ثم قال تعالى:أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى أي: أمَا هذا الذي أنشأ هذا الخلق السوي من هذه النطفة الضعيفة بقادر على أن يعيده كما بدأه؟ وتناولُ القدرة للإعادة إما بطريق الأولى بالنسبة إلى البداءة، وإما مساوية على القولين في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ[سورة الروم:27].
والأول أشهر كما تقدم في سورة الروم بيانه وتقريره، والله أعلم.
يعني بمعنى أن وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِأن أهون هنا صيغة تفضيل على وزن أفعل، وصيغة التفضيل تأتي تارة يراد بها التفضيل لاثنين، تقال في اثنين اشتركا في صفة فزاد أحدهما على الآخر، تقول: فلان أكرم من فلان، كلاهما كريم لكنْ فلان أكرم، وفلان أعلم من فلان، ولا يقال ذلك لمن كان عادماً للصفة.
ألم ترَ أنّ السيفَ يَنقُصُ قدرُهُ | إذا قيل إنّ السيفَ أمضى من العصا |
أقطع من العصا، هل العصا تقطع؟! فإذا قارنت بين السيف والعصا كان ذلك لا وجه له، وإنما يقال ذلك لمن اشتركا في صفة، وأما ما جاء من قول الله في بعض المواضع أن الله أحكم الحاكمين، وأن الله أعلم فلا شك أنه لا مقارنة بين ذلك، يعني بين صفة الله وصفة المخلوق إطلاقاً، ولذلك يحمل هذا كثيرٌ من أهل العلم على المعنى الآخر، وهو أن المراد بذلك الاتصاف، وهذا معروف في كلام العرب.
تمنّى رجالٌ أنْ أموتَ وإنْ أمتْ | فتلك سبيلٌ لستُ فيها بأوحدِ |
أي بواحدِ، وعلى هذا فسر من فسر قول الله -تبارك وتعالى-:وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى[سورة الليل:17]، أي: التقي، خلافاً لمن قال: إن المراد بالأتقى أفعل التفضيل، والأتقى بعد النبي ﷺ هو أبو بكر الصديق ، فلا شك أن أبا بكر هو أتقى الأمة - وأرضاه-، وأنه سيجنب النار، ولكن ذلك لا يختص به، وإنما كل من كان متصفاً بذلك.
فقوله:وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِعلى أن المراد بها التفضيل هل بالنسبة لله يوجد هين وأهون؟ هل الإعادة أهون بالنسبة لله ؟ كيف والله على كل شيء قدير وأمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون؟
فالجواب عن هذا: أن هذا الخطاب خرج بالنظر إلى حال المخاطبين، وهذا كثير جداً في القرآن، أن يخاطب السامع أو المخاطب، يوجه إليه الخطاب باعتبار نظره هو، كما قال :فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى[سورة طه:44]، و"لعل" للترجي على أحد المعنيين المشهورين لها، وكيف يترجى الله وهو عالم أنه يؤمن أو لا يؤمن؟ أبداً، ولكن المراد بذلك لَّعَلَّهُأي: على رجائكما، فوجّه الخطاب بحسب نظر المخاطب، والمعنى الآخر أن "لعل" هنا -وهو المشهور- بمعنى التعليل، أي: من أجل أن يتذكر أو يخشى، وكذلك في وصف الله لقول المشركين، وما عندهم من الشبهات أحياناً يسميها حجةحُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ[سورة الشورى:16] وما هي بحجة، من قال: إنها حجة؟!، كيف تكون حجة؟!، لكن الله وصفها بذلك باعتبار نظر هؤلاء الناس الذين هم أصحابه، هم يقولون: إنها حجة، يزعمون أنها حجة، فقال:حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ، وكذلك سمى هذه المعبودات التي يعبدونها أرباباً وآلهة، وهي ليست بأرباب ولا بآلهة، يوسف ﷺ قال:أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ[سورة يوسف:39]، وكذلك النبي ﷺ قال لحُصين:كم إلهاً تعبد؟[1]، وهذا أيضاً في القرآن:وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ[سورة طه:97]، وهو ليس بإله ولا يستحق ذلك إطلاقاً لا لفظاً ولا معنى، ولكن بالنظر إلى حال عابديه، فهم جعلوه إلهاً، ولهذا استعمل الله معها من الصيغ في بعض المواضع ما يصلح للعقلاء،أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا[سورة الأعراف:195] ما قال: ألها أيدٍ تبطش بها؟، جمادات أصنام وخشب وحجر، الأصل في التعبير أن يقال: ألها أيدٍ تبطش بها؟، أم لها أرجل تمشي بها؟، أم لها أعين تبصر بها؟، وللعقلاء يقال: يمشون، يبصرون، يبطشون، فاستعمله مع هذه باعتبار أنهم جعلوها آلهة، فلهذا عاملهم القرآن وخاطبهم بحسب اعتقادهم، هذا وجه إذا قيل: إن "أهون" أفعل تفضيل، وإلا فكل ذلك مستوٍ بالنسبة لله، والمعنى الثاني: أن "أهون" هي صيغة تفضيل من حيث اللفظ، ولكنها في المعنى بمعنى "هين" أي وهو هين، صيغة تفضيل بمعنى الصفة،وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ[سورة الروم:27] بمعنى هين، الله أكرم وأعلى وأجل: الله هو الكريم العالي الجليل، الله أعز من زيد: الله هو العزيز، الله أعز من خلقه، لا مقارنة بين عزة الله وعزة المخلوقين، فيراد بذلك مطلق الاتصاف، هذان الوجهان، والله أعلم.
من السنة إذا قرأ الإنسانأَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى أن يقول: سبحانك فبلى، ولا يصح غيره، بمعنى أنه إذا قرأأَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ[سورة التين:8] ما يقول: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين، فإن الحديث لم يصح في هذا، إنما غاية ما صح هو هذه فقط، وكذلك إذا قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى[سورة الأعلى:1] قال: سبحان ربي الأعلى، هذا ثابت.
- رواه الترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله ﷺ، برقم (3483)، والطبراني في المعجم الكبير، برقم (396)، والألباني في ضعيف الجامع برقم (4098).
- رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب الدعاء في الصلاة، برقم (884)، وقال الألباني: "إسناده صحيح"، في صحيح أبي داود، برقم (827).