"أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [سورة النازعات:1 - 14]."
هذه السورة سورة النازعات هي من السور المكية، وهذه السورة أيضاً تسمى بالطامة، وبالساهرة، ولكن الاسم المشهور هو النازعات، ويقال أيضاً: والنازعات.
وموضوع هذه السورة: هي تتحدث أيضاً عن البعث والنشور، وعن قدرة الله على ذلك، وعن تكذيب هؤلاء الكافرين بهذه العقيدة، وما ذكره الله فيها من خبر موسى ﷺ: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [سورة النازعات:17]، فإن ذلك - والله أعلم - من أجل أن هؤلاء الذين كذبوا بالبعث من الذين بُعث فيهم رسول الله ﷺ، متوعَّدون ببأس الله، وبطشه، وعقوبته، ونكاله، كما فعل بفرعون حيث أخذه الله نكال الآخرة، والأولى، فموضوع السورة هو البعث، والنشور.
قوله: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا، ما نقله هنا عن هؤلاء الصحابة والتابعين من أن المراد بذلك الملائكة هذا هو قول الجمهور، لكن بعضهم يورده مطلقاً، يقول: الملائكة تنزع الأرواح، وبعضهم يقيده في الأول وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا يقول: تنزع أرواح الكفار، يقيد ذلك بالكفار، وفي الثاني وَالنَّاشِطَاتِ يقيده بالمؤمنين كما سيأتي، وذلك أن النزع كما يقول أهل اللغة - وذكره الحافظ ابن القيم - رحمه الله -: هو جذب الشيء بشدة، نزعه من يده: أخذه، وجذبه جذباً قوياً، هذا هو حقيقة النزع، وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا، ومن ثَمّ قال من قال: إن المراد الملائكة تنزع أرواح الكافرين؛ لأنها تتفرق في أجسادهم، فتنزعها الملائكة نزعاً كما يُنزع السَّفُود - كما قال النبي ﷺ من الصوف المبلول، تُنزع من أقاصي الجسد، ولا يبعد أن يكون قول من قال: إنها الملائكة بإطلاق أنهم يقصدون في الأول يعني تنزع أرواح الكافرين، وفي الثاني تَنشِط أرواح المؤمنين، من أجل أن لا يكون هناك تكرار، لا يكون الثاني هو عين الأول، وذلك أن النشط كما سيأتي أخف من النزع، وهؤلاء أهل لغة ويميزون بين هذه المعاني، فقالوا: تنزع أرواح الكافرين، وتجذبها بقوة جذباً شديداً، كما يشد الرامي بالقوس السهم إلى آخر مداه، كيف يكون القوس؟ يجذبه إلى آخر المدى إذا أراد أن يرمي، وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا تجذبها جذباً قوياً من أقاصي الجسد، وهذا قول الجمهور، وبعضهم يقول كالسدي: إنها النفوس، النازعات هي النفوس حين تغرق في الصدور، وبهذا الاعتبار يكون النازعات من قبيل اللازم، وليس المتعدي، يعني إذا قلنا: الملائكة تنزع الأرواح فهذا متعدٍّ، أما إذا قيل: هي النفوس تغرق في الأجساد فيكون من قبيل اللازم، الفعل بمعنى الفعل اللازم، بمعناه وإن لم يكن لفظ النازعات فعلاً، هذا قول السدي وفيه بُعد، وهو خلاف قول عامة أهل العلم على تفرق أقوالهم.
ومنهم من يقول كمجاهد: هو الموت ينزع النفوس، وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا، الموت ينزع النفوس هذا يمكن أن يُربط بالمعنى الأول بوجه من الوجوه، باعتبار أن الملائكة تستخرج النفوس من الأجسام، تنزعها نزعاً قوياً عند الموت، فيكون عبّر بالموت بهذا الاعتبار، لكن الموت أن يأتي الملك، وينتزع الروح، قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ [سورة السجدة:11]، وليس الموت بنفسه هو الذي يخرج الروح، تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ [سورة الأنعام:61]، أعوان ملك الموت، على أحد القولين، أو أن المقصود بالمجموع واحد، وهو ملك الموت، والأقرب: أنه ملك موكل بذلك، وله أعوان.
وبعضهم كقتادة والحسن يقول: وَالنَّازِعَاتِ هي النجوم، تنزع من ناحية إلى ناحية، من المشرق إلى المغرب، وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا، فيكون معنى ذلك حينما تتهيأ للمغيب فإن ذلك يكون، تنزع من أفق إلى أفق، فغرقا يعني: غروب هذه النجوم، فهي تغرب وتغيب وتطلع من أفق لآخر، وهذا قال به جمع من أصحاب المعاني كأبي عبيدة معمر بن المثنى في كتابه مجاز القرآن، وكذلك قال به الأخفش، وغير هؤلاء.
وبعضهم يقول كعطاء، وعكرمة: إن النازعات هي القِسِيّ، ويقال: القَسي بلغة أهل مصر قديماً قَسي، والمشهور عند المحدثين القِسي، هي القِسي حينما تنزع بالسهام، فهو الرامي يبلغ بها إلى المنتهى إذا أراد الرمي، وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا، باعتبار أنها تنزع بالسهام، القسي تنزع بالسهام، فنسب ذلك إليها، قيل: والنازعات، مع أن بعض أهل العلم يقول: هنا لابد من تقدير إضافه إليها، يعني: ذوات النزع، يعني ينزع بها، لكن إذا قيل: تنزع بالقسي، يكون ذلك من صفتها، ولا يحتاج إلى تقدير.
وبعضهم يقول: المراد بالنازعات الغزاة والرماة، أقسم الله بهم، ألا إن القوة الرمي [1]، وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ [سورة الأنفال:60]، وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا، عند الرمي والشد للقوس والوتر.
وهذه أقاويل، والمشهور أن الأقسام هذه في هذه المواضع الخمسة أنها جميعاً في الملائكة، هذا قول الجمهور من السلف فمن بعدهم، وهو قول المحققين، وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا، وهنا حذف المفعول في جميع هذه المواضع، وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا، أنها تنزع ما ذكر، وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا، بماذا؟، وهكذا وَالسَّابِحَاتِ وفَالسَّابِقَاتِ لم يُذكر مفعول.
ابن القيم - رحمه الله - يقول: العلة في ذلك هي أن المقصود هو هذا الفعل لا المفعول، فلم يذكر من أجل أن لا تتوجه الأذهان إلى المفعول فيظن أنه هو المقصود، وإنما المقصود هذا الفعل الذي هو النزع، والنشط، والسبح، والسبق، والتدبير، وما إلى ذلك مما يكون هو المراد بهذا الموضع، يعني: المقصود الأفعال وليس المفعول، فقال الله: وَالنَّازِعَاتِ ما قال: والنازعات لأرواح الكافرين، والناشطات لأرواح المؤمنين، وإنما اكتفى بالفعل.
وابن القيم - رحمه الله - رجح أن المقصود الملائكة، والقرينة على ذلك أن ما بعده في الآخر وهو قوله: فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا المقصود به الملائكة بالإجماع، قالوا: هذا كله جاء على نسق واحد، ثم جاء أيضاً بعضه بالعطف بالفاء مما يدل على أنه يرجع لما قبله، فكل ذلك واحد له أفعال، وأوصاف متعددة، فيكون من قبيل عطف الأوصاف، والأوصاف تعطف تارة بإسقاط حرف العطف، وتارة بذكر حرف العطف، إلى الملكِ القَرْمِ وابنِ الهُمامِ، ولم يقل: والقرم، وإنما قال:
إلى الملكِ القَرْمِ وابنِ الهُمامِ | وليثِ الكتيبةِ في المُزدَحَم |
أتى بالعطف وبدون العطف، مثل سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى [سورة الأعلى:1 - 2] بدون حرف عطف، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [سورة الأعلى:3 - 4]، فتارة يُسقَط حرف العطف، وتارة يذكر، فيكون هذا من قبيل الأوصاف المتنوعة للملائكة، مع أن ابن القيم - رحمه الله - وجه الأقوال الأخرى توجيهاً حاصله: أن هؤلاء الذين فسروا كأنهم أرادوا المثال - التفسير بالمثال -، وهو توجيه لا بأس به حسن، مع أن المقصود الملائكة.
بدأ يمهد للمعنى الذي سيذكره في الجمع.
قوله: "أحق" يعني: ليس للحصر، أحق يعني: أولى به الملائكة، ولكن لا ينفي عما عداه، العبارة دقيقة.
فقول السدي: النفس الإنسانية تنزع في الجسد تغرق فيه.
يعني ما ألغى الأقوال الأخرى، قال: هذا كله يصدق عليه النزع، فكأن هؤلاء فسروا بالمثال، يعني جعله من قبيل اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد، فما احتاج إلى الترجيح بين هذه الأقوال، وإن كان يقول: إن الملائكة أحق بهذا الوصف، وأولى به.
وابن جرير لما ذكر هذه الأقوال كعادته قال: الله لم يحدد واحداً منها، فيمكن أن يكون كذا، ويمكن أن يكون كذا، ويمكن أن يكون كذا، ويمكن أن يكون كذا، يعني كأنه يرى أن تحديد أحد هذه المعاني من قبيل التحكم بغير دليل، ما عندنا دليل على أن المراد كذا، فيقول: يجوز كذا، ويجوز كذا، وطريقة ابن القيم أدق، حيث وجهها هذا التوجيه، وجعل ذلك من قبيل التفسير بالمثال، وكلام ابن القيم لا تجدونه في شيء من كتب التفسير أبداً، حتى الكلام على النفوس، يعني الذي يذكره المفسرون عادة ويناقشونه حتى الذين يُضعفون ويردون قول السدي، ويذكرون وجوهاً في تضعيفه هم يتكلمون عن أن النفس تتفرق في الجسد، ويقولون: المعنى قاصر، غير متعدٍّ، وابن القيم ذكر شيئاً آخر، انتقال النفوس، حركة النفوس، انتقال النفوس إلى ربها، كل ذلك جعله أوصافاً للنفس، لم يجعل ذلك في وصف واحد كما يقول المفسرون عادة، وهذا كثير في كلام ابن القيم - رحمه الله -.
قوله تعالى: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا، الملائكة تنزع أرواح الكفار، وعلى كلام ابن القيم في الجمع بين هذه الأقوال أن ذلك يصدق على كل ما يمكن أن يتصف بذلك، وسيأتي لهذا نظائر كثيرة، وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ [سورة البلد:3]، وَالْفَجْرِ [سورة الفجر:1]، وَالْعَصْرِ [سورة العصر:1]، فالحاصل أن هنا وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا، غرقاً هنا بعضهم يقول: مصدر، وابن القيم يقول: اسم مصدر، وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا، مصدر، أو اسم مصدر أقيم مقام المصدر، يعني إغراقاً، وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا أي: إغراقاً، إغراقاً في النزع، إذا قلنا: الملائكة تنزع الأرواح من الأجساد، أو أرواح الكفار يكون إغراقاً في النزع، حيث تنزعها، تنزع الأرواح من أقاصي الأجساد، أو أنه حال يعني: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا أي: ذوات إغراق، معنى أغْرَقَ في الشيء: أوغل فيه، وبلغ مداه، وغايته، ونهايته، وهذا الإغراق، تقول: أغرق في هذه المسألة، أغرق في هذه القضية، أغرق في هذا الموضوع، يعني بلغ مداه، بلغ المنتهى، ومن ثَمّ فسره من فسره بنزع القِسِيّ، باعتبار أن الرامي يشد الوتر، ويجذب القوس إلى المنتهى، وهكذا وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا يعني: الملائكة تنزع الأرواح من أقاصي الأجساد، فتستوفيها، ولذلك إذا الإنسان بدأ بالموت تبدأ أطرافه السفلية تتلاشى منها الحياة شيئاً فشيئاً حتى تبلغ الروح التراقي - الحلقوم -، فيكون الجسد انتهى، تتوقف وظائف الكبد، والكلى، ثم تتوقف الرئتان، ثم بعد ذلك يبدأ يغرغر ويحشرج، ثم بعد ذلك يزيغ البصر لا يتحكم فيه صاحبه، فتخرج روحه، فهذا معنى تستخرج الروح من أقاصي الجسد، وهنا وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا أي: إغراقاً في النزع، حيث تنزعها من أقاصي البدن، وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا.
"وأما قوله تعالى: وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا فقال ابن مسعود: هي الملائكة.
ورُوي عن علي، ومجاهد، وسعيد بن جُبَير، وأبي صالح مثلُ ذلك."
وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا قال ابن عباس: يعني الملائكة تنزع الأرواح، يعني: تَنشِط النفوس، يعني: تخرجها من الأجساد، كما يُنشَط العقال الذي يربط بيد البعير، فإذا حُلّ نهض البعير، يقال: فلان كأنما نشِط من عقال، يعني: كأنما أُطلق وثاقه، فقام ليس به بأس، فإذا حُل هذا القيد نشِط صاحبه، أو نشِط البعير، ويقال: نَشَطَ الرجلُ الدلوَ، يعني: أخرجها من البئر، والنشاط هو الجذب بسرعة.
فالنازعات الملائكة، والناشطات أيضاً الملائكة تنزع الأراوح، تجذب الأرواح من الأجساد، والفرق بين الأول، والثاني: أن النزع جذب بقوة، وشدة، والنشط دونه كما يقول الواحدي في الفرق بينهما، فنزع أرواح الكفار يكون بشدة، وعنف، وقسوة، وأما أهل الإيمان فإن ذلك يكون برفق، وسهولة، ولين، إذاً الله أقسم بالنازعات، وبالناشطات، فالملائكة تنزع الأرواح بشدة تناسب الكفار، وبرفق، ولين يناسب أهل الإيمان، والذين يقولون: الملائكة تَنشِط النفوس تخرجها من الأجساد، كما يُنشَط العقال من يد البعير إذا حُلّ عنه، ونَشَطَ الرجلُ الدلوَ من البئر، يعني: أخرجها، هذا الجذب هذا معنى النشط.
بعضهم كمجاهد يقول: هو الموت يَنشِط نفس الإنسان، وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا، الموت، ووجهتُ لكم هذا من قبل في النازعات، باعتبار أننا إذا قلنا: الناشطات هي الملائكة تستخرج الأرواح، فإذا استخرجت الأرواح ما الذي يحصل نتيجة ذلك؟ هو الموت، فالموت ليس هو الذي يستخرجها، إنما الذي يستخرجها الملَك، فعبارة مجاهد لا تخرج عن هذا القول في مؤداها وحقيقتها، وإن كان اللفظ يختلف، فمجاهد - رحمه الله - لا يقول: إن الموت هو الذي يخرج الأرواح، وإنما الذي يخرجها الملَك، كما قال الله .
السُّدي جرى على قوله السابق في النازعات، فقال: وَالنَّاشِطَاتِ هي: النفوس، حيث تُنشَط من القدمين يعني: تبدأ الحياة تنسل من القدمين، لا أن الروح تخرج من القدمين، فروحه تخرج من فمه، لكنها تبدأ من القدمين، تبدأ الحياة تنسل، تخرج ابتداءً من القدمين إلى أعلى، وهكذا.
عكرمة، وعطاء يقولون: هي الأوْهاق.
قتادة، والحسن، ومن أصحاب المعاني الأخفش يقولون: هي النجوم، النجوم حيث تنشِط من أفق إلى أفق، مثلما قالوا في النازعات، وهذا سيكون على هذا الاعتبار تكراراً.
أيضاً أبو عبيدة في مجاز القرآن، وقبله قتادة يقولون: هي الوحوش، حيث تنشِط من بلد إلى بلد، ومن ناحية إلى ناحية، تنتقل، ترتحل، تهاجر، وبعضهم يقول: هي أرواح المؤمنين حينما تُستخرج، فذلك إخراج الملائكة لها - كما سبق -، بخلاف الكافرين فإنها تُنزع فيناسبها ما سبق، وهذا هو الأقرب - والله تعالى أعلم - أن الناشطات هي الملائكة، وصفت بهذا في متعلق خاص، وهو استخراجها لأرواح المؤمنين، حيث تستخرجها برفق، فتنسل الروح كما تنسل القطرة مِن فِي السِّقاء، بسهولة، ورفق، ولين.
هذا جميعاً في الملائكة، وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا يعني: الملائكة، باعتبار أنها تسبح في الفضاء، تحلق في الفضاء، لما أمرها الله به، يعني: أنها تأتمر بأمره، فتسبح في هذا الفضاء الواسع الهائل امتثالاً لأمر الله - تبارك وتعالى -، فأقسم بالملائكة بهذه الصفة، وبعضهم يقول: الملائكة تسبح في الأبدان لإخراج الروح، كما يسبح الغواص في البحر لإخراج شيء منه، وهذا قد لا يكون، السبح هو من صفة الملائكة، لكن هل الملائكة تدخل في داخل البدن حتى تستخرج الروح؟ هذا أمر غيبي، الله أعلم به، فلا حاجة لهذا الإيغال في معنى لم يرد عليه دليل، وإنما ذلك من صفة الملائكة، والذي يذكره عادةً أهل العلم يقولون: تسبح في الفضاء، تنزل، وتصعد امتثالاً لأمر الله - تبارك وتعالى -؛ ولهذا قال مجاهد وأبو صالح: الملائكة ينزلون من السماء مسرعين لأمر الله .
وبعضهم يقول: هي الخيل تسبح في الغزو، فأقسم الله بها.
وبعضهم كقتادة والحسن يقولون: النجوم تسبح في أفلاكها، وبعضهم يقول: هي السفن، كل هذه أقوال على طريقة ابن القيم في توجيه النازعات، ولو أردنا أن نسير على هذا المهيع فنقول: إن ذلك يصدق على كل ما يتصف بهذه الصفة - السبح - من السفن، والخيل في الغزو، والأفلاك، والنجوم هذه التي تسبح بهذا الفضاء، وأحق من وصف بذلك، وأحق من يصدق عليه هذا على أتم الوجوه وأكملها الملائكة - عليهم السلام -؛ ولهذا ابن جرير - رحمه الله - لما ذكر هذه المعاني فعل كما فعل في النازعات، ذكر المعاني، وقال: الله لم يحدد معنى، يجوز أن يكون كذا، ويجوز أن يكون كذا، ويجوز أن يكون كذا، لكن الذي عليه الجمهور أنها الملائكة في خصوص نزع الأرواح، وإذا قلنا: إن التأسيس مقدم على التوكيد كما هي القاعدة يكون النزع أقوى، فيكون مناسباً لأرواح الكفار، والنشط أسهل فيكون ذلك في أرواح المؤمنين، وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا.
وقوله: فَالسَّابِقَاتِ، قال: رُوي عن عليٍّ، ومسروق، ومجاهد، وأبي صالح، والحسن البصري، يعني: الملائكة، هذا أيضاً قول الجمهور، فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا بعضهم يقول كمسروق، ومجاهد: الملائكة تسبق الشياطين بالوحي، وهذا رده المحققون من أهل العلم، قالوا: لا يمكن؛ لأن الشياطين كما قال الله : إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [سورة الشعراء:212]، لا يمكن أن يسترقوا الوحي الذي ينزل على الرسل، لكن يمكن أن يسترقوا الخبر الذي يكون في أمور كائنة، أو نحو ذلك، يتخطفون السمع، فينزلون به على الكاهن، لكن الوحي الذي ينزل على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - لا يتأتى للشياطين، فهذا المعنى بعيد.
وبعضهم كأبي رَوْق يقول: هي الملائكة سبقت ابن آدم بالخير، والعمل الصالح، وهو مروي أيضاً - أو قريب منه - عن غيره كمجاهد، ومقاتل يقول: هي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة، فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا، تسبق بأرواحهم، تسرع بها إلى الجنة، فلا يمهلونها بيد ملك الموت، فيأخذونها، ويجعلونها في حنوط من حنوط الجنة، كما جاء عن النبي ﷺ.
وبعضهم كالربيع يقول: هي نفوس أهل الإيمان تسبق إلى الملائكة شوقاً إلى الله ، يعني هي تريد أن تخرج بسرعة من أجل شوقها إلى ربها - تبارك وتعالى -.
وبعضهم يقول: هو الموت يسبق الإنسان، وهذا مروي عن مجاهد.
وبعضهم يقول: هي النجوم يسبق بعضها بعضاً في السير، وهو مروي عن قتادة، والحسن، ومعمر بن راشد.
وبعضهم يقول: هي الخيل التي تسبق إلى الجهاد، كما يقوله عطاء.
وبعضهم يقول: هي الأرواح التي تسبق الأجساد إلى الجنة، أو النار، وتعذب قبل الأجساد.
وهذه أقاويل، وقيل غيرها أيضاً، والمشهور الذي عليه الجمهور أنها الملائكة، فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا تسبق في امتثال أمر الله وتحقيق مراده، تمتثل مسرعة، مُسابِقة بلا تأخر، ولا تباطؤ، ولا تردد، ولاحظْ هنا أن الله عطف بالواو، قال: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا، ثم بالفاء فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا، فبعضهم يقول: وعطف السابقات بالفاء؛ لأنها مسبَّبة من التي قبلها، يعني: الملائكة تسبح، فتسبق إلى أمر الله - تبارك وتعالى -، وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا فَالسَّابِقَاتِ، تسبح، فتسبق، فتكون الفاء كأنها للتعليل، أو السببية، يعني كأن الذي بعدها مرتب على الذي قبلها، سبحت، فسبقت، هكذا قال بعضهم، ولكن اعترض على هذا بالمدبرات، قالوا: هل المدبرات مرتب على ما قبله؟ هل السبق للتدبير؟ وبعضهم قال: نعم، سبقت امتثالاً لأمر الله ، سبحت فسبقت فدبّرت ما أُمرت به، ووُكل إليها تدبير.
وبصرف النظر عن العطف بالفاء، فإن الجمهور على أن السابحات هي الملائكة، وأن السابقات أيضاً هي الملائكة، وكل ذلك في الملائكة، أما المدبرات فبالإجماع أنها الملائكة.
ويقول هؤلاء: إن السبق يكون من أجل التدبير، هذا للأرواح، وهذا للقطر، وهذا للوحي، وهذا لغير ذلك من الأعمال التي أناطهم الله بها، وأناطها بهم.
- رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الرمي والحث عليه، وذم من علمه ثم نسيه، برقم (1917).
- التبيان في أقسام القرآن، لابن القيم (ص:134).
- المرجع السابق.
- المرجع السابق.
- المرجع السابق (ص:135)