قوله: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ [سورة الأنفال:5]، فقال بعضهم: شُبّه به في الصلاح للمؤمنين اتقاؤهم ربهم وإصلاحهم ذات بينهم، وطاعتهم لله ورسوله، ومعنى هذا أن الله تعالى يقول: كما أنكم لما اختلفتم في المغانم وتشاححتم فيها، فانتزعها الله منكم وجعلها إلى قسمه وقسم رسوله ﷺ فقسمها على العدل والتسوية، فكان هذا هو المصلحة التامة لكم، وكذلك لما كرهتم الخروج إلى الأعداء من قتال ذات الشوكة، وهم النفير الذين خرجوا لنصر دينهم وإحراز عيرهم، فكان عاقبة كراهتكم للقتال بأن قدره لكم، وجمع به بينكم وبين عدوكم على غير ميعاد، رشداً وهدى ونصراً وفتحاً، كما قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:216].
قال السدي: وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ لطلب المشركين.
قوله: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ [سورة الأنفال:5] اختلف علماء التفسير في الجالب لهذه "الكاف" التي في قوله: كَمَا أَخْرَجَكَ، وما الذي شُبِّه بإخراج الله نبيه ﷺ من بيته بالحق.
فقال بعضهم: شُبِّه به في الصلاح للمؤمنين، اتقاؤهم ربهم، وإصلاحهم ذات بينهم، وطاعتهم الله ورسوله. وقالوا: معنى ذلك أن الله يقول: وأصلحوا ذات بينكم، فإن ذلك خير لكم، كما أخرج الله محمدًا ﷺ من بيته بالحقّ، فكان خيرًا له، وهذا كلام ابن جرير – رحمه الله - في هذه الآية وقد ربطها بقوله – تبارك وتعالى - يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [سورة الأنفال:1].
وهذا الكلام فيه مغايرة لكلام ابن كثير – رحمه الله - فقد قال: "ومعنى هذا أن الله تعالى يقول: كما أنكم لما اختلفتم في المغانم وتشاححتم فيها، فانتزعها الله منكم وجعلها إلى قسمه وقسم رسوله ﷺ فقسمها على العدل والتسوية، فكان هذا هو المصلحة التامة لكم، وكذلك لما كرهتم الخروج إلى الأعداء من قتال ذات الشوكة، وهم النفير الذين خرجوا لنصر دينهم وإحراز عيرهم، فكان عاقبة كراهتكم للقتال بأن قدره لكم، وجمع به بينكم وبين عدوكم على غير ميعاد"
فمعنى كلام ابن كثير – رحمه الله - أن انتزاع الغنائم من أيديكم وقسم الله وقسم رسوله ﷺ خير لكم، كما أن إخراجكم لقتال عدوكم وكتب ذات الشوكة لكم على كره منكم خير لكم، فلو خيروا بعد المعركة بين العير والفتح المجيد، لاختاروا النصر والفتح.
وقال بعض أهل العلم: معنى قوله: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ [سورة الأنفال:5] الأنفال ثابتة لكم مثل إخراج ربك لك من بيتك بالحق، أي: خروجاً متلبساً بالحق.
وقال بعضهم: قوله: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ [سورة الأنفال:5] قسم وتقديره والذي أخرجك، والكاف بمعنى الواو، و"ما" اسم موصول بمعنى الذي، وهذا وإن قال به بعض أهل اللغة إلا أنه أبعد من سابقيه وخلاف الظاهر المتبادر، والله أعلم.
وقال بعضهم: وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [سورة الأنفال:1]، كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ [سورة الأنفال:5] فلا تدرون العواقب فليس لكم إلا أن تطيعوا وأن تذعنوا وتسلموا، والله يصرفكم بما فيه الخير.
وقال بعضهم: قوله: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ [سورة الأنفال:5]، متعلق بقوله: لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [سورة الأنفال:4] يعني: هذا الوعد ثابت حق للمؤمنين كما أخرجك ربك، وهذا هو اختيار أبي عبد الله القرطبي - رحمه الله -.
ويحتمل أن يكون المقصود التشبيه بحال كراهتهم للتنفيل، ككراهتهم للخروج ابتداءً أو ملاقاة الجيش، وقولا ابن جرير وابن كثير هما أقرب الأقوال.
قال المفسر - رحمه الله تعالى - : قال السدي: وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ [سورة الأنفال:5] لطلب المشركين، يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ [سورة الأنفال:6]، قال بعضهم: يسألونك عن الأنفال مجادلة كما جادلوك يوم بدر، فقالوا: أخرجتنا للعير، ولم تعْلمنا قتالاً فنستعد له، وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ [سورة الأنفال:7] أي: هو يريد أن يجمع بينكم وبين الطائفة التي لها الشوكة والقتال، ليظفركم بهم وينصركم عليهم، ويظهر دينه ويرفع كلمة الإسلام، ويجعله غالباً على الأديان، وهو أعلم بعواقب الأمور، وهو الذي يدبركم بحسن تدبيره، وإن كان العباد يحبون خلاف ذلك فيما يظهر لهم، كقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ [سورة البقرة:216].
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقول الله - تبارك وتعالى - : وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ الصحابة عندما خرجوا من المدينة لطلب العير لم يكن ذلك فيه كراهة، خرج من خف منهم ولم يُلزَم أحد بالخروج، وبقي الكثير منهم في المدينة؛ لأن القتال لم يكن متوقعا، وعبر بالكراهة باعتبار العاقبة وما آل إليه أمرهم من كراهتهم لقتال المشركين، ولقاء ذات الشوكة أي: الجيش – والله تعالى أعلم - .
وقوله: يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ أي: يجادلونك في الحق، ثم اختلف أهل العلم في المراد بالذين يجادلون من المقصود بهم؟ فقال البعض: إن الذين يجادلون هم الكفار، يجادلونه في الحق أي: في التوحيد، ولكن هذا بعيد، وإنما المراد المؤمنون؛ لأن الخبر عنهم، فهم الذين جادلوه في الحق وذلك حينما نجت العير وبقي النفير، بقي الجيش، فكان لا بد من المواجهة، فصاروا يجادلون النبي ﷺ في الحق بعدما تبيّن، يعني تبيّن أن النفير هو الخيار الوحيد الآن، ومن أهل العلم من يقول: بَعْدَمَا تَبَيَّنَ أي: تبيّن أنه الشيء الذي أمرتهم به، وهذا يرجع إلى القول الأول، والمقصود بالحق: القتال، ويحتمل أن يكون بعدما تبيّن لهم أنك لا تأمرهم بشيء إلا بعد إذن الله ووحيه، أو بعدما تبيّن لهم أن إحدى الطائفتين لهم، والأقرب - والله أعلم - بَعْدَمَا تَبَيَّنَ أن العير قد نجت وأن النفير هو خيارهم، وأخبرهم النبي ﷺ بذلك كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ، هذا ليس من صفة المشركين، وإنما سياق الآيات يتحدث عن المؤمنين.