الخميس 10 / ذو القعدة / 1446 - 08 / مايو 2025
ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [سورة التكوير:19]، يعني أن هذا القرآن لَتبليغُ رسول كريم، أي ملك شريف حسن الخلق بهي المنظر وهو جبريل - عليه الصلاة والسلام -، قاله ابن عباس، والشعبي، وميمون بن مهران، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، والضحاك، وغيرهم."

هذا هو جواب القسم، أقسم بالخنس الجواري الكنس، وأقسم أيضاً بالليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس، قال: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وهذا الرسول الكريم المقصود به جبريل - عليه الصلاة والسلام - بالإجماع؛ لأن الله وصفه هنا قال: ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ۝ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [سورة التكوير:20-21] هذا كله في جبريل ﷺ كما قال الله : عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [سورة النجم:5].

أما الذي في سورة الحاقة إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ۝ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ۝ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [سورة الحاقة:40-42]، فهذا الرسول هو الرسول البشري محمد ﷺ بناء على الصفة، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ فأضافه إلى الرسول الكريم في الموضعين، والكريم هو الشريف من جنسه كما سبق، فهذه الإضافة باعتبار التبليغ، فهي وظيفة الرسول الملائكي، وهي وظيفة الرسول البشري - عليهم الصلاة والسلام -، يبلغون عن الله.

وصحت الإضافة بهذا الاعتبار، وإلا فهو كلام الله قول الله، فالقرآن هو كلام الله بلفظه ومعناه، فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [سورة التوبة:6] فأضافه إلى الرسول الملائكي تارة، وإلى الرسول البشري تارة باعتبار أنهما مبلغان عن الله.

"ذِي قُوَّةٍ كقوله تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى أي شديد الخلْق، شديد البطش، والفعل، عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ أي له مكانة عند الله ، ومنزلة رفيعة، مُطَاعٍ ثَمَّ أي له وجاهة، وهو مسموع القول مطاع في الملأ الأعلى، قال قتادة: مُطَاعٍ ثَمَّ أي: في السماوات يعني هو ليس من أفناد الملائكة، بل هو من السادة والأشراف، معتنى به، انتخب لهذه الرسالة العظيمة."

مطاع ثم: أي مطاع بين الملائكة، مطاع في الملأ الأعلى ﷺ، وقوله هنا: هو ليس من أفناد الملائكة، الأفناد جمع الفَنَد، هذه المادة تدل على القوة، والشدة، الشديد القوي، ولكن السياق الذي ذكرها فيه ابن كثير - رحمه الله - كأنه يقصد بذلك: ليس من أفناد الملائكة، يعني ليس من آحاد الملائكة، ليس من أفراد الملائكة، إنما هو أعظم الملائكة وأشرف الملائكة، وليس من أفراد الملائكة، هكذا أراد - والله تعالى أعلم -.

وفي بعض الطبعات: من أفناء يعني لا يُعلم من هو، يعني هو ليس مجهولاً، وليس ممن لا يعرف؛ لأن أفناد هنا تحتاج إلى تخريج كما ذكرت أن السياق يدل على أنه استعملها يريد ليس من أفراد الملائكة، وإلا فأصل المادة يدل على الشدة، والقوة، فكنت أعجب من استعمال ابن كثير - رحمه الله - لهذه اللفظة هنا ليس من أفناد الملائكة ليس من أشداء الملائكة، وأقوياء الملائكة، هكذا لو أردنا أن نفسرها بمعناها، لكن وجدت لذلك مساغاً أنه لربما استعملت هذه الكلمة بهذا السياق ليس من آحاد الناس، ليس من أفراد الناس أو نحو ذلك، لكن ليس هو معناها الأصلي، فكونها أفناء هذا هو المناسب، يعني هو من رؤساء الملائكة، ليس من أفناء، بالهمزة، وليس بالدال.

وقوله: مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [سورة التكوير:21] "ثَمّ" هذه ظرف مكان للبعيد، مُطَاعٍ ثَمَّ مطاع في السماوات، أمين فيها أي على ما ائتمنه الله عليه من الوحي، وما جعله أميناً عليه مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ليست هذه "ثُم"، وإنما "ثَم" بمعنى هناك، وابن القيم - رحمه الله - تكلم على هذا الموضع بكلام جيد فيه إشارات جميلة وهذه الصفات التي ذكرها الله، وما تدل عليه.

"قال ابن القيم - رحمه الله - ووصف رسوله الملكي في هذه السورة بأنه كريم، قوي، مكين عند الرب تعالى، مطاع في السماوات، أمين، فهذه خمس صفات تتضمن تذكية سند القرآن، وأنه سماع محمد من جبريل، وسماع جبريل من رب العالمين، فناهيك بهذا السند علواً، وجلالة قولُ الله - سبحانه - بنفسه تزكيته.

الصفة الأولى: كون الرسول الذي جاء به إلى محمد كريماً، ليس كما يقول أعداؤه: إن الذي جاء به شيطان، فإن الشيطان خبيث مخبث لئيم قبيح المنظر عديم الخير، باطنه أقبح من ظاهره، وظاهره أشنع من باطنه، وليس فيه ولا عنده خير فهو أبعد شيء عن الكرم، والرسول الذي ألقى القرآن إلى محمد ﷺ كريم جميل المنظر، بهي الصورة، كثير الخير، طيب مطيب، معلم الطيبين، وكل خير في الأرض من هدى، وعلم، ومعرفة، وإيمان، وبر فهو مما أجراه ربه على يده، وهذا غاية الكرم الصوري، والمعنوي."

الوصف الثاني: أنه ذو قوة كما قال في موضع آخر: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى، وفي ذلك تنبيه على أمور:

أحدها: أنه بقوته يمنع الشياطين أن تدنو منه، وأن ينالوا منه شيئاً، وأن يزيدوا فيه أو ينقصوا منه، بل إذا رآه الشيطان هرب منه، ولم يقربه.

الثاني: أنه موالٍ لهذا الرسول الذي كذبتموه، ومعاضد له، وموادٌّ له، وناصر، كما قال تعالى: وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [سورة التحريم:4]، ومن كان هذا القوي وليه، ومن أنصاره، وأعوانه، ومعلمه فهو المهدي المنصور، والله هاديه، وناصره.

الثالث: أن من عادى هذا الرسول فقد عادى صاحبه، ووليه جبريل، ومن عادى ذا القوة، والشدة فهو عرضة للهلاك.

الرابع: أنه قادر على تنفيذ ما أمر به لقوته، فلا يعجز عن ذلك، مؤدٍّ له كما أمر به لأمانته، فهو القوي الأمين، وأحدكم إذا انتدب غيره في أمر من الأمور لرسالة، أو ولاية، أو وكالة، أو غيرها فإنما ينتدب له القوي عليه، الأمين على فعله، وإن كان ذلك الأمر من أهم الأمور عنده انتدب له قوياً أميناً، معظماً، ذا مكانة عنده، مطاعاً في الناس، كما وصف الله عبده جبريل بهذه الصفات، وهذا يدل على عظمة شأن المرسِل، والرسول، والرسالة، والمرسل إليه، حيث انتدب له الكريم القوي، المكين عنده، المطاع في الملأ الأعلى، الأمين حق الأمين، فإن الملوك لا ترسل في مُهماتها إلا الأشراف ذوي الأقدار، والرتب العالية[1]"

هذا الكلام الذي ترونه كل صفة استخرج منها معاني، وربط ذلك بحال النبي ﷺ، قال: إذا كان الذي يأتيه بالوحي بهذه المثابة فينبغي أن يكون هذا الرسول الذي اختير لذلك أن يكون أيضاً بهذه الأمانة، والشرف، وما إلى ذلك، وهذا الجزء هو الذي يسمونه بالتفسير الإشاري - هذا الجزء الأخير -، والتفسير الإشاري غالبه، وعامته لا يصح - كلام الصوفية، وما أشبه ذلك -؛ لأنه لا يستند إلى قاعدة، أو طريقة من طُرق الاستنباط، ولكن يوجد منه أشياء من قبيل الشيء بالشيء يذكر، النظير بالنظير، الاعتبار، المقايسة، يذكره ابن كثير، وابن القيم، وابن تيمية، والسعدي وأمثال هؤلاء، دعنا من الصوفية، هذه أمثلة قليلة جداً جميلة مفيدة، وذكرت لكم منها قول شيخ الإسلام، وابن القيم في وصف القرآن بأنه فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ ۝ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ [سورة عبس:13-14] قالوا: ينبغي إذا كان الذي في السماء بهذه المثابة أن يكون الذي في الأرض بهذه المثابة، لا يمسه إلا المطهرون.

بل قال شيخ الإسلام وابن القيم: إذا كان هذا القرآن بهذه المثابة أنه بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ۝ كِرَامٍ بَرَرَةٍ [سورة عبس:15-16]، ولَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [سورة الواقعة:79]: فكذلك معانيه لا تدخل إلا في القلوب الطيبة، لا تدخل إلا في القلوب الزاكية، هذا كله من قبيل التفسير الإشاري، وليس من قبيل التفسير بإشارة النص.

"قال ابن القيم -رحمه الله-: وهذا يدل على عظمة شأن المرسِل، والرسول، والرسالة، والمرسل إليه، حيث انتدب له الكريم القوي، المكين عنده، المطاع في الملأ الأعلى، الأمين حق الأمين، فإن الملوك لا ترسل في مُهماتها إلا الأشراف ذوي الأقدار، والرتب العالية"[2]."

يعني هذا يعتبر من دلالة الاقتضاء، يقتضي كذا، وهي دلالة معروفة من أنواع المنطوق، لا إشكال فيها.

"وقوله تعالى: أَمِينٍ صفة لجبريل بالأمانة، وهذا عظيم جداً أن الرب  يزكي عبده ورسوله الملكي جبريل كما زكى عبده ورسوله البشري محمداً ﷺ بقوله تعالى: وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ.

قال الشعبي، وميمون بن مهران، وأبو صالح، ومن تقدم ذكرهم: المراد بقوله: وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ يعني محمداً ﷺ."

هنا ذِكرُ الصاحب يدل على معنى وهو أنهم يعرفونه تمام المعرفة، وهو أبعد ما يكون عن الجنون، وهذا الذي جاء به لا يمكن أن يصدر عن مجنون. 

  1. التبيان في أقسام القرآن، لابن القيم (ص/122)
  2. المصدر السابق (ص: 122)