الأربعاء 16 / ذو القعدة / 1446 - 14 / مايو 2025
وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَىٰ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

 نبدأ بسورة عبس، وهذه السورة افتتحت بمعاتبة للنبي ﷺ في واقعة حصلت، وصح ذلك في عدد من المرويات، وحاصله يرجع إلى أن ابن أم مكتوم ، وهو قرشي من أهل مكة، ابن خال خديجة - ا -، وكان رجلاً قد كف بصره، فجاء إلى النبي ﷺ يسترشد، وكان عند النبي ﷺ بعض الكبراء من قريش، في بعض الروايات الصحيحة أبي بن خلف، وفي بعضها عتبة بن ربيعة، وأبو جهل، وفي بعضها على الإبهام، فالمقصود أن النبي ﷺ كان حينها مشتغلاً بهؤلاء في دعوتهم رجاء أن يسلموا فيكون ذلك سبباً لإسلام قومهم، فجاء ابن أم مكتوم في هذه اللحظات، فالنبي ﷺ عبس في وجهه - وهو لا يرى النبي ﷺ  -وأعرض عنه فلم يجبه، وأقبل على هؤلاء يدعوهم، فعاتبه الله في صدر هذه السورة عَبَسَ وَتَوَلَّى ۝ أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى [عبس: 1 - 2] إلى آخر الآيات.

هذا صدر السورة، وباقي السورة يتحدث عن قدرة الله ، ودلائل القدرة على البعث والنشور، وأن هذا الذي بهذه الصفة هو الذي يستحق العبادة وحده دون ما سواه.

وبين الله – تبارك وتعالى – أن الذين استغنوا عن الإيمان، والتوحيد، والهدى من كبراء المشركين كان أولهم نطفة، وآخرهم جيفة، ثم بعد ذلك الله يبعثهم الله ، ويحاسبهم ويجازيهم على أعمالهم، وهم فيما بين ذلك يتقلبون بنعمه، وأفضاله حيث ذكر لهم انصباب الماء من السماء، وانصداع الأرض، وانشقاقها بالنبات، وما يخرج فيها من ألوان الثمار والزروع والنباتات لهم ولأنعامهم، فهذا الذي بهذه الصفة وهو القادر على هذه الأمور أحق أن يعبد ويوحد، وأن تصرف العبادة له وحده دون ما سواه، وأيضاً هو القادر على إعادة الأجسام من جديد.

"عَبَسَ وَتَوَلَّى ۝ أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى ۝ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ۝ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ۝ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ۝ فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ۝ وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى ۝ وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى ۝ وَهُوَ يَخْشَى ۝ فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ۝ كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ۝ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ۝ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ۝ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ۝ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ۝ كِرَامٍ بَرَرَةٍ [عبس: 1 - 16].

ذكر غيرُ واحد من المفسرين أن رسول الله ﷺ كان يوماً يخاطبُ بعض عظماء قريش، وقد طَمع في إسلامه، فبينما هو يخاطبه، ويناجيه إذ أقبل ابنُ أم مكتوم - وكان ممن أسلم قديماً - فجعل يسأل رسول الله ﷺ عن شيء ويلح عليه، وودّ النبي ﷺ أنْ لو كف ساعته تلك ليتمكن من مخاطبة ذلك الرجل؛ طمعاً ورغبة في هدايته، وعَبَس في وجه ابن أم مكتوم، وأعرض عنه، وأقبل على الآخر، فأنزل الله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى ۝ أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى ۝ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى؟ أي: يحصل له زكاة وطهارة في نفسه، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى أي: يحصل له اتعاظ، وانزجار عن المحارم، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ۝ فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى أي: أما الغنِيّ فأنت تتعرض له لعله يهتدي، وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى أي: ما أنت بمطالب به إذا لم يحصل له زكاة، وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى ۝ وَهُوَ يَخْشَى أي: يقصدك ويؤمك ليهتدى بما تقول له، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى أي: تتشاغل، ومن هاهنا أمر الله رسوله ﷺ ألا يخص بالإنذار أحداً، بل يساوى فيه بين الشريف والضعيف، والفقير والغني، والسادة والعبيد، والرجال والنساء، والصغار والكبار، ثم الله تعالى يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة.

وروى أبو يعلى وابن جرير عن عائشة قالت: أنزلت: عَبَسَ وَتَوَلَّى في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى إلى رسول الله ﷺ فجعل يقول: أرشدني، قالت: وكان عند رسول الله ﷺ رجل من عظماء المشركين، قالت: فجعل النبي ﷺ يُعرض عنه، ويقبل على الآخر، ويقول: أترى بما أقول بأسا؟[1]. فيقول: لا، ففي هذا أنزلت: عَبَسَ وَتَوَلَّى. وقد روى الترمذي هذا الحديث، ولم يذكر فيه عن عائشة، قلت: كذلك هو في الموطأ."

هذه السورة سورة عبس، هذا هو الاسم المشهور لها، وبعضهم ذكر لها أسماء أخرى، بعضهم قال: سورة الأعمى، وبعضهم قال: سورة ابن أم مكتوم، وبعضهم قال: سورة الصاخة، وبعضهم يقول: سورة السَّفَرة.

قوله - تبارك وتعالى -: عَبَسَ وَتَوَلَّى ۝ أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى، لاحظ أنه جاء بهذا بصيغة الغائب، ما قال: عبستَ وتوليتَ، ولهذا بعض أهل العلم يشير هنا إلى معنىً يتصل بالأدب في الخطاب، يعني: أنه ما وجه ذلك إلى النبي ﷺ ؛ لأن في مثل هذه الألفاظ ثقلاً على السامع، فما واجهه بها، وإنما قال: عَبَسَ وَتَوَلَّى ۝ أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى، وهذا كقوله - تبارك وتعالى - في سورة الكهف، لما ذكر خبر موسى ﷺ مع الخضر، قال: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [الكهف: 79]، نسب العيب إلى نفسه، ولم ينسبه إلى الله، ما قال: فأراد ربك عيبها، وإنما قال: فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا، ولما ذكر الغلام الذي قتله قال: وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ۝ فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا [الكهف: 80 - 81]، ثم لما ذكر الجدار قال: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ [الكهف: 82]، وفي العيب نسبه إلى نفسه، هذا من الأدب في المخاطبة، مثل قول إبراهيم ﷺ: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: 80] فنسب المرض إلى نفسه، وأضاف الشفاء إلى الله ، وَالضُّحَى ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ۝ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى: 1-3]، فلم يقل وما قلاك؛ لأنها ثقيلة، فالأدب بالخطاب مطلوب، ولذلك لا يحسن بالمحاضر، أو الخطيب أن يواجه الناس بعبارات تثقل على أسماعهم، لكن يمكن أن يتكلم بطريقة أخرى، كأن يقول: نحن، فلا يقول: أنتم تفعلون كذا، وتفعلون كذا، وتفعلون كذا.

وقد أعطاني أحد الفضلاء مرة محاضرة قبل أن ينشرها مسجلة عن تربية الأطفال، فقال: ما رأيك فيها؟ وهو رجل من أهل العلم، ولكن لفت نظري أن عبارة تتكرر كثيراً، يخاطب الموجودين بعبارة خطاب، يقول لهم كثيراً، وسمعت آخر يخطب ويقول: أنتم شابهتم النصارى، واتبعتم سبيلهم، فاحتفلوا بالمسيح، واحتفلتم بالمولد النبوي، وذكر أشياء من وجوه المشابهة للنصارى، يخاطبهم بها، ويقررهم بها، كان الأولى أن يقال: وقع بعض الناس، بعض المسلمين، أو يقول: نحن نفعل كذا، نحن وقعنا في كذا، نحن في كذا، ما يكون بأسلوب يخاطب الناس بطريقة تزعج.

ففي قوله: عَبَسَ وَتَوَلَّى لم يقل: عبستَ وتوليتَ، وعبس: بمعنى كلح، وقطَّب وجهه، والعبوس معروف: قبض وجهه تكرهاً، يعني: لما جاءه الأعمى في هذا التوقيت تغيرت معالم وجهه ﷺ، قطّب.

والأعمى لم يكن يراه فلا يتأثر بذلك، ومع ذلك عاتبه الله ، فكيف لو كان يراه فيتأذى به؟! فإن مثل هذا التصرف لا يوجه لمن يأتي طالباً للهدى، ولو كان التوقيت غير مناسب، ولو كنت منشغلاً في غاية الأهمية، فهذا تعليم من الله ، إذا كان يعاتب أفضل الخلق، ويقول له: عَبَسَ وَتَوَلَّى ۝ أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى.

فالمشاعر الجيدة تجاه الآخرين، والتعامل معهم بالأسلوب الأمثل والأرقى حتى لو كان ذلك لا يشعرون به هو المطلوب من المسلم، فهذا تعليم من الله بأمرين:

الأول: الإقبال على من ينتفع، وعلى من يحرص على العلم، فالعلم يُبذل لمن يرغب فيه، ويطلبه، ولا يبذل لمن يكون زاهداً فيه، ومن مساوئ التعليم الإجباري أنك تلقي العلم لقوم هم أزهد الخلق فيه، إلا من رحم الله ، فهذا من أصعب الأشياء، يموت الإنسان مراراً وهو يرى صرعى لا يرفعون رأساً بالعلم، ولا يحفلون به، وإذا غاب عنهم من يعلّمهم فذلك عيد، وإذا أعطاهم من العلم، وفاض عليهم من الفوائد، والمسائل ضاقوا ذرعاً بذلك، وهذه مشكلة كبيرة، وبلاء عظيم، أن يبذل العلم لمن يزهد فيه، فهو من أصعب الأشياء على النفس.

الأمر الثاني: هو أن هؤلاء الذين يطلبون العلم، أو يسألون عنه، أو يستفتون، أو نحو ذلك قد لا يوفقون، إما في اختيار الوقت المناسب، أو في الطريقة، في طريقة السؤال عن العلم، قد يبادرك بمجرد ما تسلّم من الصلاة، ويأتيك مباشرة يريد أن يسأل، أو يكون بطريقة غير مناسبة، فأحياناً يسأل بمقدمة استفزازية، كأن يقول: "أنت فاضي"؟ فمقدمة السؤال بهذه الطريقة تستفز النفس، "كيف فاضي"؟! فالمؤمن في شغل شاغل، لكن هذا من الشغل، فلو أنه تلطف بالسؤال، وقال: هل أستطيع أن أسأل الآن؟ هل الآن الوقت مناسب؟ وأحياناً يبدأ بطريقة: جاوِبْ، ضروري الآن، وهذا الأسلوب ممكن أن يستخدم مع واحد من أصغر أولادك، أو واحد يشتغل عندك، لكن تأتي، وتخاطب الناس بهذه الطريقة، أو أخرى ترفع صوتها غاضبة: اتقوا الله، أو تكتب رسالة: أنتم تأخذون رواتب، وجالسون في بيوتكم، ما تردون على أسئلتنا، وثالث يقول: أنت لماذا تنشر رقمك إذا كنت لا ترد؟ فهؤلاء تصدر منهم تصرفات تحتاج إلى صبر، وتحمل، فالنبي ﷺ وهو قدوتنا، ومعلم الناس يأتيه من يقول له: أعطني فإنك لا تعطي من مال أبيك، ولا مال أمك، يخاطب النبي ﷺ بهذا، فكل ذلك ينبغي أن يكون موطّناً للنفوس على الصبر.

أَن جَاءهُ الْأَعْمَى [عبس: 2] أي: لأجل أن جاءه الأعمى يسأل في هذا الوقت الذي كان النبي ﷺ فيه مشغولاً.

قال: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [عبس: 3] وما يشعرك لعله يحصل له زكاة، وطهارة في نفسه؟ فإن كان ابن أم مكتوم في ذلك الوقت لم يسلم بعد فيكون المراد يَزَّكَّى يعني: يدخل في الإسلام، يحصل له الزكاء بالإيمان، وبعض أهل العلم كابن العربي يقول: لا يُعلم بالتحديد متى كان وقت دخول ابن أم مكتوم في الإسلام،

لَعَلَّهُ يَزَّكَّى فإن النفوس تتزكى بالإيمان، والعمل الصالح، وشرائع الإيمان هي إيمان، فإذا كان قد دخل في الإسلام فيحصل له تزكية بهذا العلم.

ابن زيد يقول في قوله: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [عبس: 3] أي: ينتفع، لكن من أهل العلم من قال: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى  يعني: الكافر، يعني لا ينتفع، وأنت مقبل عليه، قال: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى يحصل له زكاة وطهارة في نفسه وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى يحصل له اتعاظ أو انزجار عن المحارم، بمعنى أنه بين أمرين: إما أن يحصل له تزكية، إن كان لم يسلم بعد فيدخل في الإسلام، أو يحصل له ذكرى فينتفع بها في يوم من الدهر، وإن كان قد أسلم فإنه إما أن يزكى يتعلم من شرائع الإيمان أشياء جديدة تحصل له بها تزكية، أو يحصل له بذلك اتعاظ، وتذكر، واعتبار، فينتفع وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55]، هذا الذي ينبغي الإقبال عليه.

"قال: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ۝ فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى [عبس: 6- 5]، استغنى عن الإيمان، استغنى عن دعوتك، عما تخاطبه به، ويحتمل أن يكون اسْتَغْنَى يعني: صار ذا غنى، من هؤلاء الكبراء، كانوا من الأغنياء، وكما يقول ابن جرير: استغنى بماله، يعني: هؤلاء الذين استغنوا عن دعوتك، وعن الإيمان بما صار لهم من المال، والجاه، والقوة، والولد، وما إلى ذلك، فهؤلاء ليسوا أصحاب أولوية في توجيه الخطاب إليهم على حساب من يحرص على هذا الإيمان، وهذا العلم، لكن أن يسوي بين الناس، أو يقدم هؤلاء أهل الحرص، وهم في الغالب الضعفاء، والفقراء.

أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ۝ فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى [عبس: 5-6]، ابن كثير يقول: أما الغنيّ فأنت تتعرض له؛ لعله يهتدي، فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى التصدي يقال للإقبال على الشيء، والإصغاء، فأنت له تصدى، هذا تُعرض عنه، وهذا تصغي إليه، وتقبل عليه.

يقول: وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى [عبس: 7] ما أنت بمطالب به إذا لم يحصل له زكاة؛ وهذا يدل على أن المراد، والمقصود بقوله: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى الأعمى، وهنا وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى يعني: ما أنت بمطالب به إذا لم يحصل له زكاة، فهنا "ما" على قول ابن كثير نافية، يعني: أن هذا لا يضرك، لن تحاسب على هذا، لن تلحقك تبعة لكون هذا الإنسان أعرض، وكفر، فإن كفره يرجع عليه، وابن جرير يقول: أي شيء عليك ألا يتطهر من كفره فيسلم، يعني: لا شيء عليك، هذا بمعنى قول ابن كثير: ما أنت بمطالب به إذا لم يحصل له زكاة.

ومن أهل العلم من يقول: إن "ما" استفهامية، وكلام ابن جرير يحتمل هذا، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى، ما يضرك إذا لم يتزكَّ؟ ما الذي يلحقك في ذلك؟

"وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى ۝ وَهُوَ يَخْشَى [عبس: 8-9] أي يقصدك، ويؤمك، والتزكية - كما قلنا في السابق - بالإيمان والعمل الصالح، والسعي، وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى [عبس: 8] هل المقصود به السعي المعروف، وهو الإسراع في المشي، أو المقصود به الناحية العملية الانتفاع، والاهتداء، وما إلى ذلك؟ وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى [القصص:20]  المراد به الإسراع بالمشي.

فهذا جاء يسعى، وهو يخشى، جاء يسعى إلى النبي ﷺ فيكون ذلك بالسير إليه سيراً حثيثاً، وأيضاً فإن ذلك منه عملٌ وجِدٌّ على طلب الهداية.

قال: يقصدك ويؤمك ليهتدي بما تقول له، فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى [عبس: 10] أي تتشاغل، ومن هنا أمر الله تعالى رسوله ﷺ أن لا يخص بالإنذار أحداً بل يساوي فيه بين الشريف، والضعيف إلى آخره.

وإقبال النبي ﷺ على هؤلاء الكبراء لم يكن من أجل دنياهم، ففعلُ النبي ﷺ لا غضاضة فيه من جهة حرصه ﷺ على اهتداء هؤلاء؛ لأن هؤلاء سيهتدي مَن وراءهم، من هذا المنطلق، لكن ذلك يكون مذموماً إذا كان على حساب الضعفاء الطالبين للهداية، الراغبين فيها، ويكون الذم فيه أعظم إذا كان ذلك على سبيل المصانعة، والمحاباة لهم، ويكون ذلك أعظم في الذم إذا كان من أجل الملق، والتقرب إليهم لنيل دنياهم، والحظوة عندهم، وما إلى ذلك، هذه مراتب، يعني: من الناس من يقبل عليهم لعلهم يهتدون، فينفع الله بهم، ومن الناس من يقبل عليهم مجاملة لهم ومصانعة لهم؛ لأنهم لهم منزلة في المجتمع، ولهم.. إلى آخره، فهو يداريهم، ويجاريهم، ومنهم من يفعل ذلك من باب الملق، وطلب دنياهم، أو حصول الجاه عندهم، وما أشبه ذلك، هذا أعظم في الذم، وأقبح، ولا يليق بطالب العلم أن يصير بهذه المنزلة؛ ولهذا قالوا عن الفقيه الذي يتردد على أبواب الأغنياء: لص، فإذا رأيت الفقيه يتردد على أبواب الأغنياء فمعنى ذلك أنه لص، يعني هو لماذا يتردد على أبوابهم؟ من أجل دنياهم، لماذا لا يتردد على أبواب الضعفاء، والفقراء؟ فهذا أسوأ الحالات، ودونه أن يكون من أجل أن الله ينفع بهم، لكن لا يكون على حساب المحتاجين للعلم، وإلى آخره، فقد تجد أحياناً طالب العلم لربما يكثر من مجالسة هؤلاء الذين هم أزهد ما يكونون بالعلم الذي عنده، ويكون الحديث كله أحياناً في قضايا بعيدة عن العلم، أو يتقصد أن يأتي لهم بأشياء من المُلح مما يطيب لهم من الشهوتين، لعلهم يعجبهم كلامه، ويضحكون، ويأنسون، ويأتي لهم بنوادر، ولطائف وحكايات، وأشياء جميلة، سواءً من كتب الأدب، أو من غيرها فيطربون لذلك، ويأنسون به، ويعجبون به، وبمجالسه، ويبحثون عنه في أوقات سمرهم، فإن المجلس لا يطيب، ولا يعلو الضحك إلا إذا حضر، فإنه يأتيهم بأشياء ما عرفوها، ولا اطلعوا عليها من بطون الكتب، وهذا قبيح، لا يليق أبداً بطالب العلم، قد يكون طالب العلم يعتذر من طلاب العلم، لا يجلس لهم، ولا بأدنى ما يمكن بأن يقدم ساعة في الأسبوع، بينما الأوقات مصروفة لغيرهم من أمثال هؤلاء أهل الدنيا في كل يوم، كل يوم مجلس لا يتحدث فيه عن العلم، وإنما يتحدث فيه عن أمور أخرى، ولا يخرج فيه الإنسان إلا بقلب قاسٍ، ونفس مظلمة.

هذا غير صحيح، العلم يبذل لمن يحرص عليه، ومن يرغب فيه، وعظم الرغبة يكون سبباً للمزيد منه، وإنما يقدم الإنسان لنفسه، وينبغي أن يعلم الناس لا سيما هؤلاء الذين في المدارس، والجامعات، وما أشبه ذلك أنهم هم الصورة التي تنعكس على من يعلمهم، فإذا لم ير فيهم الرغبة فإن نفسه تنقبض من بذل شيء يذكر؛ لأنه لا يرى المحل القابل، وفي مجالس العلم في المساجد قد يأتي من الراغبين لكن قد تبدو بعض المظاهر التي تدل أحياناً على انصراف، مكالمة في الجوال أثناء الدرس، أو النوم، وما أشبه ذلك، فكأن الإنسان جالس يتحدث لمن؟ هذا الكلام يصرف لمن؟، هذه الأنفاس تصرف لمن؟ فينبغي أن يكون الإنسان في غاية الحرص، والإقبال، والاستفادة، ولا يظهر منه شيء يدل على انشغاله، أو زهده، أو انصرافه، فيكون ذلك سبباً لانتفاعه من الجهتين، يصغي لما يسمع، ويكون ذلك باعثاً للإفادة - والله المستعان -. 

  1. أخرجه الترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ ، باب ومن سورة عبس (5/432)، رقم: (3331).