الأحد 25 / ذو الحجة / 1446 - 22 / يونيو 2025
لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ [سورة التكوير:26] أي فأين تذهب عقولكم في تكذيبكم بهذا القرآن مع ظهوره، ووضوحه، وبيان كونه حقاً من عند الله ، كما قال الصديق لوفد بني حنيفة حينما قدموا مسلمين، وأمرَهم فتلَوا عليه شيئاً من قرآن مسيلمة الكذاب الذي هو في غاية الهذيان، والركاكة فقال: ويحكم أين تذهب عقولكم؟! والله إن هذا الكلام لم يخرج من "إلٍّ" أي من إله.

وقال قتادة: فأين تذهبون أي عن كتاب الله، وعن طاعته."

هكذا، فأين تذهبون يعني بعد هذا البيان أين تذهبون؟ أي طريق تسلكون أبين من هذه الطريق التي بينت لكم؟ كما يقول الزجاج: أي مسلك تسلكون بعد هذا البيان؟.

"وقوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ [سورة التكوير:27] أي هذا القرآن ذكر لجميع الناس يتذكرون به، ويتعظون، لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ [سورة التكوير:29]، أي من أراد الهداية فعليه بهذا القرآن، فإنه منجاة له وهداية، ولا هداية فيما سواه."

يعني هذا القرآن ذكر للعالمين، ذكر لجميع الناس، فهو مذكر لهم ثم قال: لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ فهذا بدل بعض من كل، أي: ذكر للعالمين قال: لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ يعني هم بعض العالمين وهم الذين آمنوا بهذا القرآن، وانتفعوا به، كما قال الله : ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:2]؛ لأنهم الذين ينتفعون به، فصح تخصيصهم بذلك باعتبار الانتفاع.

والأول: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ: يعني كما يقال: بالقوة مشتمل على الذكر، متضمن له، لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ: هذا بالفعل، هو ذِكرٌ بالفعل لهم؛ لأنهم عملوا بمقتضاه، وانتفعوا بهداه. 

"قال ابن القيم - رحمه الله -: "ثم أخبر تعالى عن القرآن بأنه ذكر للعالمين، وفي موضع آخر تذكرة للمتقين، وفي موضع آخر لرسوله ﷺ ولقومه، وفي موضع آخر ذكر مطلق، وفي موضع آخر مبارك، وفي موضع آخر وصفه بأنه ذو الذكر، وبجمع هذه المواضع تبين المراد من كونه ذكراً عاماً، وخاصاً، وكونه ذا ذكر، فإنه يذكّر العباد بمصالحهم في معاشهم، ومعادهم، ويذكرهم بالمبدأ، والمعاد، ويذكرهم بالرب - تعالى - وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وحقوقه على عباده، ويذكرهم بالخير ليقصدوه، وبالشر ليجتنبوه.

ويذكرهم بنفوسهم، وأحوالهم، وآفاتها، وما تكمل به، ويذكرهم بعدوهم، وما يريد منهم، وبماذا يحترزون من كيده، وبأي الأبواب، والطرق يأتي إليهم، ويذكرهم بفاقتهم، وحاجتهم إليه، وأنهم مضطرون إليه لا يستغنون عنه نفساً واحداً، ويذكرهم بنعمه عليهم، ويدعوهم بها إلى نعم أخرى أكبر منها، ويذكرهم بأسَه، وشدة بطشه، وانتقامه ممن عصى أمره، وكذب رسله، ويذكرهم بثوابه وعقابه، ولهذا يأمر سبحانه عباده أن يذكروا ما في كتابه كما قال: خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:63]، و[سورة الأعراف:171].

وإذا كان كذلك فأحق، وأولى، وأول من كان ذاكراً له مَن أُنزل عليه، ثم لقومه، ثم لجميع العالمين، وحيث خص به المتقين؛ فلأنهم الذين انتفعوا بذكره، وأما وصفه بأنه ذو الذكر؛ فلأنه مشتمل على الذكر، فهو صاحب الذكر، ومنه الذكر، فهو ذكر، وفيه الذكر، كما أنه هدى، وفيه الهدى، وشفاء، وفيه الشفاء، ورحمة، وفيه الرحمة"[1]."

"وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [سورة التكوير:29] أي ليست المشيئة موكولة إليكم فمن شاء اهتدى ومن شاء ضل، بل ذلك كله تابع لمشيئة الله - تعالى - رب العالمين.

روى سفيان الثوري عن سليمان بن موسى لما نزلت هذه الآية: لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ قال أبو جهل: الأمر إلينا إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فأنزل الله تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ آخر تفسير سورة التكوير، ولله الحمد والمنة."

هذه الآية فيها إثبات المشيئة للعبد، والمشيئة للرب - تبارك وتعالى -، وأن مشيئة العبد لا تخرج عن مشيئة الرب  وَمَا تَشَاءُونَ أثبت لهم المشيئة، إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فلا يقع في ملكه إلا ما أراد، وشاء خلافاً لمن نفى مشيئة العبد، وأثبت مشيئة الرب، أو عكَسَ ذلك، العلماء من أهل السنة، وغير أهل السنة يتكلمون على أنواع المشيئة في هذا الموضع بالكلام المعروف لكن ابن القيم له تعليق على هذه.

"قال ابن القيم -رحمه الله-: "وقوله تعالى: لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ بدل من العالمين، وهو بدل بعض من كل، وهذا من أحسن ما يستدل به على أن البدل في قوة ذكر عاملين مقصودين، فإن جهة كونه ذكراً للعالم كلهم غير جهة كونه ذكراً لأهل الاستقامة، فإنه ذكر للعموم بالصلاحية، والقوة، وذكر لأهل الاستقامة بالحصول، والنصر، فكما أن البدل أخص من المبدل منه، فالعامل المقدر فيه أخص من العامل الملفوظ في المبدل منه، ولابد من هذا فتأمله.

وقوله: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ رد على الجبرية القائلين بأن العبد لا مشيئة له، أو أن مشيئته مجرد علامة على حصول الفعل لا ارتباط بينها وبينه إلا مجرد اقتران عادي من غير أن يكون سبباً فيه.

قوله تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ رد على القدرية القائلين بأن مشيئة العبد مستقلة بإيجاد الفعل من غير توقف على مشيئة الله، بل متى شاء العبد الفعل وُجد.

ويستحيل عندهم تعلق مشيئة الله تعالى بفعل العبد بل هو يفعله بدون مشيئة الله، فالآيتان مبطلتان لقول الطائفتين"[2].

وهاتان الآيتان متضمنتان إثبات الشرع، والقدر، والأسباب والمسببات، وفعل العبد، واستناده إلى فعل الرب، ولكل منهما عبودية مختصة بها، فعبودية الآية الأولى: الاجتهاد، واستفراغ الوسع، والاختيار والسعي، وعبودية الثانية: الاستعانة بالله والتوكل عليه، واللجوء إليه، واستنزال التوفيق، والعون منه، والعلم أن العبد لا يمكن أن يشاء ولا يفعل حتى يجعله الله كذلك.

وقوله: رَبُّ الْعَالَمِينَ ينتظم ذلك كله، ويتضمنه، فمن عطل أحد الأمرين فقد جحد كمال الربوبية، وعطلها، وبالله التوفيق"[3]."

العلماء كابن جرير وغيره كثير يرجحون بين القراءات ويختارون، باعتبار أن هذه القراءة مثلاً تتضمن معنى أكبر، أو أوسع، أو أبلغ، أو يناسب السياق، أو نحو ذلك، يعني مما يجري فيه اختيار القراءة، هذا كثير في كتب التفسير، وفي غيرها أيضاً، ولا بأس به، لا إشكال بقيد، وهو أن لا يكون هذا الترجيح بين القراءات بطريقة يفهم منها الحط، أو الوضع، أو الإزراء، أو التنقص من القراءة الأخرى، وأحياناً توجد في بعض العبارات بعض المفسرين لما يرجح قراءة على قراءة أحياناً تشعر بأن هذا الترجيح يفضي إلى شيء من تنقص القراءة الأخرى، وهذا لا يجوز؛ لأنها متواترة، وهذا كلام الله ، لكن لا بأس أن يختار كأن يقول: والله أنا أختار قراءة ملِك يوم الدين باعتبار أن الملِك يكون ملِكاً، ومالكاً، فهو أبلغ من المالك، أرجّح هذه القراءة، لا إشكال.

لكن تبقى القراءة الثانية قراءة متواترة، والأحسن عند التفسير أن يذكر معنى هذا وهذا، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، يكون هذا من جملة التفسير على أوجه القراءات، فلو أنه اختار إحدى القراءات وقال: أنا أرجح هذه وهي تدل على المعنى الفلاني لا إشكال، لكن بحيث لا يكون ذلك يفهم منه انتقاص القراءة الأخرى.

فما تجدونه في كتب التفسير أحياناً من ترجيح لإحدى القراءات بما يشعر بالحط من الأخرى هذا لا يصح، أما مجرد الترجيح فلا إشكال لاعتبارات معينة في المعنى، هكذا يُفهم مما ذَكر مما قرأت هنا أنه يأتي لهذا المعنى، وهذا المعنى، اقرأه كاملاً يعني كأنها مادة أخرى، يمكن أن يرجع في هذا إلى معجم مقاييس اللغة لابن فارس، فهو الذي يبين أصل المادة هل ترجع إلى أصل واحد أو إلى أصلين. 

معنى فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ يعني بعد هذا البيان، والإيضاح أي طريق تسلكون؟ ماذا عسى أن تقولوا؟ كما تقول لمن توضح له، وتبين بياناً يجلّي الحق، ولا يدع فيه لبساً أو غموضاً، تقول له: فأين تذهب؟ فأين تذهبون بعد هذا البيان؟ ماذا عسى أن تقولوا؟ ماذا عسى أن تجيبوا؟ تورد الأدلة التي لا مجال معها للمكابرة، وتقول: فأين تذهب بعد ذلك؟ أين تذهبون بعد هذه الأدلة؟. 

  1. المصدر السابق (ص: 128-129).
  2. المصدر السابق (ص: 128-129).
  3. المصدر السابق (ص:130).