السبت 22 / جمادى الآخرة / 1447 - 13 / ديسمبر 2025
يَشْهَدُهُ ٱلْمُقَرَّبُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"يقول الله تعالى: كَلا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ ۝ كِتَابٌ مَرْقُومٌ ۝ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ۝ إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ۝ عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ۝ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ۝ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ ۝ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ۝ وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ۝ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ [سورة المطففين:18-28].

يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -: يقول تعالى: حقًا إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ وهم بخلاف الفجار، لَفِي عِلِّيِّينَ أي: مصيرهم إلى عليين، وهو بخلاف سجين.

عن هلال بن يَسَاف قال:سأل ابن عباس كعبًا، وأنا حاضر عن سجين، قال: هي الأرض السابعة، وفيها أرواح الكفار، وسأله عن عِلّيين فقال: هي السماء السابعة، وفيها أرواح المؤمنين.

وهكذا قال غير واحد: إنها السماء السابعة.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: كَلا إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ يعني: الجنة. 

 وقال غيره: عليون عند سدرة المنتهى.

والظاهر: أن عليين مأخوذ من العلو، وكلما علا الشيء، وارتفع عظم، واتسع؛ ولهذا قال تعالى معظمًا أمره ومفخمًا شأنه: وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّون."

قوله - تبارك وتعالى -: كَلا إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ يقول هنا: حقًا إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ وهم بخلاف الفجار، وهم المطيعون أهل الإيمان، والعمل الصالح الذين بروا الله بأداء فرائضه، واتقاء محارمه، وهذا على طريقة القرآن حيث ينوع فيما يتصل بالترغيب، والترهيب؛ ليكون المؤمن بين الخوف، والرجاء، فلما ذكر ما للكفار، والفجار أعقبه بذكر ما للأبرار إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ، كتاب الأبرار ما المراد به؟

هنا يقول: إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ وهم بخلاف الفجار، لَفِي عِلِّيِّينَ أي: مصيرهم... إلخ هذا كما سبق كتاب الأبرار، بعضهم يقول: إن عليين كتاب الأبرار لفي عليين، بعضهم يقول: لَفِي عِلِّيِّينَ أن اسم هذا الكتاب الذي كتب فيه الأبرار، وأعمال الأبرار اسمه هكذا لَفِي عِلِّيِّينَ لفي هذا الكتاب المسمى بعليين، كتاب الأبرار يعني أن أعمال الأبرار مكتوبة يعني كتاب، هنا بمعنى مكتوب لَفِي عِلِّيِّينَ لفي هذا الكتاب المسمى بعليين كما يقول بعض المفسرين، وذلك من العلو، والارتفاع كما سبق في سجين، فهذا يقابله تمامًا، فأصل هذه المادة تدل على الارتفاع، تدل على العلو لَفِي عِلِّيِّينَ ارتفاع بعد ارتفاع لا غاية له، ولهذا بعض أصحاب المعاني كالزجاج يقول: أعلى الأمكنة لَفِي عِلِّيِّينَ في أعلى الأمكنة، وأرفعها، وهو يرجع إلى هذا المعنى، وابن جرير يقول: كتاب أعمال الأبرار كتاب الأعمال هذا لفي ارتفاع لا علم لنا بغايته، لكنه يقول: غير أن ذلك لا يقصر عن السماء السابعة، يعني أن مرجع أقوال السلف على تنوعها تدور حول هذا المعنى، أن عليين فوق السماء السابعة على تفاصيل يذكرونها، بعضهم يقول: معلق بالعرش بناء على أنه اسم للكتاب، وحتى من قال: بأن المراد بالعلو فذلك يعني غاية في الارتفاع، وهكذا من يقول: عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى [سورة النجم:14] فإن سدرة المنتهى في السماء السابعة.

فأقوالهم ترجع إلى هذا على اختلاف عباراتهم؛ ولهذا ابن جرير يقول: هو في غاية الارتفاع، في ارتفاع لا يكون دون السماء السابعة لَفِي عِلِّيِّينَ يكون في علو، وارتفاع، يكون غاية في ذلك، وابن جرير يعلل هذا بالإجماع، والإجماع عند ابن جرير كما هو معلوم يقصد به قول عامة المفسرين، قول الجمهور يسميه إجماعًا، فإذا رأيت ابن جرير يقول: غير أنا لا نستجيز مثلاً مخالفة إجماع الحجة، أو نقول: ذلك لإجماع الحجة، أو لا نرتضي خلافه لإجماع الحجة يقصد به قول عامة المفسرين، وهو يريد هذا تمامًا؛ لأنه يعلم بوجود الأقوال والأخرى والخلاف، وأحيانًا يذكر هذه الجملة والسطر الذي قبلها يذكر قولاً مخالفًا؛ فدل هذا قطعًا على أنه يريد قول الأكثر يسميه إجماعًا، وهذا مهم في فهم عبارات العلماء فإن إطلاق الإجماع العلماء ليسوا فيه على رتبة واحدة، وبعضهم يقصد به ابتداء قول الأكثر كابن جرير، وبعضهم يذكر الإجماع، ولكنه يتساهل في إطلاقه، فينقل الإجماع، والواقع إنه لا يوجد فيه إجماع، وهذا تجده في إجماعات ابن المنذر، وتجده في كثير من كلام المتأخرين يذكرون الإجماع، والواقع أنه لا يوجد إجماع، ويمر بنا هذا كثيرًا في التفسير، وفي غيره، والذي حكاه الواحدي أيضًا عن المفسرين يقصد عامة المفسرين أن السماء السابعة لَفِي عِلِّيِّينَ وعبارات بعض السلف مثل الضحاك، ومجاهد، وقتادة يقولون: السماء السابعة فيها أرواح المؤمنين، يعني جعلوا عليين ليس ذلك الكتاب، يعني ليس بكتاب يسمى بعليين، وإنما كما سبق في سجين أنه موضع تكون فيه أرواح الكفار تصير إليه أرواح الكفار، وأراوح المؤمنين تكون في السماء السابعة، طبعًا يقصدون بهذا في البرزخ يعني بعد الموت، وقبل البعث أين تكون أرواح أهل الإيمان فهنا قوله - تبارك وتعالى -: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ يحتمل أنهم كتبوا، وقضي لهم أنهم في عليين، يعني يصيرون إلى ذلك، وهذا تجده حتى في كلام الناس يقول: أسأل الله أن يجعلك في عليين، فيفهم المقول له ذلك أن روحه تصير ثمة بهذا العلو، والمنزلة، وما إلى ذلك، فهو يحتمل من حيث اللفظ أن يراد به اسم لهذا الكتاب الذي دونت فيه الأعمال كما قلنا في سجين، ولكن نحن نستبعد هذا الاحتمال، كما استعبدناه في سجين بناء على الرواية، ففي حديث البراء أنه سجين في الأرض السابعة السفلى، وهنا عندنا أيضًا في عليين أنه في السماء السابعة، فحتى قول من قال: سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى الضحاك هو أيضًا يعود إلى هذا القول أنه السماء السابعة، وبعضهم يقول: في عليين يعني الجنة، والذي عليه أهل العلم، وهو المشهور الذي نقل عليه ابن جرير الإجماع بالمعنى الذي ذكرنا أنه يكون أن المقصود به السماء السابعة.

هنا يقول ابن كثير: والظاهر أن عليين مأخوذ من العلو، وكلما علا الشيء، وارتفع عظم، واتسع، وفي حديث البراء الذي أشرتُ إليه في ذكر الروح حينما يموت الإنسان، وتأخذ روحه ملائكة الرحمة فيصعدون بها، وفيه حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة، لاحظ الروح ينتهي بها إلى السماء السابعة فيقول: اكتبوا كتاب عبدي في عليين[1]، هنا لما تنتهي إلى السماء السابعة فهل هذا يعني أن عليين هو الكتاب الذي كتبت فيه أعمالهم؟ والله يقول حينها حين يبلغون بها إلى السماء السابعة: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، ليس باسم للكتاب كذا، وجاء في رواية: في السماء السابعة اكتبوا كتاب عبدي في عليين في السماء السابعة فما معناه؟ يعني أنه يصير إلى ذلك - والله تعالى أعلم -، يعني أنه يكتب له يحكم له فلان في عليين الروح يبقى لها اتصال بالجسد، ولكن كما سبق النبي ﷺ رأى الأنبياء في السموات، ورأى إبراهيم ﷺ وعنده الولدان، وهؤلاء الولدان في قبورهم، فالأرواح لها أحوال كما سبق غيبية - الله أعلم بها -، ولكن نحن نقول بقدر ما جاء به النقل - والله تعالى أعلم -.

قال: وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ قال: كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يعني مكتوب، يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ قال: وهم الملائكة قاله قتادة، وقال العوفي عن ابن عباس: يشهده من كل سماء مقربوها، يعني أن الملائكة يحضرون ذلك الكتاب، هذا إذا قلنا بأن عليين بمعنى الكتاب أنه اسم للكتاب يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ بمعنى يحضرون، وإذا قيل: مكتوب يكتب يشهده يشهدون على ما فيه، الشهود هم الملائكة، ويحتمل أن يفسر بما في حديث البراء ثم يشيعه مقربو كل سماء يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ لكن ذاك في الروح روح المؤمن، والكلام هنا في الكتاب سواء قلنا: الكتاب الذي يسمى بذلك يحضره المقربون، أو أنه هذه الكتابة إنه كتب أن فلانًا في عليين من الذي يشهد؟ المقربون من الملائكة - عليهم الصلاة والسلام - ابن جرير - رحمه الله - يقول: يشهد ذلك الكتاب المكتوب بأمان الله للبر من عباده، شهادة على الكتابة الذي فيها كتب الأمان له أنه في عليين، أمان له من النار، والفوز بالجنة يشهد ذلك المقربون من الملائكة من كل سماء هذا كلام ابن جرير، ولا شك أن في كل سماء من يوصف بذلك من الملائكة، ويدل عليه حديث البراء الذي ذكرته آنفًا، ثم يشيعه كل سماء يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ من أهل كل سماء - والله تعالى أعلم -.

"ثم قال تعالى مؤكدا لما كتب لهم: كِتَابٌ مَرْقُومٌ ۝ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ وهم الملائكة، قاله قتادة.

وقال العوفي، عن ابن عباس: يشهده من كل سماء مقربوها."

  1. رواه أحمد في المسند، برقم (18534)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1676).