الأربعاء 23 / ذو القعدة / 1446 - 21 / مايو 2025
وَقَالَ ٱلْمَلَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ مِن قَوْمِهِۦ لَئِنِ ٱتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَٰسِرُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ ۝ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ۝ الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ [سورة الأعراف:90-92].
يخبر تعلى عن شدة كفرهم وتمردهم وعتوهم وما هم فيه من الضلال، وما جبلت عليه قلوبهم من المخالفة للحق، ولهذا أقسموا وقالوا: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ [سورة الأعراف:90] فلهذا عقَّبه بقوله: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ [سورة الأعراف:91].
أخبر تعالى هنا أنهم أخذتهم الرجفة وذلك كما أرجفوا شعيباً وأصحابه وتوعدوهم بالجلاء، كما أخبر عنهم في سورة هود فقال: وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ [سورة هود:94].
والمناسبة هناك - والله أعلم - أنهم لما تهكموا به في قولهم: أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ الآية [سورة هود:87] فجاءت الصيحة فأسكتتهم.
وقال تعالى إخباراً عنهم في سورة الشعراء: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [سورة الشعراء:189]؛ وما ذاك إلا لأنهم قالوا له في سياق القصة: فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء الآية [سورة الشعراء:187] فأخبر أنه أصابهم عذاب يوم الظلة، وقد اجتمع عليهم ذلك كله فأخذهم عذاب يوم الظلة، وهي سحابة أظلتهم فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم، ثم جاءتهم صيحة من السماء ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم فزهقت الأرواح وفاضت النفوس وخمدت الأجسام.


هذا جمع لما ورد في الآيات التي تذكر عقوبتهم، حيث قال الله هنا: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ [سورة الأعراف:91] وقال في سورة هود: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ [سورة هود:94] أي صاح بهم الملك ورجفت بهم الأرض، والله تعالى أعلم.
وبالنسبة لقوله: عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ [سورة الشعراء:189] من أهل العلم من يقول: إن شعيباً ﷺأرسل إلى قوم وقع لهم ذلك العذاب جميعاً، ومن ذلك أنهم أصابهم حر شديد ثم رأوا سحابة فذهبوا يستظلون تحتها، فوقع لهم العذاب يوم الظلة، فهو في قوم معينين.
ومن أهل العلم من يقول: إنه أرسل إلى طائفتين: هذه الطائفة التي أخذتهم الصيحة والرجفة، وطائفة أخذهم العذاب، أي ذلك الذي وقع لهم بما وصفه الله بقوله: عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ [سورة الشعراء:189] والإمام الشنقيطي - رحمه الله - له كلام في هذا.

يقول – رحمه الله - : وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف مشهور عند العلماء وطلبة العلم، وهو أن الله في هذه الآية الكريمة من سورة الأعراف بيّن أن الذي أهلك الله به قوم شعيب رجفة، حيث قال: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ [سورة الأعراف:91] جاثمين أي: موتى. وكل واحد منهم منكب على وجهه لا روح في جسده، والجاثم الذي يلزم محلاً واحداً لربما كان على وجهه كما هو معروف، ومنه قول زهير في معلقته:
بها العينُ والآرامُ يمشينَ خِلْفةً وأطلاؤها ينهضنَ من كل مَجْثَمِ
المَجْثم: مكان الجثوم، وهو المكان الذي كان فيه منكباً على وجهه غالباً.
وهنا قال: إن سبب إهلاكهم بالرجفة، وصرَّح بسورة هود بأن سبب إهلاكهم صيحة، حيث قال: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ [سورة هود:94].
وصرح في سورة الشعراء أن قوم شعيب أصحاب الظلة كان عذابهم في ظلة، المذكور في قوله: فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [سورة الشعراء:189]، تارة يعبّر عن سبب إهلاكهم بالرجفة، وتارة بالصيحة، وتارة بالظلة، فهذا هو وجه السؤال المعروف في هذه الآيات.
وحاصل الجواب: أن العلماء اختلفوا كما قدمنا، هل شعيب أرسل إلى أمة واحدة أو أرسل إلى أمتين؟ وكان قتادة - رحمه الله - في طائفة من العلماء يقولون: أرسل شعيب إلى أمتين، أرسل إلى مدين فأهلكم الله بالصيحة، وأرسل إلى أصحاب الأيكة بعد أن هلك أصحاب مدين فأهلكم الله بالظلة، وهذا القول قال به بعض العلماء، واستدلوا باختلاف نوع العذاب، وفي أن الله قال في أهل مدين: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا [سورة الأعراف:85] ولم يقل في أصحاب الأيكة أخاهم، وأكثر العلماء على أن أهل مدين هم أهل الأيكة، وأنها أمة واحدة، وأنهم نسبوا إلى جدهم مدين بن إبراهيم، وأنه كانت لهم أيكة غيضة ملتفة من الشجر يعبدونها، وبعض المؤرخين يقول: كانت أيكتهم من شجر الدوم، والله تعالى أعلم.
الجواب عن هذا هو ما قال به غير واحد، وممن ألمّ به ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره، أن كل ذلك وقع لقوم شعيب، وأن أصحاب مدين هم أصحاب الأيكة، والاسم مختلف فيهما والمسمى واحد.


قوله: "ألمَّ به" يعني تعرض له.

قالوا: لما أراد الله أن يهلكهم صاح بهم الملك صيحة شديدة ولهذا قيل: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ [سورة هود:94] فلما صاح الملك اهتزت الأرض بهم هزاً عنيفاً، ورجفت بهم رجفة قوية، فصار هو معنى قوله: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ [سورة الأعراف:91] ثم إن الله أضرم عليهم الظلة ناراً فاحترقوا، فاجتمعت لهم الصيحة من أعلى، والرجفة من أسفل، وأحرقهم الله، واجتمع لهم ذلك كله، والعياذ بالله تعالى.
قال بعض العلماء: وممن ذكره ابن كثير: أنهم كان لهم كاهنان أحدهما يسمى: سُميراً والثاني يسمى: عمران بن شداد، وأن رجلاً منهم يقال له: عمر بن جلهاء نظر إلى الأيكة ورأى فيها العذاب، فأطلعه الله عليه، وأنه كان يقول لهم أبياته المعروفة، يقول لهم:
يا قوم إن شعيباً مرسل فذروا عنكم سُميراً وعمران بن شداد
إني أرى غَبْية يا قوم قد طلعت  تدعو بصوت على صَمّانة الوادي
وإنكم لن تروا فيها ضحى غدٍ إلا الرقيم يمشي بين أنجاد
والرقيم كلبهم، يقول: في ضحى غد لن يُرى إلا الكلب وحده يمشي؛ لكونهم قد أبادهم الله.
وزعم جماعة من المؤرخين: أن أبْجد وهوّز وحُطِّي وكَلَمُن وسَعْفص وقَرْشت، أنها أسماء ملوك مدين الذين أرسل إليهم شعيب، وأن وقت إهلاكهم كان في ذلك الوقت ملك مدين المسمى كلمن، وأنه لما أهلكه الله قالت ابنته - وبعضهم يقول: أخته - تبكيه:
كَلَمُن قدَّ هد ركني هلكه وسط المحلة
سيد القوم أتاه المحلة حتف ناراً وسط ظُلة
جُعلت ناراً عليهم دارهم كالمُضْمَحِلّة
وعلى كل حال فقد أهلكهم الله ودمرهم بالرجفة والصيحة والإحراق بعذاب يوم الظلة.
وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ [سورة الأعراف:90] أخبر تعالى هنا أنهم أخذتهم الرجفة وذلك كما أرجفوا شعيباً وأصحابه وتوعدوهم بالجلاء كما أخبر عنهم في سورة هود فقال: وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ [سورة هود:94].