنه سيكون له قرن أيل، وأنه سيشق بطنك، وما أشبه ذلك، المقصود أنه ليس فيه شيء من ذلك - لكن على كل حال - ولدًا صالحًا سالمًا في بدنه لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحًا وهذا مروي عن جماعة من السلف كابن عباس، وأبي صالح، وسعيد بن جبير، والسدي، ومجاهد[5] وهو الذي اختاره الحافظ ابن كثير[6] ومن المعاصرين الشيخ عبد الرحمن السعدي[7] والشيخ محمد الأمين الشنقيطي[8] أبو جعفر ابن جرير - رحمه الله -[9] عمم المعنى ليشمل صلاح الدين، والعقل، والخلقة، باعتبار أنه أطلق الصلاح، فيصدق على هذه الجهات الثلاث الصلاح في الدين، وكذلك أيضًا في العقل، وفي البدن. 

"قوله تعالى: فَلَمَّا آتاهُما صالِحًا جَعَلا لَهُ شِرَكًا فِيما آتاهُما أي: لما آتاهما ولدًا صالحًا كما طلبا جعل أولادهما له شركاء، فالكلام على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، وكذلك فِيما آتاهُما أي: فيما آتى أولادهما، وذريتهما.

وقيل: إن حواء لما حملت جاءها إبليس، فقال لها: إن أطعتيني، وسميت ما في بطنك عبد الحارث، فسأخلصه لك، وكان اسم إبليس الحارث، وإن عصيتني في ذلك قتلته، فأخبرت بذلك آدم، فقال لها إنه عدوّنا الذي أخرجنا من الجنة، فلما ولدت مات الولد، ثم حملت مرة أخرى، فقال لها إبليس مثل ذلك، فعصته فمات الولد، ثم حملت مرة ثالثة، فسمياه عبد الحارث طمعا في حياته، فقوله: جعلا له شِركًا فيما آتاهما أي: في التسمية لا غير، لا في عبادة غير الله، والقول الأول أصح؛ لثلاثة أوجه:

أحدها: أنه يقتضي براءة آدم، وزوجه من قليل الشرك، وكثيره، وذلك هو حال الأنبياء - عليهم السلام -.

والثاني: أنه يدل على أن الذين أشركوا هم أولاد آدم، وذريته؛ لقوله تعالى: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ بضمير الجمع.

والثالث: أن ما ذكروا من قصة آدم، وتسمية الولد عبد الحارث يفتقر إلى نقل بسند صحيح، وهو غير موجود في تلك القصة.

وقيل: من نفس واحدة قصي بن كلاب، وزوجته، وجعلا له شركاً أي: سموا أولادهما عبد العزى، وعبد الدار، وعبد مناف، وهذا القول بعيد لوجهين:

أحدهما: أن الخطاب على هذا خاص بذرية قصي من قريش، والظاهر أن الخطاب عام لبني آدم.

والآخر: قوله: وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [الأعراف: 189] فإن هذا يصح في حواء؛ لأنها خلقت من ضلع آدم، ولا يصح في زوجة قصي. "

قوله - تبارك، وتعالى -: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا [الأعراف: 190] يقول: لما آتاهما ولدا صالحا كما طلبا جعلا أولادهما له شركاء، يعني أن ذلك في الذرية، يعني الذين جعلوا الشركاء، وأما أول الآية فهو في آدم، وحواء، ومع أن ظاهر اللفظ ظاهر الكلام، وأن ذلك يرجع إلى ما ذكر أولا فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ [الأعراف: 190] فالأصل أن الضمير يرجع اتحاد مرجع الضمائر، وأن توحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها، لكن على هذا يكون المعنى مشكلاً؛ لأن الأنبياء - عليهم السلام - معصومون من الإشراك، والمرويات الإسرائيلية الكثيرة في هذا المعنى ينزه عنها آدم - عليه الصلاة، والسلام - أخرجه إبليس من الجنة، وغرر به، وخدعه، وكذب مع قسمه له، ثم يأتيه مرة ثانية، ويوقعه في أعظم مما أوقعه به أولاً، يعني أول في الجنة أكل من الشجرة، لكن الثاني هنا الإشراك، وإن قالوا بأنه من قبيل الشرك في التسمية، تسميته بعبد الحارث، وهذا لا يجوز، ولا يكون من الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - وهذا لو أنه قيل: لأحد المؤمنين لآحادهم، يعني من أهل الصلاح لكن الموت مقدمًا على مثل هذا، فكيف بنبي يقع في الإشراك من أجل سلامة الولد، ومعلوم حتى في مقتضى مراعاة المصالح، والضرورات، وترتيب ذلك على الطريقة التي تعرفون فالضروريات الخمس أعلاها الدين، ثم النفس، فإذا تعارض هذا، وهذا قدم حفظ الدين على حفظ النفس.

والأنبياء أعلم الناس بهذا، وهذه الضرورات الخمس مما أجمعت عليها الشرائع، فهذا لا شك أنه لا يخلو من إشكال كبير، وعلى كثرة من قال به، ولكن على هذا المعنى الذي ذكره المؤلف - والله تعالى أعلم - يعني أن ذلك في الذرية، وهو كقوله: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا [الأعراف: 190] يعني الذرية هي التي وقع فيها الشرك، وأول الكلام في آدم، وحواء.

يقول فالكلام على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، وكذلك فِيما آتاهُما أي: فيما آتى أولادهما، وذريتهما، والتثنية فِيما آتاهُما كان الحديث عن آدم، وحواء، وهنا الحديث أيضًا قال: فِيما آتاهُما يعني باعتبار أن الذرية ذكر، وأنثى فمرة عبر عنهما بلفظ التثنية؛ لكونهما صنفين، ومرة بلفظ الجمع: فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الأعراف: 190].

يقول: وقيل: إن حواء لما حملت إلى آخره هذا القول فيه الإشكال الذي أشرت إليه، وهو مروي عن جماعة كبيرة من السلف، فهو مروي عن سمرة بن جندب، وابن عباس، وأبي بن كعب، وقتادة، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والسدي[10] واختاره كبير المفسرين أبو جعفر ابن جرير[11] والواحدي[12] والسمعاني[13] وأضافه ابن الجوزي[14] إلى الجمهور هذا القول الذي ذكره بعده أنهما سمياه عبد الحارث؛ طمعًا في حياته، وهذا فيه إشكال كبير، ويقولون: هذا من باب الشرك في التسمية لا غير، وهذا الشرك في التسمية أيضا من الأمور السهلة، وهل يليق هذا بنبي؟ هذا لا يكون من الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - فهم منزهون عن هذا؛ ومبنى هذا القول على مرويات إسرائيلية لا يبنى عليها مثل هذا التفسير - والله أعلم -.

يقول: والقول الأول أصح لثلاثة أوجه، إلى آخر ما ذكر هذا القول الذي قال به هؤلاء من السلف فمن بعدهم كما ترون، واختاره ابن جرير أن المراد آدم، وحواء، بهذا الاعتبار علق عليه ابن كثير - رحمه الله - بقوله: "وقد تلقى هذا الأثر عن ابن عباس جماعة من أصحابه، وذكر طائفة ممن ذكرت، وأن القائلين بذلك ممن بعدهم لا يحصون كثرة يقول، وكأنه - والله أعلم - أصله مأخوذ من أهل الكتاب فإن ابن عباس رواه عن أبي بن كعب كما رواه أبي حاتم[15].

وهذه الآثار يظهر عليها - والله أعلم - أنها من آثار أهل الكتاب، وقد صح الحديث عن رسول الله ﷺ أنه قال: إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم، ولا تكذبوهم"[16].

هذا كلام الحافظ ابن كثير يعني هو يشير إلى أن ذلك لا يبنى عليه مثل هذا المعنى، وحكم صاحب "التفسير الكبير"[17] على هذا القول بأنه أيضًا فاسد من وجوه:

الأول: أن الله قال: فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الأعراف: 190].

يقول فهذا يدل على أن الذين جاؤوا بذلك جماعة، وليسوا باثنين.

الثاني: أنه قال بعده: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الأعراف: 191] وهذا يدل على أن المقصود من هذه الآية الرد على من جعل الأصنام شركاء لله - تبارك، وتعالى - وما جرى لإبليس في هذه الآية ذكر أصلا، ما ذكر.

الثالث: يقول: لو كان المراد إبليس لقال: أيشركون من لا يخلق شيئًا، يعني الذين قالوا: إن المقصود بالإشراك هنا هو طاعة الشيطان في تسميته عبد الحارث، فهنا يرد عليهم يقول: بأنه قال: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا فـ"ما" تستعمل لغير العاقل.

والذين قالوا بالقول الآخر أيضًا لا يعجزون عن الرد على ما ذكر.

يقول: والقول الأول أصح لثلاثة أوجه، القول الأول هو الذي اختاره المؤلف أن ذلك في الذرية، وهذا مروي عن الحسن[18] ورجحه جماعة من المفسرين كصاحب الكشاف[19] والقرطبي[20] والحافظ ابن القيم[21] والحافظ ابن كثير[22] وصاحب التفسير الكبير[23] وكذلك أيضًا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي[24] من المعاصرين، والسعدي[25] وغيرهم، مع أن مقتضى الصناعة كما هو معلوم، والقواعد أنه إذا اختلف المفسرون في معنى الآية يعني كأن أحد الأقوال قال به صحابي، أو جماعة من الصحابة، والقول الآخر ليس كذلك، فيقدم قول الصحابي، إذا تعارض قول الصحابي مع غيره، فالمقدم قول الصحابي، وإن كان ظاهر السياق لا يساعد عليه، هذه القاعدة، فلو أعملناها هنا؛ لكان القول بأنه في آدم، وحواء، لكن كما ذكرت أنه مشكل، والقواعد أغلبية، ولها استثناءات، لكن الاستثناء أيضا مشكل يعني أن يترك القول المروي عن الصحابة، ويعدل عنه إلى قول لغيرهم لمن بعدهم هذا مشكل، لكن يبقى النظر هل ثبت هذا عن هؤلاء الصحابة أصلاً، أو لا؛ لأنه كما تعلمون الأسانيد في التفسير الغالب عليها الضعف؛ ولهذا اختلفت الأقاويل في تفسير هذه الآية حتى بين السلف حتى جاء عن الحسن البصري: "بأن هذا في بعض أهل الملل"[26] يعني ليس في آدم، وحواء من أولها، لكن هذا بعيد؛ لأن الله يقول: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [الأعراف: 189].

وجاء في رواية عن الحسن: "أنه عنى به ذرية آدم، ومن أشرك منهم بعده"[27] وفي رواية أيضًا: "هم اليهود، والنصارى رزقهم الله أولادًا، فهودوا، ونصروا"[28] وذكر الحافظ ابن كثير أن هذه الأسانيد صحيحة عن الحسن يقول: "وهو من أحسن التفاسير، وأولى ما حملت الآية عليه"[29].

فابن كثير - رحمه الله - يرى أن قوله: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا [الأعراف: 190] كالاستطراد من ذكر الشخص إلى الجنس، يعني في البداية كان الحديث عن آدم، وحواء، ثم استطرد فذكر الجنس الذي هو جنس الآدميين، أو الذرية، فكان الواقع من الذرية هو هذا الإشراك، وليس الإشراك في التسمية فقط بل الإشراك مع الله في العبادة، والأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - جاءوا للدعوة إلى التوحيد، ومحاربة الشرك حتى إن النبي ﷺ كان يغير الأسماء، فكيف يقع منهم مثل هذا؟! وكيف يخدع آدم - عليه الصلاة، والسلام - مرتين؟! والنبي ﷺ يقول: لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين[30] الإنسان يقدر لآحاد المؤمنين أنه لو جاءه الشيطان، وقال له مثل هذا لأعرض عنه غاية الإعراض، ونفر غاية النفرة، وفضل الموت على ذلك، وذكر وجوه الترجيح القول أن ذلك في الذرية، وكلامه، وما أجاب به من على قول من قال بأنه قصي بن كلاب لا شك أن هذا في غاية البعد، ولا يستحق أيضًا أن يذكر، وذكر وجوه استبعاد ذلك.

  1.  تفسير ابن كثير (3/525).
  2.  المصدر السابق.
  3.  انظر: تفسير الطبري (10/618) وتفسير ابن كثير (3/525).
  4.  تفسير الطبري (10/618).
  5.  تفسير ابن كثير (3/525).
  6.  المصدر السابق.
  7.  تفسير السعدي (ص: 312).
  8.  العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (4/414).
  9.  تفسير الطبري (10/622).
  10. انظر: تفسير الطبري (10/623 - 627) وتفسير ابن كثير (3/528).
  11.  تفسير الطبري (10/629 - 630).
  12.  التفسير الوسيط للواحدي (2/435) والوجيز للواحدي (ص: 426).
  13.  تفسير السمعاني (2/239).
  14.  زاد المسير في علم التفسير (2/178).
  15.  تفسير ابن كثير (3/528).
  16.  أخرجه أبو داود، كتاب العلم، باب رواية حديث أهل الكتاب، برقم (3644) وأحمد في المسند، برقم (17225) وقال محققوه: "إسناده حسن" والسيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (6/469) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم (5052).
  17.  انظر: تفسير الرازي (مفاتيح الغيب، أو التفسير الكبير) (15/427).
  18.  انظر: تفسير الطبري (10/629) وتفسير ابن كثير (3/526).
  19.  تفسير الزمخشري (2/188).
  20.  تفسير القرطبي (7/341).
  21.  روضة المحبين، ونزهة المشتاقين (ص: 289).
  22.  تفسير ابن كثير (3/529).
  23.  تفسير الرازي (15/427).
  24. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (2/47).
  25.  تفسير السعدي (ص: 312).
  26.  تفسير الطبري (10/629) وتفسير ابن كثير (3/526).
  27. نفس المصادر السابقة
  28.  تفسير الطبري (10/629).
  29.  تفسير ابن كثير (3/527).
  30. أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، برقم (6133) ومسلم، كتاب الزهد، والرقائق، باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، برقم (2998).