الإثنين 08 / ربيع الأوّل / 1447 - 01 / سبتمبر 2025
وَٱلْتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ قال عكرمة عن ابن عباس-ا-: أي مَن راقٍ يَرقِى؟ وكذا قال أبو قلابة:وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ أي: مَن طبيبٌ شافٍ.

هذا كله لا إشكال فيه؛ لأن الرقية لون من الطب، والطب يقال له: رقية، فالرقية تطلق على الرقية بما يقال من التعاويذ والكلام والأدعية والتلاوة وما أشبه ذلك مما يقال مما اشتهر عند الناس من أنه رقية، وكذلك تطلق الرقية على التطبب، فالرقية لون من ألوان الطب،وَقِيلَ مَنْ رَاقٍأي: مَن طبيبٌ؟، هل مِن طبيب يشفيه؟، سواء كان ذلك قيل على سبيل الاستبعاد، يعني مَن يشفي مِن هذا؟مَنْ رَاقٍ من يشفيه؟ من يرفع ما به؟ مثل إذا قيل لك: هذا الإنسان داوِه تقول: من يداوي هذا؟، من يداوي علته؟ لكن هذا أبعد، والمعنى الآخر أقرب، وهو أن المراد مَنْ رَاقٍأي: أنهم يطلبون له من يداويه ويرقيه، وهذا هو الأقرب المتبادر -والله تعالى أعلم- خلافاً لمن قال:مَنْ رَاقٍأي أن هذا السؤال يتوجه في تلك الحال أي: من يَرقَى بروحه أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟، فهذا سواء قيل: إن القائل به هو ملك الموت أو أن القائل به هم من عند الميت، فهذا أمر بعيد، ولا حاجة لذكره أصلاً هنا على هذا المعنى، الكلام على خروج الروح وما يلاقيه الإنسان عندئذ، ومعاينة الحقائق، وما يعظه الله به، فالناس عادة في ذلك الموقف يبحثون له عن الرقية، يبحثون له عن العلاج، فيرقونه، ويبحثون عمن يرقيه، هذه العادة الجارية في حياة الناس، وتصرفاتهم، ولكنهم لا يسألون يقولون: يا ترى من سيَرقَى بروحه أملائكة الرحمة أم العذاب؟ الروح لم تخرج أصلاً، وأما إن كان ذلك من قول ملك الموت فهذا أمر لا ندريه ولا نطلع عليه، وهل فعلاً ملك الموت يقول له مثل هذا الكلام؟ فمثل هذا مستبعد في التفسير، وإنماوَقِيلَ مَنْ رَاقٍعلى ظاهره، من يرقيه؟، وقول من قال: هل من طبيب يداويه؟ ليس بخارج عما ذكر، إذ أن الرقية باب من الطب، يبحثون له عن العلاج، يبحثون له عن الشفاء، ولا ينفعه شيء من ذلك، وإذا أردنا أن نتأمل في أوجه رجحان هذا المعنى نجد أنها كثيرة جداً، بل إن الحافظ ابن القيم -رحمه الله- أوصلها إلى عشرة أوجه في ترجيح هذا المعنى،مَنْ رَاقٍأي: أنهم يقولون ذلك عند موته من أجل البحث عن شفاء له، من يرقيه فيرفع ما به من ضر واعتلال؟، ولذلك ذكر بعده قال:وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ اجتمعت عليه الأهوال والشدائد والكروب.

وكذا قال قتادة، والضحاك، وابن زيد.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس-ا-:وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِيقول: آخر يوم في الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة، فتلتقي الشدة بالشدة إلا من رحمه الله.

ما فسر به ابن كثير -رحمه الله- هو المعنى الراجح، الساق بمعنى الشدة، فمن أهل العلم من حمله على ظاهره المتبادر من معنى الساق وهي ساق الإنسان، فهؤلاء منهم من قال: إن المرادوَالْتَفَّتِ السَّاقُأي: ساق الميت، وهذا كناية عن كونه صار مواتاً لا حراك فيه فرجلاه كانتا تنقلانه في حياته، وفي ذلك الحين يبقى لا حراك به، ولا تنفعه هذه الأرجل فهو لا يتحرك ويمشي ويخطو بها، ومنهم من قال: إن ذلك يكون في حال الكفن حيث تلف هذه الساق فتلتف مع الأخرى،وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِأي: في حال الكفن، وبعضهم يقول: ساق الميت وساق الغاسل وهذا بعيد، وبعضهم يقول: ساق الميت وساق الكفن، فهؤلاء كلهم أرادوا حمل الساق على معناها الظاهر المتبادر، والمعنى الآخر للساق وهو معنى مشهور في كلام العرب أن الساق تطلق على الشدة والكرب، فالمعنى: اجتمعت عليه الكروب والشدائد، وتنوعت أقاويل السلف في بيان هذه الكروب، فمنهم من قال: ساق الدنيا بساق الآخرة، وبعضهم قال: إنه يجتمع عليه أمران: أهله يفكرون في تجهيزه وكفنه، والناس حوله، والملائكة في نقل روحه وأخذها، ويفعلون بها ما أمر الله، وهذا فيه بعد، وبعضهم يقول:وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ:أي أنه يعاني الموت وسكرات الموت، وخروج الروح وما سيلقاه بعد خروجها من عذاب ونكال، فالمقصود وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِالساق بمعنى:الشدة،وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ أي: الكروب والشدائد اجتمعت على هذا الإنسان، فراق الدنيا والأحبة ومعاناة سكرات الموت وأيضاً ما يلاقيه من الأهوال والأوجال والشدائد العظام التي لم تخطر له على بال ولم يرَ شيئاً منها قبل ذلك، عالم آخر جديد ينتقل إليه.

وقال عكرمة:وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ الأمر العظيم بالأمر العظيم.

العرب مثلاً يقولون: شمرت العرب عن الساق، وتقول: فلان شمر عن ساقه، أي: أخذ بالجد وتأهب تأهباً عظيماً، فهذا معروف في كلام العرب، وبعضهم فسر بذلك قوله -تبارك وتعالى-:يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ[سورة القلم:42]، وأخذوا ذلك أيضاً من قول ابن عباس ، وهذا المعنى وإن كان معروفاً في اللغة إلا أنه لا تفسر به آيةيَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ[سورة القلم:42]؛ لأن الحديث يفسرها:فيكشف عن ساقه[1]، لما ذكر سجودهم،فيكشف عن ساقه، فهنا لا يمكن أن يكشف عن شدته فيسجدون، وإنما الساق الذي هو صفة لله تليق بجلاله وعظمته، فيفرق بين المقامين؛ لأن هناك عندنا قرينة -دليل مرجح- وهنا لا يوجد، بل القرائن تدل على أن المراد هو الشدة والأمر العظيم والكرب وما أشبه ذلك.

وقال مجاهد: بلاء ببلاء، وقال الحسن البصري في قوله:وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِهما ساقاك إذا التفّتا. وفي رواية عنه: ماتت رجلاه فلم تحملاه، وقد كان عليها جوّالاً.

 

 

  1. رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ۝ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ[القيامة:22- 23]، برقم (7439).