تأملوا هذه الجملة قال: دعاء عليه؛ لأن قُتل تأتي بمعنى لعن، واللعن دعاء، لا إشكال يعني: من فسرها بأنها لعْن، أو من قال: دعاء عليه؛ فإن ذلك المعنى لا إشكال فيه، ليس هناك منافاة، والعرب تقول: قُتل فلان، ولربما قالت: قاتله الله ما أجلده، وما أصبره!، تارة لا يعنون المعنى وإنما يقصدون التعجب منه، ولا شك أن هذا السياق هنا فيه معنى التعجب فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ.
فَقُتِلَ لعن، دعاء عليه، كَيْفَ قَدَّرَ كيف هذه تعليلية، يعني: هل المعنى قُتل ثم يكون الاستفهام: كيف قدر هذا التقدير؟ كيف تجرأ عليه؟
كن كما شئت فكما تدين تدان، كن كما شئت يعني: كن على أي حال شئت فستلقى جزاءك، كما تدين تدان فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ مثل ما تقول: سأعاقبه بذلك كيف كان، يعني: لا شأن لي بعذره، عنده عذر ما عنده عذر، عذر يتصل به عذر يتصل بغيره، عذر قاهر عذر غير قاهر، مقبول غير مقبول، سائغ غير سائغ، سأعاقبه كيفما اتفق له من العذر، أو سأعاقبه كيف كان عذره فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ أي: قتل على أي تقدير أوقعه سواء قال: ساحر، كاهن، شاعر، مجنون، أو قتل كيف قدر فيكون المعنى على أي حال قدر، كأنك تقول: قتل كيفما قدر حتى أقرب لكم المعنى، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ يعني: على أي حال، على أي تقدير قدر، لا شأن لنا به، فهو يدعو عليه بجميع أحواله.
فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ يعني: لُعن، وعُذب؛ كيف قدر، على أي حال قدر ما قدر من الكلام، على أي حال كانت منه، على أي حال صنع ما صنع، سواء كان مقتنعاً بهذا أو غير مقتنع (متردد)، سواء قال: ساحر، أو كاهن، أو شاعر، فهو دعاء عليه على كل أحواله.
لاحظ هذا تصوير دقيق له، جلس يفكر أولاً، ثم قدر ما يقول، ويلمز به القرآن، ويضيف إليه، اختار بعناية الوصف الذي قصده؛ لهذا قال: سِحْرٌ يُؤْثَرُ [سورة المدثر:24] سحر يأخذه عن غيره؛ لأن النبي ﷺ ما عُرف أنه ساحر، ما هو بساحر، لكن أخذ ذلك عن غيره، لو قال: مجنون ما قبلوا منه، كاهن ما يعرف بالكهانة، ولكن سحر يأخذه عن غيره، ففكر، وقدر، ثم دعا عليه: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ على أي حال كانت منه، ثم أكمل وصفه بعد ذلك يعني: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ جملة اعتراضية، ويكون سياق الكلام هكذا: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ، قدر ثم نظر ثُمَّ عَبَسَ قطّب، والعبوس معروف ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ [سورة المدثر:22] بسر: كثير من السلف يقولون: معناها - وهو قول معروف في اللغة -: اسود، وكلح، يعني: ازداد في العبوس، في البداية عبس ثم بسر: ازداد عبوساً، وكلح، واسود وجهه، فهو بعد هذا التفكير، والتقدير، والنظر؛ اعترته حالة فقال بعد ذلك ما قال عَبَسَ وَبَسَرَ، وبعض أهل العلم يفسرون البسور بظهور الأسنان وهذا من شدة العبوس، يكون من شدة العبوس أو الألم أو نحو هذا، وهو أحد التفسيرات المشهورة في قوله: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ [سورة القيامة:24] بمعنى: أنه إذا احترق، وعرض على النار ينشدّ لحم الوجه، فينجلي ذلك عن الأسنان، فتظهر أسنانه، مثل رأس البهيمة إذا عرض على النار كانت أسنانها مغطاة حينما ذبحت هذه البهيمة، فإذا عرض الرأس على النار ينشدّ الوجه، ثم الأسنان تكون ظاهرة بادية، فهذا فسر به قوله - تبارك وتعالى -: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ أحد التفسيرات المشهورة أنه يقلب على النار - والعياذ بالله -، وتظهر أسنانه من احتراق الوجه.
"وقوله: ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ [سورة المدثر:23] أي: صُرف عن الحق، ورجع القهقرى مستكبراً عن الانقياد للقرآن.
فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ [سورة المدثر:24] أي: هذا سحر ينقله محمد عن غيره ممن قبله، ويحكيه عنهم؛ ولهذا قال: إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ [سورة المدثر:25] أي: ليس بكلام الله.
وهذا المذكور في هذا السياق هو: الوليد بن المغيرة المخزومي، أحد رؤساء قريش - لعنه الله -، وكان من خبره في هذا ما رواه العوفي عن ابن عباس قال: دخل الوليد بن المغيرة على أبي بكر بن أبي قحافة فسأله عن القرآن، فلما أخبره خرج على قريش فقال: يا عجباً لما يقول ابن أبي كبشة، فوالله ما هو بشعر، ولا بسحر، ولا بهذْي من الجنون، وإن قوله لمن كلام الله، فلما سمع بذلك النفرُ من قريش ائتمروا، وقالوا: والله لئن صبأ الوليد لتصْبُوَ قريش، فلما سمع بذلك أبو جهل بن هشام قال: أنا والله أكفيكم شأنه، فانطلق حتى دخل عليه بيته، فقال للوليد: ألم تر قومك قد جمعوا لك الصدقة؟ فقال: ألستُ أكثرهم مالاً، وولداً؟ فقال له أبو جهل: يتحدثون أنك إنما تدخل على ابن أبي قحافة لتصيب من طعامه، فقال الوليد: أقَدْ تحدَّث به عشيرتي؟! فلا والله لا أقرب ابن أبي قحافة، ولا عمر، ولا ابن أبي كبشة، وما قوله إلا سحر يؤثر، فأنزل الله على رسوله: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا [سورة المدثر:11] إلى قوله: لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ [سورة المدثر:28].
وقال قتادة: "زعموا أنه قال: والله لقد نظرت فيما قال الرجل فإذا هو ليس بشعر، وإن له لحلاوة..."".
يعني عرف أحقيته في البداية؛ لهذا قال الله : ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ بعدما عرف، كما قال الله : ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ [سورة الأنبياء:65] لما حاجّهم إبراهيم ﷺ وقال لهم: كيف تعبدون هذه الأصنام؟ في البداية وقفوا فَرَجَعُوا إِلَى أنْفُسِهِم فَقَالُوا إنَّكُمْ أنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ، وهكذا هؤلاء الكفرة في كل زمان، موسى ﷺ لما قال لهم في ذلك الموقف الكبير لما اجتمع السحرة، وفي أقل تقدير رأيته في كتب التفسير أنهم بلغوا اثني عشر ألف ساحر من مهرة السحرة، دعنا من الذين قالوا وعددوا أعداداً رهيبة أكثر من هذا، أقل تقدير رأيته اثنا عشر ألف ساحر الذين اجتمعوا؛ لأنه قال: ائْتُونِي بِكُلِّ [سورة يونس:79] بلد ينتشر فيها السحر، بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ فاجتمعوا، فقال لهم موسى - عليه الصلاة والسلام - كلمة حق: وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى [سورة طه:61-62] بدأ التخلّى، فككتهم هذه الكلمة، فأسروا النجوى؛ لئلا يظهر للطرف الآخر أن هناك شرخاً في الصف، وبدأت الآراء ووجهات النظر تختلف، دب الخلاف فأسروا ذلك؛ لئلا يتقوى به الخصم، كما يفعل أعداء الله في كل مكان في أحلافهم فيكون بينهم من الشر، والخلاف، والنزاع ما يسرون به، ولا يظهر إلا إذا ظهرت رائحته، وزكمت الأنوف؛ فعرفه الطرف الآخر، لكن يحاولون دائماً دفنه، فيظهرون بصف واحد قوي متماسك، وأنه حلف في غاية القوة والالتئام، وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ثم حث بعضهم بعضاً على المضي، والإقدام، وأن يأتوا صفاً: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا [سورة طه:64] هذا في فرعون، ومن معه، من جمعهم من السحرة.