السبت 28 / صفر / 1447 - 23 / أغسطس 2025
قَوَارِيرَا۟ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله -جلت عظمته-:وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ[سورة الإنسان:15] أي: يطوف عليهم الخدم بأواني الطعام وهي من فضة، وأكواب الشراب وهي الكيزان التي لا عُرى لها ولا خراطيم.

وكثير من أهل العلم يقولون: إن الأكواب المقصود بها الكيزان الكبار التي لا عرى لها ولا خراطيم، يعني أنها تكون مثل هذا، مثل الجرة التي لا يد لها ولا خرطوم بمعنى مكان ينسكب منه الماء مخصص له في رأسها، وإنما هي مستوية الطرف في الأعلى، وكذلك لا عرى لها، الكيزان الكبار.

وقوله:قَوَارِيرَ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ[سورة الإنسان:16] فالأول منصوب بخبر "كان" أي: كانت قوارير.

والثاني منصوب إما على البدلية أو تمييز؛ لأنه بيّنه بقوله:قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ.

يمكن أن يكون هذا تمييزاً لهذه القوارير، ويمكن أن يكون بدلاً، فكأنه قال:وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا، أو وأكواب من فضة، وأكواب الفضة؛ لأنه قال:قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍفإذا كانت بدلاً فهي بهذا المعنى، والقوارير: القارورة هي مستقر المائع، وغالباً ما تكون هذه القوارير من الزجاج، فهنا قال الله:قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ، فذكْرُ القوارير يدل على الشفافية، وذكرُ الفضة يدل على البياض وجودة المادة والمعدن، بخلاف مادة الزجاج فإنها ليست من الجواهر النفيسة، بل لربما كان أصله من التراب، فالمقصود أن هذه القوارير لمّا ذكرها المعهود لديهم أن القوارير إذا كانت في غاية الشفافية فهي من الزجاج، فهنا بيّن لهم لوناً آخر من القوارير غير معهود، وهي قوارير الفضة التي تشف عما في داخلها، الفضة في الدنيا لا يمكن أن تشف، ولو كانت -كما قال ابن عباس- كجناح الذباب، يعني في رقتها، ما تشف، فهنا بين لهم لوناً آخر؛ ولهذا بعض أهل العلم يقولون: كل ما في الجنة فإن الله ذكر مما وصف نظيراً له في الدنيا، يعني يقربه، وإن كان هناك فرق كبير شاسع؛ فليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء، يقولون: إلا قوارير الفضة هذه ليس لها نظير، لك أن تطلق خيالك.

قال ابن عباس -ا-، ومجاهد، والحسن البصري، وغير واحد: بياض الفضة في صفاء الزجاج، والقوارير لا تكون إلا من زجاج، فهذه الأكواب هي من فضة، وهي مع هذا شفافة يرى ما في باطنها من ظاهرها، وهذا مما لا نظير له في الدنيا.

وقوله تعالى:قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًاأي: على قدر رِيّهم، لا تزيد عنه ولا تنقص، بل هي مُعَدّة لذلك، مقدرة بحسب رِيّ صاحبها.

يعني سواء قلنا: إن الذين قدروها هم الملائكة، أو إن الذين قدروها لهم هم الخدم، أو قلنا: إن ذلك يعود إليهم، إلى المنعّمين الشاربين، وهذا هو الأقرب،قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا أي: أنها على قدر رِيّهم تماماً من غير زيادة ولا نقص، وذلك أنها إذا كانت ناقصة عن الري فإن النفس يبقى فيها طَمْحٌ وجوعة وافتقار إلى هذا المشروب كما هو مشاهد، إنسان عطشان وتعطيه كأساً صغيراً يشربه فيشعر أنه ما حصل مقصوده من هذا الشراب، وإذا كانت زائدة كثيرة فإن الإنسان يرتوي ثم بعد ذلك تعاف نفسه هذا السؤر الذي بقي، ولا تميل إليه، وتزهد فيه، أما إذا كان على قدر حاجته تماماً فهذا هو الأكمل، ولذلك يمكن أن يستفاد من هذا حتى في الدنيا، أن يكون ما يتعاطاه الإنسان للشراب والطعام على قد حاجته، من غير زيادة ولا نقص، أقصد الآنية.

قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا أي: أنها على قدر ريهم، فيأتيهم من هذه الآنية بحسب حاجة نفوسهم، هذاقَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا فيكون ذلك عائداً إليهم، ما يقع في نفسه يأتيه مباشرة بهذه الكيزان.

هذا معنى قول ابن عباس -ا-، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأبي صالح، وقتادة، وابن أبزى، وعبد الله بن عُبيد الله بن عمير، وقتادة، والشعبي، وابن زيد، وقاله ابن جرير وغير واحد، وهذا أبلغ في الاعتناء والشرف والكرامة.