الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
وَٱلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ ۚ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَٰزِينُهُۥ فَأُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۝ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُون [سورة الأعراف:8-9].
يقول تعالى: وَالْوَزْنُ أي: للأعمال يوم القيامة الْحَقُّ أي: لا يظلم تعالى أحداً، كقوله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [سورة الأنبياء:47] وقال تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [سورة النساء:40] وقال تعالى: فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ۝ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ۝ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ۝ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ۝ نَارٌ حَامِيَةٌ [سورة القارعة:5-11] وقال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ ۝ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۝ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [سورة المؤمنون:101-103].
فصل:
والذي يوضع في الميزان يوم القيامة قيل: الأعمال وإن كانت أعراضاً إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساماً، قال البغوي: يروى نحو هذا عن ابن عباس - ا - كما جاء في الصحيح من أن البقرة وآل عمران يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صوافّ[1].

فقوله - تبارك وتعالى - : فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [سورة الأعراف:8] فسره بعض السلف بالحسنات، أي: فمن ثقلت حسناته، وبعضهم يقول: فمن ثقلت موازينه أي ما يوضع في الموازين فيرجح بالميزان، وهذا بمعنى القول الأول في الواقع - فهو من اختلاف التنوع - أي: هي الحسنات.
وبعضهم يقول: فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [سورة الأعراف:8] أي: رجحت كفة على كفة، فهو ميزان حقيقي له كفتان، وهذا أيضاً لا ينافي ما قبله، فإذا وضعت الحسنات والأعمال الصالحة وكانت مرجحة لإحدى الكفتين فإن العبد يكون ناجياً.
ولا شك أن الأعمال توضع في ميزان حقيقي له كفتان، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم من السلف وهو الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله - عند تفسير هذه الآية، والمسألة معروفة في كتب العقائد، وقد دلت الأدلة على أن هذا الميزان ميزانٌ حقيقي، فقد جاء في الحديث: ما وضع في الميزان شيء أثقل من حسن الخلق[2] وجاء في الحديث أيضاً: يؤتى يوم القيامة بالرجل السمين فلا يزن عند الله جناح بعوضة[3].
وجاء كذلك حديث السجلات المليء بالأعمال السيئة المشهور بحديث البطاقة، حيث توضع في كفة الحسنات تلك البطاقة المكتوبٌ عليها "لا إله إلا الله" فترجح، وتطيش الكفة التي فيها السجلات التي دونت فيها تلك السيئات.
والمقصود أن الميزان هو ميزان حقيقي توضع فيه الأعمال، وأما قول من قال: إن الله لا حاجة به إلى ذلك، وإنما يزن من لا يعرف مقادير الأشياء على حقيقتها، فهذا قولٌ معارضٌ للنصوص؛ فالله - تبارك وتعالى - لا شك أنه قد أحصى كل شيء عداً وقدراً، ولكن من كمال عدله ومن حكمته البالغة أن جعل الأعمال توزن بالميزان، كما جعل الإنسان ناطقاً شاهداً على نفسه بما عمل مع أن الله قد أحصى عمله، كما جعل أيضاً الأرض شاهدةً عليه، وجعل الجوارح والجلود تشهد على أصحابها، فالله - تبارك وتعالى - حكمٌ عدلٌ حكيم، يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه، لكن مثل هذه الأمور إذا ثبتت عن الشارع فإنه يجب التسليم لها دون معارضتها بالعقول، مع أن ذلك لا ينافي مقتضى العقول بل هو موافقٌ لها غاية الموافقة.
ويبقى النظر في الشيء الذي يوضع في الميزان هل هي الحسنات والسيئات؟ أم هي السجلات التي تكتب بها الأعمال كما في حديث البطاقة، أم أن الذي يوزن هم الناس للحديث الذي سبق: يؤتى يوم القيامة بالرجل السمين فلا يزن عند الله جناح بعوضة ؟[4].
إذا جمعت النصوص وحكمت بمقتضاها قلت: إن ذلك كله واقع؛ لأنه ثابتٌ عن رسول الله ﷺ فالإنسان يوضع في الميزان، وسجلات الأعمال توضع في الميزان، وتوضع في هذا الميزان الحسنات والسيئات، والله تعالى أعلم.
ومن ذلك في الصحيح: قصة القرآن وأنه يأتي صاحبه في صورة شاب شاحب اللون فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا القرآن الذي أسهرت ليلك وأظمأت نهارك[5].

أورد - رحمه الله - هذا الحديث ليرد على من يقول: إن الأعمال - الحسنات والسيئات - أعراض وليست جواهر؛ وهذه من عبارات أهل المنطق حيث يقولون: الإنسان جوهر، والضحك عرض، والكلام عرض، والسرور والانشراح عرض، والحزن عرض، والخوف عرض، فهذه الأشياء ليست متشخصةً في الخارج فهم يسمونها أعراض.
ويقولون: الفرس جوهر، والمسجد جوهر، واللذة عرض، وهكذا، ومن هنا فهم يقولون: إن الأعمال أعراض، والأشخاص الذين يعملون جواهر، والأعراض لا توزن، هكذا زعموا، وهذا الكلام غير صحيح؛ لأنه ثبت في الحديث أن القرآن يأتي يحاجّ عن صاحبه بصورة معينة، وثبت أن البقرة وآل عمران تأتيان كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف، والله على كل شيء قدير، لا يعجزه أن يزن الأعراض ولا يعجزه أن يقلب الأعراض إلى جواهر، ومثل هذه الفلسفات إنما نشأت عن أهل الكلام ومَن شابههم ووافقهم فهم يعترضون على النصوص بمثل هذه الآراء والأفكار التي أنتجتها عقولهم والله المستعان.
ومن ذلك في الصحيح: قصة القرآن وأنه يأتي صاحبه في صورة شاب شاحب اللون فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا القرآن الذي أسهرت ليلك وأظمأت نهارك[6].
وفي حديث البراء في قصة سؤال القبر: فيأتي المؤمنَ شابٌّ حسن اللون طيب الريح فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق[7].
وقيل يوزن كتاب الأعمال كما جاء في حديث البطاقة في الرجل الذي يؤتى به ويوضع له في كفة تسعة وتسعون سجلاً كل سجل مدّ البصر ثم يؤتى بتلك البطاقة فيها "لا إله إلا الله" فيقول: يا رب وما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول الله تعالى: إنك لا تظلم، فتوضع تلك البطاقة في كفة الميزان، قال رسول الله  ﷺ: فطاشت السجلات وثقلت البطاقة[8] رواه الترمذي بنحو من هذا وصححه.
وقيل يوزن صاحب العمل كما في الحديث: يؤتى يوم القيامة بالرجل السمين فلا يزن عند الله جناح بعوضة[9] ثم قرأ: فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [سورة الكهف:105].
وفي مناقب عبد الله بن مسعود أن النبي ﷺ قال: أتعجبون من دقة ساقيه، والذي نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من أحد[10].
وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار بأن يكون ذلك كله صحيحاً، فتارةً توزن الأعمال وتارة توزن محالها، وتارة يوزن فاعلها، والله أعلم.

هذا هو الجمع الصحيح وهو الذي قرره الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - وهو قول عامة المحققين، وهو الحكم بمقتضى هذه النصوص جميعاً فلا يرد شيء، وهذا من كمال عدل الله .
قال تعالى: فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۝ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ [سورة الأعراف:8-9] أي: من رجحت حسناته على سيئاته فهذا هو المفلح الذي ينجو عند الله ، والفلاح هو إدراك المطلوب، والنجاة من المرهوب، والعبرة برجحان الحسنات على السيئات، فهو بحسب ما غلب عليه.
ومن رجحت سيئاته على حسناته فإنه يكون تحت مشيئة الله إن كان محققاً للإيمان الواجب، فالله - تبارك وتعالى - يغفر له إن شاء، وقد لا يدخل النار بشفاعة، وقد يدخل النار ثم يخرج منها بعد ذلك بشفاعة أو برحمة أرحم الراحمين، وأما من لم يحقق الإيمان الواجب ممن وقع في الشرك الأكبر أو نحو ذلك فإن هؤلاء يدخلون النار ولا يخرجون منها أبداً.
ومن تساوت حسناتهم وسيئاتهم فكثيرٌ من أهل العلم قالوا إن هؤلاء هم أصحاب الأعراف الذين يوقفون كما سيأتي في قوله - تبارك وتعالى - : وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ [سورة الأعراف:46] مع أن الآية فيها أقوالٌ غير هذا، فالله تعالى أعلم.
يقول تعالى: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ [سورة الأعراف:9] في قوله: بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ الباء للسببية، أي بسبب ظلمهم لآيات الله وهذا الظلم يكون بالتكذيب والرد والمعارضة وما أشبه ذلك، فهذه الآية يؤخذ من عمومها أن الكفار توزن أعمالهم أيضاً، أي أن الوزن ليس لأهل الإيمان فقط بل حتى الكفار توضع أعمالهم في الميزان، وليس لهم حسنات عند الله ؛ لأنه يعجل لهم ذلك في الدنيا حتى إذا جاءوا عند الله جاءوا ليس لهم حسنة، لكن عموم هذه الآية في ظاهرها يدخل فيه الكفار بهذه الصفة أي أنهم خسروا أنفسهم بظلمهم بآيات الله - تبارك وتعالى - ثم بعد ذلك تنشر الصحف وتوزع الكتب على أصحابها فآخذٌ كتابه بشماله وآخذٌ كتابه بيمينه.
  1. أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها -باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة (804) (ج 1 / ص 553).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الأدب (270) (ج 1 / ص 103) والترمذي في كتاب البر والصلة عن رسول الله ﷺ باب ما جاء في حسن الخلق (2003) (ج 4 / ص 363) وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (ج 1 / ص 122).
  3.  أخرجه البخاري في كتاب التفسير – باب تفسير سورة الكهف (4452) (ج 4 / ص 1759) ومسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (2785) (ج 4 / ص 2147).
  4. المصدر السابق.
  5. أخرجه ابن ماجه في كتاب الأدب - باب ثواب القرآن (3781) (ج 2 / ص 1242) وأحمد (23026) (ج 5 / ص 352) وقال شعيب الأرنؤوط: " إسناده حسن في المتابعات والشواهد ".
  6. سبق تخريجه.
  7. أخرجه أحمد (18557) (ج 4 / ص 287).
  8. أخرجه الترمذي في كتاب الإيمان -باب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله (2639) (ج 5 / ص 24) وابن ماجه في كتاب الزهد    -باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة (4300) (ج 2 / ص 1437).
  9. سبق تخريجه.
  10. أخرجه البزار (ج 1 / ص 294) والطبراني في الكبير (8473) (ج 9 / ص 78).

مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: وَالْوَزْنُ يعني وزن الأعمال."

كما قال الله : وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء: 47] وَالْوَزْنُ يَوْمئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 8] هذه القرينة التي فسر بها - والله أعلم - بأن الوزن أي وزن الأعمال، وإلا فالوزن يكون للأعمال، ويكون للسجلات، ويكون أيضًا للعاملين.

فوزن الأعمال كما جاء عن النبي ﷺ في بعض الأعمال أنها أثقل في الميزان من كذا، وكذا.

وكذلك وزن العاملين، قال ﷺ: إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال: اقرءوا فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف: 105] [1].

وكذلك قال في ساقين ابن مسعود  وكانت دقيقة، فقال: والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أحد [2].

فالعاملون يوزنون، وكذلك الصحف حديث البطاقة[3] والسجلات، فكل ذلك يوزن وَالْوَزْنُ يَوْمئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 8].

"قوله تعالى: يَوْمئِذٍ أي: يوم يسأل الرسل، وأممهم، وهو يوم القيامة." 
  1. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [الكهف: 105] الآية، رقم: (4729) ومسلم، كتاب صفة القيامة، والجنة، والنار، (2785).
  2. أخرجه أحمد، رقم: (3991).
  3. أخرجه الترمذي، أبواب الإيمان عن رسول الله ﷺ باب ما جاء فيمن يموت، وهو يشهد أن لا إله إلا الله، رقم: (2639) وابن ماجه، أبواب الزهد، باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة، رقم: (4300).