لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ[سورة القيامة:16-25].
هذا تعليم من الله لرسوله ﷺ في كيفية تلقيه الوحي من الملك، فإنه كان يبادر إلى أخذه، ويسابق الملك في قراءته، فأمره الله إذا جاءه الملك بالوحي أن يستمع له، وتكفل له أن يجمعه في صدره، وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه، وأن يبينه له ويفسره ويوضحه، فالحالة الأولى: جمعه في صدره، والثانية: تلاوته، والثالثة: تفسيره وإيضاح معناه.
يعنيإِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُجمعه في صدرك،إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، وأصل مادة "قرأ" عند جمع من أهل العلم، وهو اختيار ابن فارس -رحمه الله-: أنها تعود إلى الضم والجمع، وتدور على هذا المعنى سائر الاستعمالات، وإن قيل غير هذا، فـإِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُأي: جمعه في صدرك، وقراءته،ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُأي: توضيح معانيه، فيلهمه الله ويعلمه ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه[1]، وهي السنة شارحة للقرآن، ويبين الله له معاني القرآن، وبعض السلف يقول:ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُأي: أننا نبينه على لسانك، بمعنى أنه بلسان عربي مبين، أي: أنه يبينه على لسان النبي ﷺ، ليس معناه تفسير المعاني، وإنما بمعنى أنه يُنطق رسوله ﷺ به، يجريه على لسان نبيه ﷺ، يبلغه للناس، ولا شك أن هذا نوع من البيان،ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ، فالبيان تارة يكون بمجرد التلاوة على الناس، وتلقينهم للقرآن، وتارة يكون ببيان المعنى وشرحه وما يحتاج إليه، وكل ذلك حاصل من رسول الله ﷺ، وقد ذكرنا لكم قبلُ -في أصول التفسير، أو في شرح مقدمة شيخ الإسلام- أن الأقرب هو أن النبيﷺ لم يفسر لهم القرآن لفظة لفظة بمعنى يشرحها؛ لأنهم لا يحتاجون إلى هذا، وإنما فسر لهم ما يحتاجون إليه فقط، وما زاد على ذلك فهو غير خارج عن قوله -تبارك وتعالى-:لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ[سورة النحل:44]، وهو ما احتج به شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله- على أن النبي ﷺ فسر لهم القرآن جميعاً، فيقال: إن قوله:لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ بمعنى: يبين لهم المعنى، يشرح لهم ما يحتاجون إليه، وما لا يحتاجون إلى تفسيره فإنه يبلغهم إياه، كما قرأ النبي ﷺ آيات الربا، وكذلك توبة كعب بن مالك وأصحابه، كل ذلك قرأه على الناس ﷺ، و جلس لهم وشرح لهم ما يحتاجون لتفسيره.
ولهذا قال تعالى:لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِأي: بالقرآن، كما قال تعالى:وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا[سورة طه:114].
ثم قال تعالى:إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُأي: في صدرك،وَقُرْآنَهُأي: أن تقرأه،فَإِذَا قَرَأْنَاهُ أي: إذا تلاه عليك الملك عن الله ، فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُأي: فاستمع له، ثم اقرأه كما أقرأك.
إي،ولاتستغربونأنوَقُرْآنَهُبمعنى:قراءته،فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ[سورة القيامة:18] أي: قراءته؛ لأن القرآن يأتي بمعنى القراءة؛ لأنه مصدر، يأتي بمعنى القراءة ويأتي بمعنى المقروء، هذا الكتاب العظيم يقال له: القرآن بناءً على أنه مشتق وهو الراجح، مشتق من القراءة، وقيل غير ذلك، لكنه مشتق على الأرجح، فتأتي لفظة القرآن، القراءة مصدر والقرآن بعضهم يقول: هو اسم مصدر، فالقرآن يأتي بمعنى القراءة، ويأتي بمعنى المقروء كما هو حال المصادر غالباً، فالمقروء هذا الكتاب يقال له: قرآن، والقراءة مثل هنا فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُأي: قراءته، كما قال حسان في عثمان :
ضحَّوْا بأشمطَ عُنوانُ السجودِِ بهِ | يُقطِّع الليلَ تسبيحاً وقرآناً |
وقرآناً يعني: وقراءة، يمضي ليله في قراءة القرآن.
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُأي: بعد حفظه وتلاوته نبينه لك ونوضحه، ونلهمك معناه على ما أردنا وشرعنا.
روى الإمام أحمد عن ابن عباس -ا- قال: كان رسول الله ﷺ يعالج من التنزيل شدة، فكان يحرك شفتيه -قال: فقال لي ابن عباس -ا-: أنا أحرك شفتيّ كما كان رسول الله ﷺ يحرك شفتيه، وقال لي سعيد: وأنا أحرك شفتيّ كما رأيت ابن عباس -ا- يحرك شفتيه- فأنزل الله:لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُقال: جمعه في صدرك، ثم تقرأه،فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُفاستمع له وأنصت،ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُفكان بعد ذلك إذا انطلق جبريل قرأه كما أقرأه.
وقد رواه البخاري ومسلم، ولفظ البخاري: فكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله .
- رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (17174)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح، غير عبد الرحمن بن أبي عوف الجُرَشي فمن رجال أبي داود والنسائي، وهو ثقة، حريز: هو ابن عثمان الرحبي".