"فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [المعارج:36-44].
يقول تعالى منكرًا على الكفار الذين كانوا في زمن النبي ﷺ، وهم مشاهدون له، ولِمَا أرسله الله به من الهدى، وما أيده الله به من المعجزات الباهرات، ثم هم مع هذا كله فارون منه، متفرقون عنه، شاردون يمينًا وشمالاً، فرقًا فرقًا، وشيعًا شيعًا، كما قال تعالى: فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ [المدثر:49-5، وهذه مثلها، فإنه قال تعالى: فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ أي: فما لهؤلاء الكفار الذين عندك يا محمد مُهْطِعِينَ أي مسرعين، نافرين منك، كما قال الحسن البصري: "مُهْطِعِينَ أي: منطلقين"".
يعني هنا الإهطاع هو الإسراع، "مهطعين" يعني: مسرعين، هذا استفهام أيّ شيء لهم حواليك مسرعين؟ فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ يعني مسرعين، يسرعون إليك، بماذا؟ ماذا يريدون بهذا الإسراع؟ ما المراد بهذا الإسراع؟ ما الغرض من هذا الإسراع؟
بعضهم يقول: ما بالهم يسرعون إليك، فيجلسون حواليك عن اليمين والشمال، ولا يعلمون بما تطالبهم به، أو بما تأمرهم به، وبعضهم يقول: هذا الإسراع المراد به التكذيب فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ يعني يسارعون في تكذيبك، ويجلسون عنك يمنة ويسرة، في جماعات متفرقين في صحن الكعبة، وهم في أسوأ حال، وبعضهم يقول: يسرعون إلى السماع منك، يأتون، تدعوهم، ويتهافتون على المجيء، ليستمعوا، ثم بعد ذلك يحصل منهم الاستهزاء، والتكذيب: فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ يسرعون إليك، ثم يكذبونك، وبعضهم فسر ذلك بالإسراع بالنظر، ينظرون إليك، هذا قاله بعض السلف كالكلبي، ولكن يبدو أنه ليس من قبيل المعنى الظاهر المتبادر - والله تعالى أعلم -.
وفسره بعضهم بما يقرب من معناه، فقال كقول قتادة: مُهْطِعِينَ أي: عامدين، يعني يقصدونك، لكن ليس هذا بمعنى الإسراع من حيث هو، وهكذا قول من قال: إن ذلك بمعنى مد الأعناق إليك، وهذا بمعنى قول من قال - كالكلبي -: إنهم ينظرون إليك مُهْطِعِينَ أي: بأنظارهم، فما لهؤلاء الكفار يسرعون إليك: قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ ما لهؤلاء الكفار في حال من الإسراع إليك إما بالتكذيب، وإما بأنهم يبادرونه، ويقبلون عليه، ولكن من غير جدوى، يعني من غير إيمان، وقبول لما تدعوهم إليه؟
عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ يعني جماعات متفرقة، فهذا جمع عِزَة، والمقصود بها المجموعة أو العصبة من الناس، يجلسون جماعات متفرقة، وبعضهم يقول: أصله من العِزْوة يعني العَزْو، كل مجموعة - كل طائفة - تعتزي إلى غير ما تعتزي إليه الأخرى، ولكن المشهور هو الأول يعني جماعات متفرقة، لهذا قال صاحب الصحاح: إن العِزَة هي الفرقة من الناس، وتجمع على "عِزون" و"عِزِيّ".
عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ واحدها عِزَة، أي متفرقين، وهو حال من مُهْطِعِينَ أي في حال تفرقهم، واختلافهم، وقال العوفي عن ابن عباس: فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ قال: "قبَلك ينظرون".
عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ قال: "العزين العُصب من الناس عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ معرضين يستهزئون به، وبنحو هذا قال كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - أي أن هؤلاء يجلسون عن يمين وشمال مع حال من الإعراض، والاستهزاء، وعن جابر بن سمرة: أن رسول الله ﷺ خرج عليهم وهم حِلَق فقال: ما لي أراكم عزين؟ رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن جرير[1].
- رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب الأمر بالسكون في الصلاة والنهي عن الإشارة باليد، ورفعها عند السلام، وإتمام الصفوف الأُوَل والتراص فيها والأمر بالاجتماع، رقم (430)، وأبو داود، كتاب الأدب، باب في التحلق، رقم (4823)، وأحمد، رقم (20964).