قبل هذا قالوا: تلك إذاً كرة خاسرة يعني إذا رجعنا من جديد أحياء بعد أن نموت لنخسرن، هذا يقوله الكفار المكذبون بالبعث، يعني تلك الرجعة إن حصلت؛ فالخسارة بها متحققة، يعني هي رجعة خاسرة، أي ذات خسران؛ لأن مصيرهم سيكون البوار، والهلاك.
ولهذا يقول ابن جرير: خاسرة أي غابنة، وغابنة بمعنى خاسرة؛ لأن الخسران، والغبن هو الذي يكون في البيع، والشراء، والتجارة، والله سمى المعاملة معه تجارة، وبيعاً وشراء؛ ولهذا سمى يوم القيامة بيوم التغابن لما يحصل فيه من الغبن الشديد، والتفاوت العظيم بين الناس، فهذا يأتي بأعماله، وهذا يأتي بأعماله، هذا قد استغرق الأنفاس، والليالي، والأيام حيث اشترى بذلك منزلاً في النار، ولم يكن الأمر على ذلك فحسب، بل ورث منزل ذاك الذي في الجنة من النار، وهذا قد استغل الأوقات، والأنفاس في مرضات الله ، وجاء بالأرباح، والأعمال الطيبة الزاكية، فأورثه ذلك دار النعيم المقيم، وليس ذلك فحسب بل إنه ورث منزل ذاك الذي في النار من الجنة.
هذا غبْن، هذا يرث منزله في النار، وذاك يرث منزله في الجنة، هذا غبْن عظيم جداً، فهذا من معاني التغابن الواقع في ذلك اليوم، والمعنى أن هؤلاء الكفار يقولون: إنْ رُددنا بعد الموت لنخسرن بما يصيبنا مما يقوله محمد من الجزاء والجنة، والنار والحساب... الخ، صفقتنا ستكون خاسرة، هذا هو المعنى المشهور الذي عليه أهل العلم.
وبعضهم فسر خاسرة يعني كاذبة، قال: إن ذلك قالوه إمعاناً في التكذيب "تلك إذاً كرة خاسرة" قالوا: كاذبة لا وقوع لها بحال من الأحوال، وهو منقول عن الحسن، وبعضهم يقول: "تلك إذاً كرة خاسرة" يعني على من كذب بها، وهذا يرجع إلى المعنى الأول الذي ذكرناه.
وهذا فيه زيادة بيان فقط، أنها ليست خاسرة على الجميع، وإنما خاسرة على المكذبين، وهذا أمر بيّن لا خفاء فيه، هذه عبارة الربيع بن أنس، وعبارات السلف في هذا متقاربة.
يعني قول من قال: لئن رجعنا بعد الموت لنخسرن بالنار يرجع إلى المعنى الأول، وهذا منقول عن قتادة ومحمد بن كعب القرظي.
فإنما هي زجرة يعني الأمر يسير ما هي إلا زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة، وبعضهم يقول: فإنما هي زجرة واحدة هذا يرجع إلى الرادفة التي هي النفخة الثانية، بمجرد زجرة واحدة، صيحة واحدة نفخة، واحدة يرجع الناس إلى الحياة من جديد.
هذه الآيات تفسر "فإنما هي زجرة واحدة".
هذا كله يرجع إلى معنى واحد فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ يعني: إذا هم على وجه الأرض أحياء، وظهر الأرض تسميه العرب الساهرة، وسبب هذه التسمية بعض أهل العلم يقول: لأنه يكون عليها السهر، والنوم، فعُبر بأحدهما، الساهرة يعني الأرض يكون عليها السهر، ساهرة فيها نوم الحيوان، وسهره، الحيوان يعني كل الأحياء ينامون، ويسهرون، فسميت بالساهرة فوصفت بصفة مَن عليها من الأحياء، بأحد أوصافهم.
وبعضهم يقيد ذلك بما يتصل بالسهر، يقولون: إن ساهرة هنا -كقول من قال بأنها الأرض المستوية - المراد بها الأرض الفلاة الواسعة، يقال لها: ساهرة قالوا: لأن العين تسهر فيها ترقباً وخوفاً، يكون الإنسان خائفاً، فلاة ما حوله أحد، فلاة واسعة تحتاج إلى مدة حتى يقطعها، فعادة من يمر بهذه الأماكن الخالية القفر أنه يكون في حال من الترقب، والخوف، فإذا جاء الليل ازداد خوفه، فيسهر يخاف من العوارض، والآفات، ولهذا تجدون كثيراً في كلام الشعراء يمدحون أنفسهم بالشجاعة، فيذكرون أنهم يقطعون الفلاة الشاسعة الواسعة التي لا يقطعها إلا الأبطال أصحاب القلوب القوية الثابتة، كثيراً ما يمدحون أنفسهم بقطع الفلوات الواسعة، ومن هذا ما ذكرته في عدد من المناسبات وهو البيت الذي يقوله صاحبه عن تلك الفلاة في وصفها:
بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى فَأَمَّا عِظَامُهَا | فَبِيضٌ وَأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ |
يقول: تنقطع فيها الدواب من طولها وسعتها، أو من بُعد المسافة يحصل للدواب انقطاع - كلال - من طول السير، فتُترك، فتموت فتتفسخ الجلود عن عظام بيضاء في هذه الصحراء، الجلد يكون يابساً كأنه من المعادن، كأنه قطعة حديد، أو خشب، أو نحو ذلك.
بعضهم يقول: الساهرة قيل لها ذلك باعتبار أن الأرض المستوية الواسعة الفلاة تَسهر فيها العين مترقبة لِمَا ألمّ بالقلب من الخوف، لكن الذي عليه عامة أهل العلم أن الساهرة: وجه الأرض، ابن جرير يقول: لنوم الحيوان، وسهره عليها فوصفت بصفة مَن عليها، فإذا هم بالساهرة: إذا هم على وجه الأرض الأعلى.
ولهذا قال بعضهم كما جاء عن سفيان الثوري - رحمه الله -: إن الساهرة هي الأرض التي بُدلت، التي حصل عليها التغيير والتبديل، يعني سفيان الثوري يقول: فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ أرض مخصوصة هي الشام أرض المحشر، وإن كان هو ما قال: أرض المحشر، لكن هو قال: الشام، والشام هي أرض المحشر، وبعضهم عبارته مغايرة لهذا يقول: ليست كل الأرض يقال لها: الساهرة، وإنما الساهرة هي الأرض التي بدلت فينتقلون بعد ذلك إلى هذه الأرض المبدلة فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ - فالله أعلم -.
الساهرة هي وجه الأرض، وتقييد ذلك بالشام كأنه أخذه باعتبار آخر هو أن الشام هي أرض المحشر وإلا فالأصل أن الساهرة هي وجه الأرض، فالله يتحدث ليس عن مكان محشرهم، وإنما يتحدث عن إحيائهم بعد موتهم، يعني يقومون أحياء على وجه الأرض ينظرون.