قوله: وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ قال: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ يعني العير أو النفير وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ أي: تودون أن غير الجيش والنفير، وهو الغنيمة الباردة وهي العير التي كانت مع أبي سفيان، فأبو سفيان نجا بالعير عندما ذهب ناحية الساحل، فنجت العير، وقد وصف الله مكانهم حينما قال في هذه الآيات: إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ [سورة الأنفال:42] يعني من عدوتَي الوادي، فالدنيا هي ما يلي المدينة، الأقرب إلى المدينة، والقصوى من ناحية مكة، وذكر لهم موضع العير فقال: وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ يعني ناحية الساحل، وقوله: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ، الشوكة: السلاح، يقال: طائفة ذات شوكة، ويقال: شاكي السلاح، وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ أي: يريد أن يظهره وأن يعليه وأن ينصر أهله وأتباعه وأن يهزم الكفار ويخذلهم، فالحق ثابت في نفسه، فلا يقال: إن إحقاقه تحصيل حاصل، وإنما المقصود إظهار الحق وإشهاره ونصر أهل الإيمان أهل الحق، وكبت أهل الباطل، لِيُحِقَّ الْحَقَّ [سورة الأنفال:8]، ولهذا فسره بعضهم وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ قالوا: ما وعد به من النصر، وبعضهم يقول: لقاء الكفار؛ لأنه أمر حق، وقد قدره وقضاه فلا بد أن يقع، ولعل الذي ألجأ هؤلاء إلى مثل هذه الأقوال أن الحق ثابت في نفسه، فكيف يكون إحقاق الحق؟، فيقال: ما تقدم من إظهاره وإشهاره ونصر أهله وإذلال الكفر وهزيمة الكفار - والله تعالى أعلم - .
وقوله: يُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ المراد بالكلمات الآيات المتلوة، وكل ما أنزله على الرسل - عليهم الصلاة والسلام - من كلامه، وكذلك يدخل في كلماته أمره للملائكة وخطابه لهم، ويدخل فيه أيضاً الكلمات التكوينية التي يدبر بها أمر الخليقة، يخلق ويرزق ويعطي ويمنع، فهذا كله من كلماته - تبارك وتعالى - قال الله : قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي [سورة الكهف:109]، فقوله: وَيُرِيدُ اللّهُ يحتمل أن تكون الآيات المتلوة التي أنزلها في هذا الشأن، يبيّن بها ذلك وما جرى، ويحتمل أن تكون هذه الكلمات هي أمره للملائكة بما أمرهم به من تثبيت المؤمنين وقتل الكافرين، وإمداد أهل الإيمان، ويحتمل أن تكون هذه الكلمات هي الكلمات عموماً، الكلمات الكونية الأزلية، حيث قضى الله إذلال الكفر وأهله، وكبتهم، وإنزال المَثُلات بهم في الدنيا والآخرة، كما فعل بالمشركين يوم بدر، فهو واقع لا محالة، ولعل هذا أقرب الأقوال - والله أعلم - .
وبعضهم يفسر قوله: يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ يعني يثبت ما وعد به، ويتحقق ذلك من نصر أهل الإيمان، فالله وعد وعداً عاماً وأخبر بذلك، ووعد وعداً مشروطاً فقال: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [سورة غافر:51]، ووعد وعداً مشروطاً: إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [سورة محمد:7]، كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [سورة المجادلة:21]، فهذه الغلبة لا بد أن تكون، وقد تكون بالحجة والبيان، أو بالسيف والسنان، وهذا غالب ما تأتي له هذه الكلمة (غلبة) في القرآن.
وقوله أي ابن كثير - رحمه الله - : برك الغماد، يقال: بَرْك وبِرك، والغِماد والغُماد، قال: يعني مدينة الحبشة، لكن المشهور خلاف هذا، بعضهم يقول: موضع باليمن، وبعضهم يقول: تحت مكة بخمسة ليال، وهذا كله يقال له: يمن، ما عن يمين الكعبة، هذا هو المشهور، وحينما تذكر هذه لا يعني أن الوصول إليها في غاية الصعوبة، وأنه أمر شاق جداً، وإنما قد يذكر الإنسان الشيء الذي لا عهد له به وفي ظنه أنه بعيد فيقول: لو سرت بنا إلى كذا، يعبر بهذا لينبئ ويفيد السامع بالقبول والاستجابة والمتابعة والطاعة، تقول مثلاً: لو سرت بنا إلى اليمن، أو لو أردت أن أحملك إلى مكة، يقصد أنه لا يتردد في فعل ذلك.
وقوله: وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ دابر الشيء: هو آخره، وقطْع دابرهم يعني استئصالهم، تقول: قطع الله دابرهم يعني استأصلهم، ويقول: وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وتقدم قوله: وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ فالحق في الموضع الأول وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ لبيان إرادته ، وأنها تختلف عن إرادتهم، فهذا الحق في هذا الموضع فسره بعضهم بتحقيق ما وعد به المؤمنين من النصر، وفسره بعضهم بلقاء الكفار - المواجهة مع الجيش وليس تحصيل العير- والحق في الثانية قال: لِيُحِقَّ الْحَقَّ اللام هذه للتعليل، فهو تعليل لإرادته، فهم يريدون العير، والله يريد أن يحق الحق بالنفير وكبت الكفار وقطع دابر المشركين، لِيُحِقَّ الْحَقَّ بإعزاز الشريعة وإعلاء كلمته ، وفسره بعضهم بالنصر يعني الحق الثاني لِيُحِقَّ الْحَقَّ فهذا تعليل لما يريده، أي أنه يريد ذلك بإحقاق الحق، لإظهاره ووضع الباطل وكبت أهله، وليس هو من التكرار؛ لأن القرآن ليس فيه تكرار محض.
- انظر: الطبقات الكبرى، لابن سعد (2/14)، وصححه الألباني في فقه السيرة (223).