روى البخاري عن ابن عمر - ا - قال: أن رجلاً جاء فقال: يا أبا عبد الرحمن ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [سورة الحجرات:9] الآية، فما يمنعك ألا تقاتل كما ذكر الله في كتابه؟ فقال: يا ابن أخي أُعيَّر بهذه الآية ولا أقاتل، أحب إلي من أعير بالآية التي يقول الله : وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا [سورة النساء:93] إلى آخر الآية، قال: فإن الله تعالى يقول: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ قال ابن عمر على عهد رسول الله ﷺ إذ كان الإسلام قليلاً، وكان الرجل يفتن في دينه، إما أن يقتلوه وإما أن يوثقوه، حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة، فلما رأى أنه لا يوافقه في ما يريد، قال: فما قولكم في علي وعثمان، قال ابن عمر: أما قولي في علي وعثمان، أما عثمان فكان الله قد عفا عنه، وكرهتم أن يعفوا الله عنه، وأما علي فابن عم رسول الله ﷺ وختنه، وأشار بيده وهذه ابنته أو بنته حيث ترون[1].
ختنه أي: زوج ابنته.
وعن سعيد بن جبير قال: خرج علينا أو إلينا ابن عمر - ا - فقال: كيف ترى في قتال الفتنة؟ فقال: وهل تدري ما الفتنة، كان محمد ﷺ يقاتل المشركين، وكان الدخول عليهم فتنة، وليس بقتالكم على الملك[2]، هذا كله سياق البخاري - رحمه الله تعالى - .
وقال الضحاك عن ابن عباس - ا - : وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ : يعني لا يكون شرك.
وكذا قال أبو العالية ومجاهد والحسن وقتادة والربيع بن أنس، والسدي ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم.
وقال محمد بن إسحاق: بلغني عن الزهري عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ حتى لا يفتن مسلم عن دينه.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يرجع إلى قولين، الأول: أن الفتنة تأتي بمعنى الاختبار والامتحان، يقول الله : إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [سورة التغابن:15]، وأصل ذلك يرجع إلى الإحراق بالنار، حيث يوضع المعدن كالذهب مثلاً في النار فيتخلص من الشوائب، ومن ذلك قول الله : إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا [سورة البروج:10]، أي: أحرقوهم في النار، وهذا يتضمن أيضاً فتن هؤلاء في دينهم، فأحرقوهم في النار صرفاً لهم عن إيمانهم، الثاني: أن الفتنة تأتي بمعنى الشرك والكفر، والله يقول: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [سورة البقرة:217]، وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [سورة البقرة:191]، فقوله: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ أي: لا يكون كفر وإشراك، وهذا المعنى هو الراجح، وإن كانت تحتمل المعنى الأول، لكن أحسن ما يفسر به القرآن القرآن، فإن الله ذكر بعده قوله: وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ فقتال الناس حتى لا يكون شرك، يقتضي أن يكون الدين كله لله، لا يعبد أحد مع الله ، لكن لو فسر بالأول وقيل الفتنة بمعنى: فتن الناس عن الدين، فلو فرضنا أن هذا تحقق، وبقي ناس يبعدون غير الله ، حرية في التعبد، ففي هذه الحالة لم يتحقق قول الله: وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ، ومعلوم أن الناس أسرى لعقائدهم، فعقائدهم هي التي تحركهم، فالكفار يعملون لنصرة دينهم، ومحاربة من خالفهم ولو كانوا من أبناء ملتهم، وما يقع بين طوائف النصارى من قتل خير شاهد، والله ذكر حال المنافقين مع اليهود قال: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [سورة الحشر:14]، وقال: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ هذا في المنافقين واليهود لما وعدوهم بالنصر، وقالوا: لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ [سورة الحشر:11]، فالشاهد أن الناس تحركهم عقائدهم ومبادئهم وأديانهم إلى نصرتها، وتتحرك نفوسهم لعمل ما يمكن من كبح من خالفهم، فيكون معنى قوله تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ أي: لا يكون كفر، وهذا معنى قول النبي ﷺ : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله[3]، والله يقول: قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [سورة التوبة:29]، فإذا فعلوا ذلك فهنا لا إكراه في الدين، فالإسلام لا يرغم الأفراد على الدخول فيه كأفراد، لكن ككيان لا بد من أن يكسر، فإذا دفعوا جزية صاروا تحت سلطان المسلمين، وصار الدين لله، صار ظاهراً عزيزاًَ حاكماًَ على الناس، وهذا معنى قول النبي ﷺ : وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري[4]، فيجب أن يكون الذل والصغار على من خالف أمره ﷺ ، فكل هذه الأدلة تبين بطلان وسخف القول بأن الجهاد في سبيل الله هو حماية المشروع الإسلامي، مع أن الله يقول: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة التوبة:5] والآيات واضحة، هذا كله تلبيس على الناس، وتزوير لحقائق الدين.
وقال الحسن وقتادة وابن جريج وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ أي: يقال: لا إله إلا الله.
وقال محمد بن إسحاق: ويكون التوحيد خالصاً لله، ليس فيه شرك ويخلع ما دونه من الأنداد.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لا يكون مع دينكم كفر، ويشهد لهذا ما ثبت في الصحيحين عن رسول الله ﷺ أنه قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله [5].
وفيهما عن أبي موسى الأشعري قال: سئل رسول الله ﷺ عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياءً، أي ذلك في سبيل الله فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله [6].
وقوله: فَإِنِ انتَهَوْاْ [سورة الأنفال:39] أي: بقتالكم عما هم فيه من الكفر فكفوا عنه، وإن لم تعلموا بواطنهم، فإن الله بما يعملون بصير، كقوله: فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ [سورة التوبة:5] الآية وفي الآية الأخرى: فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [سورة التوبة:11]، وقال: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:193]، وفي الصحيح أن رسول الله ﷺ قال لأسامة لما علا ذلك الرجل بالسيف فقال: لا إله إلا الله، فضربه فقتله، فذكر ذلك لرسول الله ﷺ فقال لأسامة: أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله، كيف تصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة؟، قال: يا رسول الله إنما قالها تعوذاً، قال: هلا شققت عن قلبه، وجعل يقول ويكرر عليه: من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة قال أسامة: حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا ذلك اليوم[7].
مناسبة إيراد حديث أسامة تفسيراً لقوله - تبارك وتعالى -: فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [سورة الأنفال:39]، فيكفي أن يظهر منه الدخول في الإسلام، والله أعلم بنيته، وليس الإنسان مطالب أن ينقب على نيته، فيكفي أن يقول: لا إله إلا الله، ثم بعد ذلك يطالب بمقتضياتها من العمل بشرائع الإسلام، هذا هو المطلوب - هذا والله تعالى أعلم - .
- رواه البخاري برقم (4373)، كتاب التفسير، باب وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله.
- رواه البخاري برقم (4374)، كتاب التفسير، باب وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله.
- رواه البخاري برقم (25)، كتاب الإيمان، باب فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ، ومسلم برقم (34)، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، يؤمنوا بجميع ما جاء به النبي ﷺ، وأن من فعل ذلك عصم نفسه وماله إلا بحقها، ووكلت سريرته إلى الله تعالى وقتال من منع الزكاة أو غيرها من حقوق الإسلام واهتمام الإمام بشعائر الإسلام.
- رواه أحمد في المسند (9/478)، برقم (5667)، وقال محققوه: إسناده ضعيف، وقال الشيخ الألباني: "قلت: وهذا إسناد حسن رجاله كلهم ثقات غير ابن ثوبان هذا, ففيه خلاف، وقال الحافظ في " التقريب: " صدوق, يخطىء, وتغير بآخره"، انظر: إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل(5/109).
- رواه البخاري برقم (385)، كتاب الصلاة، باب فضل استقبال القبلة، ومسلم برقم (21)، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، يؤمنوا بجميع ما جاء به النبي ﷺ، وأن من فعل ذلك عصم نفسه وماله إلا بحقها، ووكلت سريرته إلى الله تعالى، وقتال من منع الزكاة أو غيرها، من حقوق الإسلام واهتمام الإمام بشعائر الإسلام.
- رواه البخاري برقم (123)، كتاب العلم، باب من سأل وهو قائم عالما جالسا، وبرقم (2655)، كتاب الجهاد والسير، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ومسلم برقم (1904)، كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله.
- رواه البخاري برقم (4021)، كتاب المغازي، باب بعث النبي ﷺ أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهنية، ومسلم برقم (159)، كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله، بلفظ مقارب.