الخميس 24 / ذو القعدة / 1446 - 22 / مايو 2025
ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱلسَّيِّئَةِ ٱلْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوا۟ وَّقَالُوا۟ قَدْ مَسَّ ءَابَآءَنَا ٱلضَّرَّآءُ وَٱلسَّرَّآءُ فَأَخَذْنَٰهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ۝ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ [سورة الأعراف:94-95].
يقول تعالى مخبراً عما اختبر به الأمم الماضية الذين أرسل إليهم الأنبياء بالبأساء والضراء، يعني بالبأساء ما يصيبهم في أبدانهم من أمراض وأسقام، والضراء ما يصيبهم من فقر وحاجة ونحو ذلك.
لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ أي: يدْعون ويخشعون ويبتهلون إلى الله تعالى في كشف ما نزل بهم، وتقدير الكلام أنه ابتلاهم بالشدَّة ليتضرعوا فما فعلوا شيئاً من الذي أراد منهم، فقلب عليهم الحال إلى الرخاء ليختبرهم فيه، ولهذا قال: ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ [سورة الأعراف:95] أي: حوَّلنا الحالة من شدة إلى رخاء، ومن مرض وسقم إلى صحة وعافية، ومن فقر إلى غنىً؛ ليشكروا على ذلك فما فعلوا.
وقوله: حَتَّى عَفَواْ أي: كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم، يقال: عفا الشيء إذا كثر.
وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ [سورة الأعراف:95].
يقول تعالى: ابتليناهم بهذا وهذا؛ ليتضرعوا وينيبوا إلى الله فما نَجَع فيهم لا هذا ولا هذا ولا انتهوا بهذا ولا بهذا، بل قالوا: قد مسَّنا من البأساء والضراء، ثم بعده من الرخاء مثل ما أصاب آباءنا في قديم الزمان والدهر، وإنما هو الدهر تارات وتارات، بل لم يتفطنوا لأمر الله فيهم ولا استشعروا ابتلاء الله لهم في الحالين، وهذا بخلاف حال المؤمنين الذين يشكرون الله على السراء ويصبرون على الضراء، كما ثبت في الصحيح: عجباً للمؤمن لا يقضي الله له قضاءً إلا كان خيراً له، إن أصابته ضراءُ صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراءُ شكر فكان خيراً له[1] فالمؤمن من يتفطن لما ابتلاه الله به من الضراء والسراء، ولهذا عقب هذه الصفة بقوله: فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ [سورة الأعراف:95] أي: أخذناهم بالعقوبة بغتة أي: على بغتة وعدم شعور منهم، أي: أخذناهم فجأة كما في الحديث: موت الفجأة رحمة للمؤمن، وأخذة أسف للكافر[2].

فيقول الله - تبارك وتعالى - : ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ [سورة الأعراف:95] لفظة "عفوا" من الأضداد فتأتي بالمعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وهو المراد بقوله: حَتَّى عَفَواْ أي: كثرت أموالهم وكثروا وحصل لهم الرخاء والقوة بعد الضعف، وما أشبه ذلك.
وتأتي "عفا" بضد هذا المعنى، أي بمعنى ذهب واندرس، تقول: عفت آثارهم أي: اندرست، وعفت ديارهم إذا ذهبت وتلاشت.
وهؤلاء الأقوام قلّبهم الله بين هذا وهذا، فقالوا: هذه أمور لا علاقة لها بالأعمال، وإنما تحصل للناس جيلاً بعد جيل، فالدهرُ قُلَّب، ولا علاقة لهذا الأمر بإيمان أو كفر وطاعة أومعصية، وهذا ما يقوله أكثر الخلق اليوم من الأمم المكذبة الكافرة، بل إنهم يعاقِبُون من أضاف تلك المَثُلات والعقوبات التي تنزل هنا وهناك إلى أعمال الناس، وأنه بسبب جرمهم وكفرهم وعتوهم على الله ، ويتندرون بهذا ويتهكمون به، والله المستعان.
فالحاصل أن هؤلاء يقولون: هذا كله وقع لآبائنا وما حصل لهم ليس بعذاب وإنما هي أمور تعرض للخلق لا تتعلق بأعمالهم.
  1. أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق - باب المؤمن أمره كله خير (2999) (ج 4 / ص 2295) ولفظه: عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له.
  2. أخرجه أحمد (25086) (ج 6 / ص 136) ولفظه: راحة للمؤمن وأخذة أسف للفاجر وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم ( 5896).

مرات الإستماع: 0

"بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ [الأعراف: 95] أي: أبدلنا البأساء، والضراء بالنعيم، اختبارًا لهم في الحالتين".

يُقلِّبهم بين هذا، وهذا.

"قوله تعالى: حَتَّى عَفَوْا [الأعراف: 95] أي: كثروا، ونموا في أنفسهم، وأموالهم".

هذا اللفظ من الأضداد، يقال: عفا بمعنى كثُر، وبمعنى اندرس، والمراد به هنا حَتَّى عَفَوْا يعني: كثروا، ونموا في أنفسهم، وأموالهم، كثرت أموالهم، وكثر نسلهم، وهذا ابتلاء من الله - تبارك، وتعالى - كما قال الله : وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35].

"قوله تعالى: وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ [الأعراف: 95] أي: قد جرى ذلك لآبائنا، ولم يضرهم، فهو بالاتفاق لا بقصد الاختبار".

المس أصله: لجسِّ الشيء باليد، والمراد قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا أي: أصاب آباءنا، فيُقَال لكل ما ينال الإنسان من أذى: مس، وقولهم هنا فيما قص الله من خبرهم، وحكى من مقالهم: قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فالضراء: عرفنا أنها الضُر بما يقع من الشدة، والسراء: السرور، والرخاء، من رغد العيش، ونحو ذلك، فهؤلاء يقولون مثل هذا هو أمرٌ مما تقتضيه الطبيعة، ولا علاقة له بعقوبة تقع للناس، كما يقول بعض الجاهلين فيما يقع لهم من الشدائد، ونحو ذلك: بأن هذه أمورٌ طبيعية تتكرر كل كذا، وكذا عام - نسأل الله العافية - فمثل هؤلاء لا يمكن أن يتفطنوا لما يُراد بهم، وما ينزل من العقوبات الإلاهية التي يبتليهم الله بها.

"قوله تعالى: بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: 95] أي: بالمطر، والزرع".

السماء هنا قال: المطر، والأرض: يعني الزرع، وقد يكون البركات النازلة من السماء أعم من ذلك، أعم من المطر، فالبركات تحصل بهذا، وتحصل بغيره.

وذكر بعض أهل العلم مما يكون من السماء: الرياح، والهواء، وكذلك أيضًا ضوء الشمس، وما يحصل فيه بسببه مما قدَّره الله - تبارك، وتعالى - من قيام هذه الحياة، بمعنى أن الشمس لو عُدِمَ ضوؤها لتجمد كل شيء، وهلك كل شيء، إلى غير ذلك مما يمكن أن يدخل في هذا المعنى: بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كما قال الله : وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [الجن: 16].

وهكذا في قول نوح - عليه الصلاة، والسلام -: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ أنه كَانَ غَفَّارًا ۝ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ۝ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10 - 12].

وهكذا في قوله - تبارك، وتعالى - عن بني إسرائيل: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إليهمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة: 66] فكل هذا مثل قوله هنا: بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.