الأربعاء 23 / ذو القعدة / 1446 - 21 / مايو 2025
فَحَشَرَ فَنَادَىٰ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى [النازعات: 22] أي: في مقابلة الحق بالباطل، وهو جَمْعُهُ السحرة ليقابلوا ما جاء به موسى من المعجزات الباهرات."

ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى [النازعات: 22] بعد أن كذب وعصى، أَدْبَرَ يَسْعَى، في مقابلة الحق بالباطل، وجَمَعَ السحرة، وسعى في الكيد، ليبطل ما جاء به موسى ﷺ، هذا حاصل ما ذكره ابن كثير   - رحمه الله -.

وابن جرير - رحمه الله - يقول: يسعى: يعني في معصية الله ، وفيما يسخطه عليه، كلام ابن جرير أعم من كلام ابن كثير.

ومن أعظم معصية الله تعالى، ومما يسخط الله عليه هو الكيد،  والسعي في إبطال ما جاء به موسى ﷺ، فيكون ما ذكره ابن كثير أخص.

ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى ۝ فَحَشَرَ فَنَادَى [النازعات:22-23] الفاء تدل على التعليل، وترتيب ما بعدها على ما قبلها، وهذا يسمى بدلالة الإيماء، والتنبيه: أن يقرن الحكم بوصف لو لم يكن علة له لكان ذلك معيباً عند العقلاء، ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى ۝ فَحَشَرَ فَنَادَى فدل على أن هذا السعي يطلق، ويراد به العمل، فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [سورة الجمعة:9] يعني: اعملوا على حضور الجمعة، وترك الاشتغال عنها بالبيع، والشراء، وما إلى ذلك، وهذا كثيراً ما يأتي بهذا المعنى في كتاب الله ، وأصل السعي هو ضرب من المشي بإسراع؛ ولهذا قال النبي ﷺ: لا تأتوها وأنتم تسعون[1] يعني: تسرعون، مع قوله في الجمعة: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9]، يقول ابن كثير: أي: اعملوا على حضورها، وبادروا، وليس المراد هو الإسراع في المشي، فالمقصود أن أصل كلمة السعي فيه معنى الإسراع.

فلما سمع فرعون هذه الدعوة من موسى ﷺ يدعوه إلى توحيد الله والإيمان به، ويقول: إنما أنت عبد لله ، فأدلك عليه من أجل أن تخشاه، ذهب فرعون وجمع قومه، وقال هذه المقالة التي هي في غاية الشناعة، أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات: 24]، لكن هذا فيما يظهر كان قبل تحديد الموعد الذي تواعد به مع موسى ﷺ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [طـه:59]، فعندها دعا فرعون الناس من أجل الحضور، وحَشَرَ السحرة من أجل المضادة والعمل على إبطال ما جاء به موسى ﷺ؛ ولهذا يقول ابن جرير - رحمه الله - فَحَشَرَ فَنَادَى [النازعات: 23] يعني: جمع قومه، وأتباعه فقال لهم: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى.

"فَحَشَرَ فَنَادَى [النازعات:23] أي: في قومه، فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى [النازعات:24] قال ابن عباس، ومجاهد: وهذه الكلمة قالها فرعون بعد قوله: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] بأربعين سنة."

هذا مأخوذ من الإسرائيليات - والله أعلم -، وهذا صريح في أنه ادعى الربوبية، وفي الآية الأخرى مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، فادعى الإلهية والربوبية - قبحه الله -، وهذا يرد على من قال من المفسرين: إن فرعون قصد حينما قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24]: أنا الملِك، فمن معاني الرب: الملِك، والسيد، أي: أنا سيدكم، أنا ملككم الأعظم، ومنه قوله سبحانه: مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ [يوسف:76]، وقوله: وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ [يوسف:43]، ولا منافاة، هو ملك، وفي عهد إبراهيم ﷺ في الحديث الذي ذكره النبي ﷺ في خبره لما أراد أن يأخذ امرأة إبراهيم جاء في تسميته بالملك، فهؤلاء الفراعنة هم ملوك، ومؤمن آل فرعون قال: يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ [غافر:29]، فكان ذلك من قبيل الملك، ويدل على أنهم امتداد للأولين الذين كانوا في زمن إبراهيم، ثم في زمن يوسف - عليهما الصلاة والسلام - أن مؤمن آل فرعون قال مخاطباً لهؤلاء الفراعنة لما أرادوا قتل موسى -عليه الصلاة والسلام-، قال: وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا [غافر:34]، فدل على أن هؤلاء امتداد له، فهذا الخطاب لا يتوجه إليهم إلا إذا كان أولئك من أسلافهم، وأجدادهم، وآبائهم قطعاً، فإن الأبناء يخاطبون بخطاب الآباء إذا كانوا على طريقتهم في المذمة، وأما النعمة اللاحقة للآباء فهي لاحقة للأبناء، ولهذا تجد الخطاب كثيراً في بني إسرائيل وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ [الأعراف: 141]، والذين أنجاهم هم أجدادهم، وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ [البقرة:61]، وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: 55]، فهذا خطاب للمعاصرين للنبي ﷺ، والذين فعلوا ذلك هم أسلافهم، وأجدادهم، فكل هذا بناءً على أن الأبناء يخاطبون بخطاب الآباء إذا كانوا على طريقتهم في المذمة.

فالمقصود أن هؤلاء المفسرين يقولون: إن فرعون ما كان يدعي الربوبية؛ لأنه يوجد من كبار السن من كانوا يعرفون أن هذه الأكوان مخلوقة، وفرعون ما ولد، فكيف يكون هو الرب الأعلى؟ قالوا: بمعنى أن قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى أنا سيدكم، وهذا الكلام غير صحيح؛ لأنه هنا قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات: 24]، وقال: مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: 38]، وفعل بالسحرة ما فعل؛ لأنهم توجهوا بالعبادة إلى غيره، ويمكن أن يصل الغرور، والجنون ببعض الناس إلى أن يدعي هذا، ويجد من يصفق له، فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ [الزخرف: 54] - والله المستعان -.

وأما قوله - تبارك وتعالى - عن قيل الملأ لفرعون: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الأعراف: 127] فهذا لا إشكال فيه، فهو له آلهة يعبدها، ولكنه كان أيضاً يخاطب قومه بهذا مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: 38]، فهو يعبد آلهة، لكنه يقول: مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي، ويقول: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى - والله المستعان -.

  1. أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة، والنهي عن إتيانها سعيا (1/421)، رقم (602).