"تفسير سورة الانشقاق وهي مكية.
عن أبي سلمة "أن أبا هريرة قرأ بهم: إِذَا السَّمَاء اِنْشَقَّتْ فَسَجَدَ فِيهَا، فَلَمَّا اِنْصَرَفَ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ رَسُول اللَّه ﷺ سَجَدَ فِيهَا" [1]، رَوَاهُ مُسْلِم، وَالنسَائِي مِنْ طَرِيق مَالِك، وروىَ الْبُخَارِي عَنْ أَبِي رَافِع قَالَ: "صَلَّيْت مَعَ أَبِي هُرَيْرَة الْعَتَمَة فَقَرَأَ: إِذَا السَّمَاء اِنْشَقَّتْ فَسَجَدَ، فَقُلْت لَهُ، فَقَالَ: سَجَدْتُ خَلْف أَبِي الْقَاسِم ﷺ فَلَا أَزَالُ أَسْجُد بِهَا حَتَّى أَلْقَاهُ"[2]."
سورة الانشقاق من السور المكية التي تتحدث عن يوم القيامة، كما تتحدث عن مسير الإنسان منذ نشأته، وما يمر به من أحوال وأطوار حتى يصير إلى ملاقاة ربه - تبارك وتعالى -، وإلى منزله النهائي إما في الجنة، وإما في النار، فهنا هذه الأطوار كما سيأتي يدخل فيها موقف القيامة، والحساب، والجزاء، وما يلاقيه الإنسان من الأهوال، والشدائد، ثم بعد ذلك في آخرها يَنْعَى على هؤلاء الذين مازالوا يكذبون، ويكفرون، ولا تؤثر فيهم آيات القرآن، ولا يحصل منهم الإذعان، والإيمان.
فنستطيع أن نقول: إن السورة في الجملة تتحدث عن اليوم الآخر، وتتحدث عن رحلة الإنسان كاملة من أولها إلى آخرها - كما سيتضح عند تفسير الآيات -، وهذا قد يكون أولى من تجزئة الموضوعات فيقال: الآيات الأولى تتحدث عن القيامة مثلاً، والآيات التي بعدها تتحدث عن الإنسان، والآيات التي بعدها تتحدث عن الحساب، والجزاء، وهكذا ختمت الآيات بالحديث عن الكفار، وإعراضهم، وما توعدهم الله به.
"إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا [سورة الإنشقاق:1-15].
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -: إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ وذلك يوم القيامة، وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا أَيْ: اِسْتَمَعَتْ لِرَبِّهَا، وَأَطَاعَتْ أَمْره فِيمَا أَمَرَهَا بِهِ مِنْ الِانْشِقَاق، وَذَلِكَ يَوْم الْقِيَامَة وَحُقَّتْ أَيْ: وَحُقَّ لَهَا أَنْ تُطِيع أَمْره لِأَنَّهُ الْعَظِيم الَّذِي لَا يُمَانَع، وَلَا يُغَالَب، بَلْ قَدْ قَهَرَ كُلّ شَيْء، وَذَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْء."
قوله - تبارك وتعالى -: إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ مضى الكلام على هذا، وقلنا: انفطرت، كما جاء في الآية الأخرى، تصدعت، صارت أبوابًا، كما يقول ابن جرير - رحمه الله -، إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ يقول هنا: أي: استمعت لربها، وأطاعت أمره فيما أمرها به من الانشقاق، أذنت من الأَذَن وهو الاستماع، ما أذِن الله لشيء ما أذِن لنبي حسن الصوت يقرأ القرآن يتغنى به، فهذا بمعنى الاستماع، وبعضهم فسره بالإذن المعروف، وهنا يقول: وَحُقَّتْ أي: حق لها أن تطيع أمره؛ لأنه العظيم الذي لا يمانع، ولا يغالب - -.
وقوله: وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا استمعت أي: سماع إجابة، وانقياد، وحق لها ذلك، الله - تبارك وتعالى - قال للسماوات والأرض: اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [سورة فصلت:11] فلا يسع هذه المخلوقات، والأجرام العظيمة على قوتها، وشدتها إلا الانقياد، والسماع، والطاعة، وحق لها ذلك فهو العظيم الأعظم، وبعضهم يقول: إن معنى "حُقت" يعني حقق الله عليها الاستماع لأمره بالانشقاق، يعني جعلها حقيقة لذلك، "أذنت لربها، وحقت" جعلها الله حقيقة بذلك، وبنحو هذا قال ابن جرير - رحمه الله -، وكأن الأول هو المتبادر "حقت" أي حق لها أن تستجيب، ولا تمانع؛ لأن الله - تبارك وتعالى - لا يمانع ولا يغالب.
- رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب سجود التلاوة، برقم (578).
- رواه البخاري، كتاب صفة الصلاة، باب الجهر في العشاء، برقم (732).