الثلاثاء 16 / ربيع الأوّل / 1447 - 09 / سبتمبر 2025
وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُۥ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وهكذا قال هاهنا:بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ۝ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ[سورة القيامة:14-15] أي: هو شهيد على نفسه، عالم بما فعله ولو اعتذر وأنكر، كما قال تعالى:اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا[سورة الإسراء:14].

هذا التفسير الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله-:بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ قال: أي هو شهيد على نفسه، معنى هذا الكلام أن قوله:بَصِيرَةٌخبر عن الإنسان، بمعنى أن الإنسان شاهد، بصيرة بمعنى شاهد، فتكون "بصيرة" خبراً عن هذا الإنسان المحدث عنه،بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌأي: بل الإنسان شاهد على نفسه، فكلمة بَصِيرَةٌهي: بمنزلة كلمة "شاهد"، تفسر بشاهد،بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌهذا هو المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى-، وهو المعنى المشهور، والآية تحتمل غير ذلك،بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، فالإنسان شاهد على نفسه، والمعنى الآخر الذي ذكره بعض السلف -أي أن جوارحه تشهد عليه- داخل في هذا المعنى، فيكون شاهده من نفسه، ينطق لسانه فيشهد عليه، وتنطق جوارحه فتشهد، فهذه شهادة من نفسه، وكذلك أيضاً يدخل في معناه الأعم -وقد ذكره بعض السلف أن الإنسان عالم بما في نفسه، عالم بحاله، فهو بصير بنفسه وإن خفي أمره على الناس، وإن تزيّا بغير حقيقته وباطنه، فهو يعلم صلاحه من فساده، وإقباله وفتوره وتراجعه وتردده في طاعة الله-تبارك وتعالى-، مهما قال، ومهما اعتذر بالمعاذير، فهذا شيء يدركه من نفسه ولا يخفى عليه بحال من الأحوال، أنت أعلم بحالك مهما قدمت من المعاذير،ولذلكوَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ[سورة القيامة:15] الأعذار التي يعتذر بها عن تقصيره أو فجوره أو كفره فهو أدرى بشأنه وحاله، وهذا هو الذي يناسب لظاهر اللفظ، وبعض أهل العلم يقول: المعاذير هنا ليس المقصود بها الأعذار، وإنما المقصود بالمعاذير جمع مِعذار وهو الستر، أي ولو أرخى ستوره فاستتر بفجوره؛ لئلا يظهر للناس، فإنه أدرى بحاله وأبصر بنفسه مهما حاول أن يخفي عيوبه أمام الآخرين،بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ۝ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ، وهذا المعنى الثاني الذي ذكروه هو تفسير لها بما تحتمله في كلام العرب، باللغة، وإن لم يكن ذلك هو المتبادر، فهذه الأعذار التي يعتذر بها الإنسان، يعتذر بها عن تقصيره وذنوبه أليست هي كالستور التي يرخيها على عيبه ليستره، أو لا؟ إذا جلس يعتذر عن شيء كأنه يريد أن يستر عيبه ويغطيه فلا يظهر للناس، يقول: لا، أنا لم أقصد كذا، وأنا ما أردت بهذا الفعل كذا؛ ليغطي هذا العيب والسوءة، فـ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُالعذر معروف في كلام العرب، المعنى المتبادر ليس هو الستارة، ولا يجوز حمل القرآن على معنى خفي دون المعنى الظاهر إلا بدليل يجب الرجوع إليه، هذا الأصل، ولذلك يكفي أن يقال:وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُيعني ولو اعتذر بألوان الأعذار، فهو يعرف حقيقة نفسه، وبالتالي هو يشهد على نفسه في الآخرة بحاله وعمله، في البداية ينكر ويكذب ثم يختم على فيه، فتشهد جوارحه، ثم بعد ذلك ينطق، وهذا هو الجمع بين الآيات الواردة في هذا، بعض الآيات أخبر الله فيها أنهم يكذبون وينكرون،وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:23]، ثم أخبر سبحانه:الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[سورة يس:65] وتشهد أرجلهم، ومع ذلك يقول الله : يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ[سورة النور:24]، كيف تشهد الألسنة وقد ختم على الأفواه؟، يقال: هم يكذبون وينكرون في البداية فيختم على الأفواه، ثم بعد ذلك تنطق الجوارح، فإذا نطقت عند ذلك يذمها ويقول: عنكِ كنت أناضل، أو أدافع، ثم بعد ذلك يشهد على نفسه، ويطلب الرجعة إلى الدنيا مرة ثانية.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا-:بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ[سورة القيامة:14] يقول: سمعُه وبصرُه ويداه ورجلاه وجوارحُه.

هذا لا ينافي القول الأول، فهو يشهد على نفسه، تشهد عليه جوارحه، وهو أعرف بحاله ونفسه، وإنما يشهد على نفسه لأنه عالم بحاله، فهذه الأمور كلها حق، والله أعلم.

وقال قتادة: شاهد على نفسه، وفي رواية قال: إذا شئت -والله- رأيته بصيراً بعيوب الناس وذنوبهم غافلا عن ذنوبه، وكان يقال: إن في الإنجيل مكتوباً: يا ابن آدم، تُبصر القَذَاة في عين أخيك، وتترك الجِذْل في عينك لا تبصره.

بمعنى أنه عالم بحاله، وإن حصل منه غفلة وإعراض فصار شغله بعيوب الناس -بعيوب الآخرين- مع تجاوز لأخطائه وعيوبه وذنوبه وتقصيره وفجوره.

وقال مجاهد:وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُولو جادل عنها فهو بصير عليها، وقال قتادة:وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُولو اعتذر يومئذ بباطل لا يقبل منه، وقال السدي:وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ أي: حجته، كقوله تعالى:ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ[سورة الأنعام:23].

يعني هذه الأقاويل ليست متنافية، الآن لو جادل عنها فهو بصير عليها، والقول: إنه لو اعتذر يومئذ بباطل لا يقبل منه أي لو اعتذر وهو أدرى أن هذا غير حق وأنه عذر كاذب وأن حاله غير ما ذكر، وكذلك قول العوفي عن ابن عباس -ما رواه العوفي عن ابن عباس-:وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُهي الاعتذار، أخذه من ظاهر اللفظ،يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ[سورة غافر:52]، فهذا أحسن من تفسيره بإرخاء الستور.

وكقوله تعالى:يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ[سورة المجادلة:18].

وقال العوفي عن ابن عباس -ا-:وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ هي الاعتذار ألم تسمع أنه قال:لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ[سورة غافر:52]، وقال:وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ[سورة النحل: 87]،فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ[سورة النحل:28]، وقولهم:وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ.

هذه الطريقة في الترجيح جيدة، كيف نرجح بين القولين؟، الآنوَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ أي: أعذاره، أو أرخى ستوره فعصى الله في مكان لا يراه فيه الناس؛ ليخفي عيوبه عنهم، فهو أعرف بنفسه، كيف نرجح بين القولين؟ نستطيع أن نقول: إنه يجب حمل القرآن على المعنى المتبادر دون المعنى الخفي، فهذا وجه، كذلك أيضاً نقول: المعنى الأول يوجد ما يشهد له من القرآن، بخلاف المعنى الثاني،لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ، فـ "معذرة" هنا الظاهر أنها العذر وليس المقصود بها الستور.