الجمعة 19 / ربيع الأوّل / 1447 - 12 / سبتمبر 2025
بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَقَالُوٓا۟ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًا عَجَبًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المصنف - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى:

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ۝ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ۝ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا ۝ وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا ۝ وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ۝ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ۝ وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا [الجن: 1-7].

يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ ﷺ أَنْ يُخْبَرَ قَوْمَهُ: أَنَّ الْجِنَّ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ فَآمَنُوا بِهِ، وَصَدَّقُوهُ، وَانْقَادُوا لَهُ فَقَالَ تَعَالَى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ أَيْ: إِلَى السَّدَادِ، وَالنَّجَاحِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا وَهَذَا الْمَقَامُ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الْأَحْقَافِ:29] وَقَدْ قَدَّمْنَا الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِا هَاهُنَا".

هذه السورة من السور النازلة بمكة في قول الجميع، يعني بالاتفاق كما ذكر ذلك القرطبي وغيره.

والموضوع الذي تتحدث عنه هذه السورة في الجملة هو ما يتصل بخبر الجن، واستماعهم القرآن، وما كان من مردود ذلك عليهم، وما في ثنايا ذلك مما ذكره الله - تبارك وتعالى - عن دعوة القرآن، وما للمستجيبين والمعرضين عما جاء به.

قوله - تبارك وتعالى -: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا هذا إخبار من الله - تبارك وتعالى - عما جرى من استماع الجن، وما قالوه حينما استمعوا هذا القرآن، وعما وقع من إيمانهم، ودعوتهم لقومهم، واستماع الجن للقرآن هذه الآية مخبرة عنه، بمعنى أن ذلك ليس بكون النبي ﷺ اجتمع بالجن قصدًا، وقرأ عليهم القرآن، وإنما استمعوا قراءته.

والظاهر - والله تعالى أعلم - أن هذا الذي وقع كان في مكة، وقع من استماعهم للنبي ﷺ وهو يقرأ في صلاته حينما كان ذاهبًا إلى الطائف، إلى عكاظ يدعو إلى الله، وإلى توحيده، فما كان يشعر باستماع الجن حتى أعلمه الله - تبارك وتعالى - بذلك كما يدل عليه سبب النزول، وهذا كما قال الله - تبارك وتعالى - في سورة الأحقاف - وهي أيضًا مكية -: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ.

فهذا وذاك - والله تعالى أعلم - كأنه في واقعة واحدة، فهو إخبار عما حصل من استماعهم، وإن كان استماع الجن للنبي ﷺ وقع في وقائع متعددة، وقد يقال: إن بعض هذه الوقائع كان بمكة، وإن بعضها كان في المدينة، وإن من هذه الوقائع ما اجتمع النبي ﷺ فيها مع الجن وهو يعلم بذلك، أي ما اجتمع بهم قصدًا، ويدل على هذا ما جاء في حديث جابر قال: خرج رسول الله ﷺ على أصحابه، فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا، فقال: لقد قرأتها على الجن ليلة الجن؛ فكانوا أحسن مردودًا منكم، كنت كلما أتيت على قوله: فبأي آلاء ربكما تكذبان [الرحمن:13] قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد[1]، فهذا قد سمعه منهم النبي ﷺ حينما كان يقرأ عليهم، فهذه قراءة كانت مقصودة، واجتماع مقصود، وأخبر النبي ﷺ عن الجن أنهم سألوه فيما يتصل بالطعام لهم، ولدوابهم، وكذلك أيضًا جاء في بعض هذه الأحاديث - كما سيأتي إن شاء الله - أن النبي ﷺ كان معه بعض أصحابه، بصرف النظر هل استمعوا، وحضروا، أو أنهم كانوا دون مجلسه - عليه الصلاة والسلام -، أو أنه كما في بعض الأحاديث أن النبي ﷺ أراهم آثار ذلك؛ أراهم نيرانهم، يعني بعد أن اجتمع بهم.

فهذه وقائع متعددة أوصلها بعض أهل العلم إلى ست في مكة، والمدينة، ويأتي - إن شاء الله تعالى - الكلام على هذا، فأترك ذلك لكلام مستقل - إن شاء الله -.

وقوله - تبارك وتعالى -: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ هذا يدل على أن النبي ﷺ لم يكن يشعر بهم، وإنما علم ذلك بالوحي.

نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ النفر اسم للجماعة ما بين الثلاثة إلى العشرة.

فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا عَجَبًا يعني في فصاحته، وبيانه، وبلاغته، ومواعظه، وبركته؛ وما إلى ذلك، هذه أقوال للسلف في تفسير هذا الموضع.

قُرْآنًا عَجَبًا عجبًا: أي كل هذه الأمور المتقدمة، وعَجَبًا مصدر وصف به القرآن للمبالغة، أو على حذف مضاف، أي قرآنًا ذا عجب لما فيه من العجائب فيما ذكر، أو أنه مصدر بمعنى اسم الفاعل: قُرْآنًا عَجَبًا أي مُعجِبًا.

ولكن كأن ما قبله أوضح، والله أعلم.

  1. رواه الترمذي، كتاب أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الرحمن، رقم (3291)، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح، رقم (40).