الأحد 20 / ذو القعدة / 1446 - 18 / مايو 2025
وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [النازعات: 40] أي: خاف القيام بين يدي الله ، وخاف حُكْمَ الله فيه، ونهى نفسه عن هواها، ورَدها إلى طاعة مولاها، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: 41] أي: منقلبه، ومصيره، ومرجعه إلى الجنة الفيحاء."

قوله: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ، أي: الحساب بين يدي الله -تبارك وتعالى - وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ [الأنعام: 30]، فهم يوقفون هناك، ويوقفون على النار، وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ [الأنعام: 27]، فهذه مقامات للناس في ذلك اليوم، خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ أي: يوم الحساب، كما يقوله بعض السلف كالربيع، ويقول قتادة: إن لله مقاماً قد خافه المؤمنون، وقال مجاهد: هذا في الدنيا، يخاف في الدنيا من الله عند مواقعة الذنب، فيقلع عنه، وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن: 46]، ليس المقصود خاف مقام الحساب، وإنما خاف في الدنيا، لكن هذا - والله أعلم - لا يعارض، ولا ينافي ما ذكر من أنه القيام بين يديه للحساب، فهو يخاف في الدنيا، خاف ذلك اليوم، وصار يحسب له حساباً في وقت مبكر، وهو في الدنيا، حيث تنفعه المراجعة، والتوبة والمحاسبة، والخوف، وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [النازعات: 40].

وابن كثير - رحمه الله - لا يقصد أن هذا الخوف يكون في الآخرة، إنما يقصد أنه في الدنيا، يعني يحسب حساباً لذلك اليوم.

وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى هذا يوافق ما اشتهر من أن الهوى إذا أطلق فالأصل أنه للذم؛ ولهذا جاء عن ابن عباس - ا - أن الله ما ذكر الهوى إلا مذموماً، ولكن السياق قد يدل على استعمال الهوى أحياناً في غير موضع الذم، مثل قول عائشة - ا - للنبي ﷺ: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك[1] 

وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ۝ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: 40-42] قال: أي منقلبه، ومصيره ومرجعه إلى الجنة الفيحاء، هذا كله يرجع إلى أن المعتبر هو الإيثار، بمعنى أن داعِيَ الله   يدعوه، والنفس والهوى والشيطان كل ذلك يدعوه أيضاً، فداعي الله يدعوه إلى الإيمان، والعمل الصالح، والنفس، والهوى، والشيطان كل ذلك يدعوه إلى خلاف ذلك، وكما هو معلوم في الحديث لما خلق النار، وخلق الجنة أرسل جبريل - عليه الصلاة والسلام - فنظر إلى النار، فرآها في حال يحطم بعضها بعضاً، فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها[2]، فحُفت بالشهوات، الصور المحرمة الجميلة، الأموال المحرمة، الكسل عن طاعة الله ، كل هذه الأشياء من النظر الحرام، والأكل الحرام، والكسب الحرام، والأصوات المحرمة، فلما رآها جبريل قال: وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد، ولما خلق الجنة، وبعث إليها جبريل - عليه الصلاة والسلام - ونظر إليها في حال، قال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا  دخلها، فلما حُفت بالمكاره، صيام، صلاة، إذا أذن ذهب إلى المسجد، قام من فراشه، يحفظ لسانه عن الحرام، يحفظ نظره عن الحرام، يحتاج إلى مكابدة، وصبر، ومجاهدة، وعمل صالح، ويوجد في أعماق الإنسان دواعٍ، توجد النفس المطمئنة، وتدعوه إلى الله، والتوبة، والمراجعة، والعمل الصالح، والإيمان، كما توجد النفس اللوامة، تلومه على فعل المعصية، والتقصير، ويوجد داعي الله في قلب المؤمن، والملك له أيضاً لمة بالقلب، هذه كلها من الداخل، مع الفطرة خلقت عبادي حنفاء[3]، ويوجد في الخارج شياطين الإنس من الصامتين، والناطقين، فالناطق يدعوه مباشرة للمنكر، وإذا ما استجاب أنكر عليه عدم الاستجابة، وعابه بذلك، كما يعيبه على طاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ، ويوجد أيضاً الدعوة الصامتة للمنكر، فكل ممارسة للمنكر هي دعوة صامتة إليه، مثل هذه الأمور تدعو إلى الشر، والمنكر، كلها دواعٍ تسهل عليه مواقعة المنكر، خذ مثالاً على ذلك: التصوير، كان الناس يستوحشون منه، وما كنا نعرف صدق توبة الإنسان إلا إذا أتلف ألبومات الصور التي عنده، اليوم تريد النهي عن التصوير وتقول: لا يصورْ أحدٌ، ثم تُفاجأ بواحد يثني ركبته، ويجلس أمامك، ويصورك، ويستغرب إذا قلت له: لا تصور اتق الله؛ لأن هذا كثر، ونُسيت النصوص الواردة فيه، وصار الذي ينكر هذا غريباً في الناس، تبرج المرأة يبدأ بواحدة، تعرفون ما ذكره الشيخ علي الطنطاوي: واحدة في دمشق وكيلة مدرسة خرجت سافرة عن وجهها، فأضربت دمشق عن آخرها، وأغلقت المحال التجارية حتى فصلت هذه الوكيلة من عملها؛ لأنها فقط كشفت الوجه، هذا في بلاد الشام يوم كان الناس ناساً، أسأل الله أن يفرج عنهم، ولعل هذه الحرب تعيد الناس إلى معادنهم، وتزيل عنهم هذا الركام.

"قال ابن القيم - رحمه الله -: "قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ طَغَى ۝ وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ۝ فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: 37- 39]، النفس تدعو إلى الطغيان، وإيثار الحياة الدنيا، والرب يدعو عبده إلى خوفه، ونهْي النفس عن الهوى، والقلب بين الداعييْن يميل إلى هذا الداعي مرة، وإلى هذا مرة، وهذا موضع المحنة، والابتلاء.

قوله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [النازعات: 40] وهو مقام الرب على عبده بالاطلاع، والقدرة والربوبية، فخوفه من هذا المقام يوجب له خشوع القلب لا محالة، وكلما كان أشد استحضاراً له كان أشد خشوعاً، وإنما يفارق القلبَ إذا غفل عن اطلاع الله عليه، ونظره إليه"[4]."

لاحظْ، يعني هذا ليس المقام بين يدي الحساب، وإنما خاف مقام ربه يعني: باطلاعه عليه، يعني مقام المراقبة الذي يبعث على مرتبة الإحسان، أن تعبد الله كأنك تراه، ولمن خاف مقام ربه جنتان، هذا المعنى الأول.

"والتأويل الثاني: أنه مقام العبد بين يدي ربه عند لقائه، فعلى الأول يكون من باب إضافة المصدر إلى الفاعل، وعلى الثاني - وهو أليق بالآية - يكون من باب إضافة المصدر إلى المخوف، والله أعلم"[5].

وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ [الرحمن:46]، يعني: يوم الحساب، خاف ذلك الموضع، خاف قيامه بين يدي ربه، أضيف إلى المفعول. 

  1. أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب هل للمرأة أن تهب نفسها لأحد؟ (7/12)، رقم: (5113).
  2. أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في خلق الجنة والنار (4/236)، رقم (4744)، والترمذي (4/693) رقم: (2560) أبواب صفة الجنة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات.
  3. مسلم (4/2197) رقم (2865)،  كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار.
  4. مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين 1/518- 519.
  5. المصدر السابق 1/519.