"وقوله تعالى: يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ أي: يسقون من خمر من الجنة، والرحيق: من أسماء الخمر، قاله ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وابن زيد.
روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري - أراه قد رفعه إلى النبي ﷺ - قال: أيما مؤمن سقى مؤمنا شربة ماء على ظمأ، سقاه الله تعالى يوم القيامة من الرحيق المختوم، وأيما مؤمن أطعم مؤمنًا على جوع، أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مؤمن كسا مؤمناً ثوبًا على عُري، كساه الله من خُضر الجنة[1].
وقال ابن مسعود في قوله: خِتَامُهُ مِسْكٌ أي: خلطه مسك.
وقال العوفي، عن ابن عباس: طيب الله لهم الخمر، فكان آخر شيء جعل فيها مسك، خُتِم بمسك، وكذا قال قتادة، والضحاك".
هنا قال: يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ كما ذكر ابن كثير - رحمه الله - وهو قول السلف بأن الرحيق اسم من أسماء الخمر يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ يعني: خمر، لكن وصفها هنا بقوله: مَخْتُومٍ ثم قال: خِتَامُهُ مِسْكٌ هذا تفسير لمختوم خِتَامُهُ مِسْكٌ لكن ما المراد بذلك ختامه مسك؟ أقوال السلف فيه ترجع إلى ثلاثة أقوال:
أكثرهم على قولين، ولكن إذا أردنا الاستقراء، ولو قال به قائل واحد نقول ثلاثة، وإلا فالمشهور عند السلف في قوله: خِتَامُهُ مِسْكٌ قولان:
القول الأول: الختام بمعنى ما يختم به، يعني أن أغطيته مسك كما يقول ذلك مجاهد، وابن زيد، يعني: مطين، يعني كأنه ختم بالطين، فخمر الدنان في الدنيا يختم من أجل أنه لا يدخله غش، وأنها كما يقال مختوم بالشمع، قديمًا كانت تطين رؤوسها بحيث أنها تكون مضمونة كما يقال، معتق كما يقول ابن جرير، هو لا يختار هذا القول لكن يرد على القائلين، فيستعمل مثل هذه العبارة معتق فهذا التطيين سابقًا قديمًا لها التطيين هذا مثل هذه القوارير التي نشرب بها، أو القوارير المشروبات عمومًا تجد أنها عندما تفتح يكون ذلك أشبه بنوع كسر باعتبار أنها ما فتحت قبل ذلك، ما غير الشراب، ما بدل ما خلط، ما صب عليه ماء، ما جاء أحد عبث فيه في السابق ما عندهم هذه الآلات التي تجعلها بهذه المثابة بحيث كما تفتح القوارير الآن بضغطة معينة، ثم بعد ذلك يكون هنا فصل لطرفيها إلى آخره، لا أول الطين بحيث لو جاء أحد يريد تنكسر فهنا من أجل أن يطمئن إلى أنها من المصنع مباشرة ما مستها الأيدي، ولهذا يقول بعضهم مثل السندي في بعض حواشيه على كتب الحديث فهو يقول: يفسر بالمعنى هذا اسمه تفسير بالمعنى يقول: المصون الذي لم يتبدل لأجل ختامه، يعني فسرها هنا بالمعنى مختوم يعني مصون كما أنه أول يطينون رؤوس هذه الدنان أفواه الدنان هنا فهم منه أن المقصود مختوم يعني مصون، لم يتبدل من أجل ختامه، فهذا معنى، وقال به قائلون من السلف؛ ولهذا يقولون معنى ذلك أنه ممنوع من أن تمسه الأيدي إلى أن يفك ختامه الأبرار، الأبرار هم الذين يقومون بذلك هذا قول.
القول الثاني: وهو لجماعة من السلف كسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، وهو اختيار ابن جرير أن المقصود بختامه، يعني آخر الطعم آخر طعم هذا الخمر المسك لما يشرب يكون ختامه مسك، فيكون هذا أطيب الخمر رائحتها قبيحة جدًا، وهكذا هذه البلايا المحرمة التي يتعاطاها هؤلاء الناس، - نسأل الله العافية للجميع - ، الآن عندما تقرأ تقريرًا - أعزكم الله - عن الشيشة هذه التي فيها روائح ويقولون هذا رائحة الفراولة، وهذا نكهة الفراولة تستهوي بعض الناس السذج، ويظن فعلاً بينما هي سموم ممتلئة، وطريقة عمل هذه الأشياء، وطريقة إنتاجها لو اطلعوا عليها لنفروا منها غاية النفور، خمر الجنة ختامه مسك، يعني أن آخره يكون مسكًا فليس فيها رائحة سيئة، وليس فيها من الطعوم ما يكون سيئًا كما هو الحال في خمر الدنيا، وابن جرير - رحمه الله - يرجح هذا القول؛ لأن خمر الجنة كما أخبر الله أنهار، فليس فيه دنان حتى يحتاج إلى ختم يطين، بمعنى أنه يوضع المسك في أفواهها لتغطيتها، وتغليفها، يقول: ليس بحاجة إلى هذا هو أنهار جارية، واضح وجه ترجيح ابن جرير؟ لكن لو ثبت أنه يوجد في الجنة دنان من الخمر مثلاً لكان هذا مشكلاً على قول ابن جرير، لكن الذي ذكر في الجنة الكأس، الأباريق، الأكواب هذه ذكرت، وهذه ليست الدنان، فآخر طعم الخمر مسك إذا رفع الشارب الإناء عن فيه وجد طعم المسك، ورائحة المسك، وهذا أطيب ما يكون في الشراب ترون الآن تباع أشياء، وأنواع من الأشياء التي توضع مع الشراب، وأحيانًا توضع في الأوعية، وما هذه الأشياء التي توضع أشياء إما ماء الورد، أو يوضع أشياء ما يسمونه لقاح، أو يوضع أشياء مما يسميه بعضهم القطران يوضع في نفس الأسقية في نفس الأوعية أحيانًا يعني الوعاء في تصنيعه يوضع فيه مادة يسمونها قطران تشبه القار كلها طعم يستسيغه بعض الناس، ومن الناس من يرى أن هذا في غاية السوء في الطعم،
كذلك اللقاح يستسيغه بعضهم، وبعضهم لا يستسيغه أبدًا، الجنة شأن آخر أقصد أن الناس في الدنيا يحتالون على تطييب أسقيتهم بهذه الأشياء التي يضعونها، أما في الجنّة، فشأن آخر مع أن بعض أهل العلم يقول: إن هذا الختام للمسك أنه للأواني الأكواب الأباريق إلى آخره، هي مغلفة بالمسك، يعني ابن جرير يقول: أنهار فلا يوجد دنان للخمر حتى تختم وتطين بالمسك مثلاً، إذًا المقصود بالختام آخر ما يصل إلى الشارب المسك، فالختام يحتمل هذا، ويحتمل هذا، مع أن بعض أهل العلم يقولون: بأن الختام المقصود أنه مخلوط بالمسك، وهذا نقله ابن كثير كما ترون هنا.
والثالث: الذي أشرت إليه أنه مخلوط بالمسك نقله عن ابن مسعود فهذا بعض أهل العلم يقول: هذا لا يعرف في لغة العرب يعني أن لفظة الختام بمعنى الخلط أنها ما تأتي بمعنى الخلط إنما آخر الشيء ختام الشيء، أو ما يختم به، فعلى هذا الشيء لكن نقول لو صح هذا الأثر عن ابن مسعود فهو عربي قح فكيف يقال لا يعرف عند العرب؟ إلا إن قصد التوسع في العبارة بمعنى أنه مخلوط بالمسك، يعني لما كان آخره بطعم المسك كان ذلك نوع خلط له، بمعنى أنه فيه ممازجة بالمسك لكن في آخره تظهر في آخره يعني ليس بخمر صرف، وإنما معه مسك لكن هذا المسك في الآخر فيكون عبر بالخلط بهذا الاعتبار، وإلا فالممازج بعض أهل العلم يقول: لا يقال له ختامه كذا، وإنما يقال: ممازجه كذا، فيمكن أن يوجه قول ابن مسعود بهذا الاعتبار، - والله تعالى أعلم - ، لكن الأثر المذكور هنا الحديث وهو حديث أبي سعيد الخدري: أيما مؤمن سقى مؤمنًا شربة... الحديث في إسناده ضعف.
كلام ابن مسعود الذي سبق في أنه خلطه مسك أيضًا قال به غيره، فقال به علقمة من أصحاب ابن مسعود، علقمة النخعي وابن جرير - رحمه الله - يقول هذا لا يعرف في لغة العرب لكن كما سمعتم خاتمه ختامه مسك، خاتمه مسك هذه ليست بالضرورة فإن خاتم الشيء قد يكون أيضًا آخر الشيء، فالنبي ﷺ خاتم النبيين لا نبي بعده، يعني هو آخر الأنبياء - عليه الصلاة والسلام - ، مزاجه من تسنيم هذا الخلط فرّق بين العبارتين، كلام ابن جرير يمكن أن يوجه بالطريقة التي ذكرت لما كان معه مسك عبر عن ذلك على سبيل التوسع بالخلط، وقراءة الجمهور هي التي نقرأ بها، خِتَامُهُ مِسْكٌ، والقراءة الأخرى متواترة قرأ بها الكسائي: خاتمه مسك والمعنى واحد - والله أعلم - ، الختام والخاتم بمعنى واحد.
يقول: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ يقول: هنا طيب لهم الخمر فكان آخر شيئًا جعل فيها مسك ختم بمسك قال: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ، أو وفي مثل هذا الحال فليتفاخر المتفاخرون، ويتباهى، ويكاثر، ويستبق إلى مثله المستبقون، يعني فليرغب الراغبون هذا كله قريب من المعنى في ذلك هذا النعيم، أو إلى هذا الرحيق الموصوف بهذه الصفة، فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ، وبعضهم يقول: إن في وفي ذلك، وإلى ذلك يعني بمعنى إلى ذلك فليتنافس المتنافسون، يتبادر المتبادرون في العمل كما قال الله : لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ [سورة الصافات:61]، وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وأصل التنافس يعني هذه التفسيرات هي تقرب المعنى، لكن أصل التنافس بمعنى التشاجر، أصله التشاجر على الشيء، التنازع فيه بأن يحب كل واحد أن ينفرد به دون غيره، يقال نفست الشيء عليه، يعني أنه ضن به وأحب أن يكون إليه، ويختص به دون سواه، والبغوي - رحمه الله - يرجع ذلك إلى أن أصله من الشيء النفيس، والشيء النفيس تضن بها النفوس، وتحرص عليه غاية الحرص بخلاف الشيء المبتذل، فكل واحد يريد هذا الشيء النفيس لنفسه، وينفس به على غيره يضن به على غيره، كما يقول ابن جرير أيضًا، وهذا هو المجال الحقيقي للمنافسة والمسارعة، ولهذا يقولون: لا مجال للإيثار في القرب؛ لأن ذلك مؤذن بالزهد فيما عند الله - تبارك وتعالى -، ولهذا ذكر النبي ﷺ الأذان، والصف الأول، وذكر فيهما المنافسة، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا[2]، فهذا الاستهام للمنافسة الشديدة بحيث لا يتنازل أحد عن حقه، كل واحد يريد أن يستأثر بذلك إلى منتهى النفس يحتمل - الله أعلم -، البغوي ذكر أنه من الشيء النفيس يتسابق الناس عليه.
- رواه أبو داود، كتاب الزكاة، باب في فضل سقي الماء، برقم (1682)، والترمذي، في أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ، برقم (2449)، وأحمد في المسند، برقم (11101)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف لضعف عطية بن سعد العوفي، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين غير سعد أبي المجاهد الطائي، فمن رجال البخاري، وروى له أصحاب السنن غير النسائي، وهو ثقة، حسن: هو ابن موسى الأشيب، زهير: هو ابن معاوية الجُعْفي، وروي موقوفاً وهو الصحيح"، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود، برقم (300)، وفي ضعيف الجامع، برقم (2249).
- رواه البخاري، كتاب الأذان، باب الاستهام في الأذان، برقم (615)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، وإقامتها، وفضل الأول فالأول منها، والازدحام على الصف الأول، والمسابقة إليها، وتقديم أولي الفضل، وتقريبهم من الإمام، برقم (437).