الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
تفسير سورة المرسلات، وهي مكية.
روى البخاري عن عبد الله -هو ابن مسعود قال: "بينما نحن مع رسول الله ﷺ في غار بمنى إذ نزلت عليه والمرسلات، فإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه وإن فاه لرطب بها إذ وثبت علينا حية، فقال النبي ﷺ:اقتلوها، فابتدرناها، فذهبت، فقال النبي ﷺ:وُقِيتْ شرَّكم كما وُقيتم شرَّها"[1]، وأخرجه مسلم أيضاً من طريق الأعمش.
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس عن أمه أنها سمعت النبي ﷺ يقرأ في المغرب بالمرسلات عُرفً[2].
وفي رواية مالك عن ابن عباس: أن أم الفضل سمعته يقرأ:وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا[سورة المرسلات:1]، فقالت: "يا بنيّ، أَذْكَرْتني بقراءتك هذه السورة، إنها لآخر ما سمعتُ من رسولِ الله ﷺ يقرأ بها في المغرب"[3]، أخرجاه في الصحيحين من طريق مالك به.
هذه السورة من السور النازلة بمكة، وهذا الحديث -أو الأثر- يدل على ذلك، حينما كان النبي ﷺ في غار بمنى، وابن مسعود ممن تقدم إسلامه، والسورة إذا قيل: إنها مكية فالأصل أنه لا يستثنى منها شيء إلا بدليل، وبعض أهل العلم -وهو مروي عن بعض السلف- قالوا: يستثنى من ذلك آية واحدة وهي قوله -تبارك وتعالى- فيها:وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ[سورة المرسلات:48].
وهو خلاف الأصل، فالسورة نازلة بمكة من أولها إلى آخرها، وهذه السورة -سورة المرسلات- تتحدث عن اليوم الآخر بجملتها، وما يحصل فيه من الأهوال والأوجال وتغير نظام هذا العالم العلوي والسفلي، وما يحصل بعد ذلك من الجزاء الذي يلقاه أهل الإيمان وغيرهم، تتحدث عن هذه القضية، وما ذكر فيها سوى ذلك فإنما هو لتقرير هذا المعنى وإلزامهم، مثل قوله:أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ[سورة المرسلات:20-21] إلى آخره، فهو يقررهم بهذا، أنّا خلقناكم بهذا الخلق، وأنشأنا خلقكم، ونحن قادرون على البعث والإعادة من جديد، وأنتم لم تُخلقوا هذا الخلق عبثاً وسدى، فهي تتحدث عن هذه القضية قضية البعث وما يحصل فيه.
وذكر هنا أن النبي ﷺ قرأها في المغرب، نستفيد من هذا أن القراءة في المغرب ليست دائماً بقصار السور، قرأ النبي ﷺ بالمغرب، وبالطور، وأكثر من هذا قرأ بالأعراف، فملازمة قصار السور في صلاة المغرب دائماً خلاف السنة، لكن لو قيل: إن ذلك هو الغالب كان هذا صواباً.
قال ابن أبي حاتم عن أبي هُرَيرة:وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا قال: الملائكة.
ورُوي عن مسروق، وأبي الضحى، ومجاهد -في إحدى الروايات- والسّدي، والربيع بن أنس مثلُ ذلك.
ورُويَ عن أبي صالح أنه قال: هي الرسل، وفي رواية عنه: أنها الملائكة، وهكذا قال أبو صالح في العَاصِفات والنَّاشِرات والفَارِقات والمُلْقِيات: إنها الملائكة.
الآن انظروا إلى ما ذكره الله ، وكيف كان التعقيب فيه بالفاء أو الواو، فالواو في مبتدئه لا شك أنها للقسم، فالله أقسم بهذه الأمور، فقال:وَالْمُرْسَلاتِ أقسم بالمرسلات، ثم عقب بالفاء قال:فَالْعَاصِفَاتِالأمر الذي يشعر بأن العاصفات تتعلق بالمرسلات.
ثم قال:وَالنَّاشِرَاتِفالواو واو قسم، أقسم بالناشرات، ثم قال:فَالْفَارِقَاتِ[سورة المرسلات:4] الأمر الذي يشعر أن الفارقات هي متعلقة بالناشرات، ثم قال:فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا[سورة المرسلات:5]، وكذلك أيضاً فالفاء تشعر بما سبق، فهذه الأمور المذكورة هنا المرسلات والعاصفات والناشرات والفارقات والملقيات، هل هي شيء واحد أو أنها مختلفة في المعنى؟ هذا فيه كلام كثير للسلف ، والحافظ ابن كثير نقل طرفاً من ذلك هنا أو أشار إليه، والمراد بالعُرف في قوله تعالى:وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًايحتمل معنيين:
يحتمل أن يكون ذلك بمعنى التتابع، كما يقال في عُرف الفرس وعُرف الديك.
ويحتمل معنى آخر، وهو العرف الذي يقابل المنكر، يعني المعروف يقال له: عرف، ذلك من العرف، أي: من المعروف، لا يذهب العرف بين الله والناس يعني: لا يذهب المعروف، لا يضيع عند الله وعند الخلق، إذا كان العرف يحتمل المعنيين -المعروف أو التتابع- فانظر كيف تركّب المعاني، المرسلات: منهم من يقول وهو المشهور جداً: المرسلات هي الرياح، فإذا قلنا: إنها الرياح هل يركب معها تفسير العرف بالمعروف؟ هل يتلاءم؟ لا، فالذي يتلاءم معها هو التتابع،وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًاأي: أن الرياح تأتي متتابعة، أقسم الله بالرياح، عرفاً أي متتابعة، في حال كونها متتابعة، فإذا فسرناه بالرياح فالعاصفات عصفاً لا شك أنها الرياح تعصف عصفاً، أي: شدة هبوبها فهي تعصف، تكون قوية بحركتها ولها صوت في الكثير الغالب من الأحيان، ولربما حصل بسبب ذلك عصف ببعض الخلق من الناس ودوابهم ودورهم أو غير ذلك، يعني ليدخل فيه من قال: تعصف بالناس، أو بمن تُرسَل عليهم عذاباً.
ومن أهل العلم من قال: إن المرسلات بمعنى الملائكة، هذه يأتي معها معني متتابعة، والأحسن منه أن يقال: عرفاً أي: أرسلت بالعرف بالمعروف، ففي الملائكة أليق أن يفسر بالمعروف، العرف بالمعروف، المرسلات أي: الملائكة تُرسَل بالمعروف، والله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس، فهم الذين ينقلون رسالات الله ووحيه إلى البشر، وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًاالملائكة تنقل رسالات الله تأتي بهذا العرف بهذا المعروف ضد المنكر، فالعاصفات: بعض أهل العلم نقل الإجماع على أن العاصفات هي الرياح، فيكون المرسلات الملائكة والعاصفات هي الرياح، وبعض أهل العلم قال: لا، العاصفات هي الملائكة، وهذا عجيب بعضهم ينقل الإجماع، وبعضهم يقول: لا، العاصفات ليست هي الرياح وإنما هي الملائكة أيضاً، لشدة سرعتها في النزول والطيران تعصف عصفاً بسرعتها، وسواء قيل: إن المرسلات الملائكة عموماً أو جبريل أو غيره فالمقصود أنهم الملائكة على هذا التفسير، والعرف هو المعروف، تأتي بالعرف بالمعروف، فهذان قولان: الرياح وهو المشهور، والملائكة، ومنهم من يقول: الرسل من الآدميين، وهذا وإن كان يحتمله اللفظ إلا أنه أبعد من سابقيْه، وذلك أنه لم تجر العادة بأن الرسل من الآدميين يجمعون على المرسلات، وإنما يقال: "المرسلين"وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ[سورة الفرقان:20] ولم يجمع على المرسلات قط، ولا حاجة لأن يؤول المرسلات بجماعات الرسل، فهذا تأويل فيه بُعد وتكلف، إذن هذا المعنى وإن كان يمكن أن يحتمله اللفظ لكنه بعيد.
وبعض أهل العلم يقول ككبير المفسرين ابن جرير الطبري: إن الله ما حد شيئاً دون شيء، وأقسم بالمرسلات، فالمرسلات: الرياح مرسلات:وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ[سورة الحجر:22] تكون بين يدي المطر، والله أرسل الملائكة أرسلهم إلى الأنبياء بالوحي، وأرسلهم أيضاً بأمور أخرى فيما أراد الله أن يكلفهم به في تدبير أمر هذا العالم، هذا المرسلات، ومنهم الذين يسوقون الرياح، ولهذا من قال: إن العاصفات هي الرياح قالوا: أصلاً هذه الرياح تسوقها الملائكة وتدبرها، فالملائكة والرسل من الآدميين كل هذا يدخل على كلام ابن جرير في أن الله أقسم بالمرسلات، لاحظتم أن هذا لا يخص به معنى دون معنى؛ لأنه لا يقوم عليه دليل، فالمرسلات عرفاً يدخل فيه ما يرسله الله من الرياح، والملائكة، والرسل من الآدميين -عليهم الصلاة والسلام-، وإذا أردنا أن نطلق الخيال أو أن نفسر اللفظة بما يمكن في كلام العرب فلك أن تتصور ما هي الأشياء التي يمكن أن تُرسَل: الملائكة، والرسل من الآدميين، والرياح، والصواعق وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء[سورة الرعد:13]، وقال:تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا[سورة مريم:83] الشياطين، فكل هذا يوصف بالإرسال، كله موصوف بالإرسال، لكن ركِّبْه مع ما بعده وهو قوله:عُرْفًافالذي يصلح مع هذا شيئان: الملائكة والرسل من الآدميين، ويَبعد القول بأن المراد الرسل، ما الذي يُبعده؟ أنه لم يُعهد أن يجمع ذلك على المرسلات، لكن يمكن أن يقال؛ لدخوله ضمن أمور كثيرة ولم يخص وحده حتى يقال: إنه لم يُعهد جمعه بهذا.
وإذا فسرناعُرْفًابالتتابع فلا شك أن هذه جميعاً ممكن أن تفسر بهذا، الصواعق، وغيرها، والشياطين وكذا، لكن إذا نظرت إلى ملحظ في المعنى وهو أن القسم إنما يكون بمعظم -كما هي القاعدة- فلا يدخل في ذلك الشياطين، ويدخل فيه الرياح، ويدخل فيه الرسل من الملائكة -عليهم الصلاة والسلام-، والرسل من الآدميين، فكل ذلك يمكن أن يدخل فيه، فإذا أردنا أن نرجح معنى من هذه المعاني فأولاها وأقربها إلى ظاهر اللفظ والسياق هو الرياح، لاسيما أن الله ذكر العصف بعده قال:فَالْعَاصِفَاتِ وهي الرياح قطعاً، وإذا أردنا أن نوسع المعنى نقول: أقسم الله بالمرسلات فيدخل فيه هذه الأمور، والعاصفات تكون في الرياح الخاصة،وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًايقول: قال -يعني عن أبي هريرة-: الملائكة، وروي عن مسروق وأبي الضحى وغير هؤلاء أيضاً ومجاهد في إحدى الروايات والسدي والربيع بن أنس، وقال: وروي عن أبي صالح أنه قال: هي الرسل، يعني: من الآدميين، وفي رواية عنه: أنها الملائكة، وبعضهم يقول: المرسلات هي السحاب الله يرسلها بالمطر.
قال أبو صالح في العاصفات والناشرات والفارقات والملقيات: إنها الملائكة، الملائكة تكون عاصفات بسرعة طيرانها وهبوبها وصعودها، بهذا الاعتبار، لكن هذا مستبعد، فالعاصفات هي الرياح.
وقال الثوري عن سلمة بن كُهيل عن مسلم قال: سَأل ابنَ مسعود عنوَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًاقال: الريح.
هذا قول الجمهور.
وكذا قال:فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا[سورة المرسلات:2-3] إنها الريح، وكذا قال ابن عباس ومجاهد وقتادة، وقطع ابن جرير بأن العاصفات عصفاً هي الرياح.
وهذا كما قلت: بعض أهل العلم قال: من غير خلاف، مع أنه يوجد فيه خلاف.
كما قاله ابن مسعود ومن تابعه.
بعضهم يقول: الملائكة الموكلون بالريح، يعني العاصفات، يعصفون بها، أو يعصفون بروح الكافر.
وبعضهم يقول: العاصفات هي الآيات المهلكة مثل الزلازل والبراكين، وما أشبه ذلك من هذه الأمور التي يحصل بها هلاك كثير من الخلق، فهذه هي العاصفات.
فتبيّن لكم وجه هذا أو هذا، وما يبنى عليه كل قول من هذه الأقاويل، فتكون وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًاكما قلت: إما أن تحمل على العموم أو الرياح، والعاصفات هي الرياح.
ثم قال:وَالنَّاشِرَاتِفإذا أعدناه إلى ما سبق أيضاً إذا قلنا: إن المرسلات هي الرياح، يمكن أن يقال: هذه أيضاً هي الرياح تنشر السحاب وتفرقه، ويمكن أن يقال غير هذا كما سيأتي، لكن في قوله:وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًاجاءت منصوبة كما ترون، وأيضاً منونة، فيمكن أن تكون مفعولاً لأجله بمعنى: والمرسلات لأجل العرف، فهذا لا يمكن إلا أن تكون من العرف بمعنى المعروف، وهذا أي الملائكة أو الرسل من الآدميين-عليهم الصلاة والسلام-، لأجل العرف،وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًالأجل العرف ضد المنكر، وإذا قلنا: إنه حال وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًاأي: متتابعة فهذا يصلح بالمعنى الثاني، وهو أوسع من المعنى الذي قبله.
أو إذا قلنا:وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًاالمرسلات إرسالاً يكون مصدراً، والمصدر معروف أنه يكون من غير لفظه أحياناً، فيكونوَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًاوالمرسلات إرسالاً، فهذا يدخل فيه هذا وهذا، يعني: يصلح للمعنيين اللذين ذكرناهما في المرسلات، والله تعالى أعلم.
ويمكن أن يكون أيضاً بنزع الخافض، يعني ينصب بنزع الخافض، الخافض الذي هو حرف الباء هنا مقدر، تقول:وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًاوالمرسلات بالعرف، فإذا حذف حرف الجر "الباء" صار وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا انتصب ما يُجر بحرف الباء، والله أعلم.
وتَوقّف فيوَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًاهل هي الملائكة أو الريح كما تقدم، وعن أبي صالح: أن الناشرات نشراً هي المطر.
والأظهر أن المرسلات هي الرياح كما قال تعالى:وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ[سورة الحجر:22]، وقال تعالى:وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ[سورة الأعراف:57].
هنا قال الله :وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ،وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا[سورة الأعراف:57] في القراءة الأخرى "نُشراً" بالنون، يعني: أنها تنشر السحاب وتفرقه، أو تفرق المطر، تنشر المطر.
- رواه البخاري، كتاب جزاء الصيد، باب ما يقتل المحرم من الدواب، برقم (1830)، والإمام أحمد في المسند، برقم (4063)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
- رواه البخاري، كتاب المغازي، باب مرض النبي ﷺ ووفاته، برقم (4429)، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب القراءة في صلاة المغرب، برقم (831)، وأحمد في المسند، برقم (26868)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
- رواه البخاري، كتاب الأذان، باب القراءة في المغرب، برقم (763).