السبت 02 / محرّم / 1447 - 28 / يونيو 2025
إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال ابن كثير - رحمه الله -: ولما ذكر هؤلاء وعبادتهم وطاعتهم قال بعده: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ [الفجر: 6]، وهؤلاء كانوا متمردين عتاة جبارين خارجين عن طاعته، مكذبين لرسله، جاحدين لكتبه، فذكر تعالى كيف أهلكهم، ودمرهم، وجعلهم أحاديث وعبرًا، فقال: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ۝ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ [الفجر : 6-7]، وهؤلاء عاد الأولى، وهم أولاد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح، قاله ابن إسحاق، وهم الذين بعث الله فيهم رسوله هودًا فكذبوه وخالفوه، فأنجاه الله من بين أظهرهم ومن آمن معه منهم، وأهلكهم بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ۝ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ۝ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [الحاقة: 6-8]، وقد ذكر الله قصتهم في القرآن في غير ما موضع؛ ليعتبر بمصرعهم المؤمنون.

فقوله تعالى: إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ عطف بيان، زيادة تعريف بهم."

هنا ابن كثير يقول: إن عادًا هذه في قوله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ هي: عاد الأولى، وذكر نسبهم هنا بقوله: وهم أولاد عاد بن إرم، فبينهم وبين نوح ﷺ ثلاثة آباء، أي: أن العهد قريب، والمؤرخون، والمفسرون، والعلماء مختلفون: هل يوجد عاد الأولى، وعاد الثانية، أو أن عادًا واحدة؟ ستجدون الكلام على هذا في كتب التفسير عند قوله - تبارك وتعالى -: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى [النجم: 50]، فبعضهم يقول: "عاداً الأولى" هي: عاد إرم هذه، وأن هناك عادًا الثانية، مع أن الآية لا تقتضي ذلك بالضرورة، أي: لا تقتضي وجود ثانية، فمعنى قوله: عَادًا الْأُولَى [النجم: 50] يحتمل أن يكون المعنى: القديمة، وهذا الخلاف موجود أيضاً في قوله - تبارك وتعالى -: وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب: 33]، يعني: هل يوجد جاهلية أولى، وجاهلية ثانية؟ فتجد أقوال المفسرين مختلفة بناء على ذلك، يعني: بعضهم يقول: الجاهلية الأولى هي: التي كانت في زمن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، الذين بعث فيهم إبراهيم ﷺ والجاهلية الثانية هي: التي كانت في زمن النبي ﷺ الذين بعث فيهم، وبعضهم يقول غير ذلك، كل هذا بناءً على أساس أن هناك جاهلية أولى وجاهلية ثانية، ولكن على القول الآخر وهو: أن الجاهلية الأولى يعني: المتقدمة، وأن عادًا الأولى يعني: المتقدمة، أي: السابقة القديمة، فلا إشكال، ولا خلاف، والمؤرخون يقولون: إن عاداً بادوا، وانقرضوا؛ لأن الله عذبهم، وعاقبهم، وأهلكهم عن آخرهم.

وقوله: إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ يقول: "عطف بيان، زيادة تعريف بهم".

وقوله هنا: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ۝ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ، على قراءة الجمهور: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ بالتنوين، إِرَمَ بالفتح، فيكون "إرم" عطف بيان، كما قال ابن كثير - رحمه الله -: "عطف بيان، زيادة تعريف بهم"، يقصد: أن قوله: إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ هي: عاد، وعاد عرفنا أنها قبيلة، لكن قوله: إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ هل إرم هذه هي نفس عاد، أو هي قبيلة من عاد، أو أنها مدينة لهم يقال لها: إرم، أو أن معنى إرم شيء آخر مثل: البالية، أو نحو ذلك؟ هذه اختلفت فيها أقوال المفسرين، لكن المشهور: أن ذلك قبيلٌ من الناس، والقول الآخر: أنها البلدة التي كانوا فيها، فعاد هذا اسم لأبيهم، كما ذكر هنا ابن كثير: عاد بن إرم، والله قال: إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ؛ لأن هذا سيترتب عليه: ما معنى: ذَاتِ الْعِمَادِ ۝ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ؟ هل هي مدينة؟ هل هي خيام؟ هل هي قبيلة أجسامهم قوية طويلة ممتدة لهم قامات عظيمة؟ فالآن عاد اسم الأب، وأما إرم فبعضهم يقول: إرم هي: القبيلة، فقوله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ يعني: قبيلة عاد، فيكون هذا بدلا منه، يعني: إرم بدل من عاد، ويحتمل أن يكون بدل كل من كل، أي: أنها هي يقال لها: إرم، أي: القبيلة هذه - قبيلة عاد - هي: قبيلة إرم، أو أن إرمَ هي قبيلة من عاد، ليس كل عاد يقال لهم ذلك، وإنما هي قبيلة من قبائل عاد، وهي التي أهلكت، وهناك من يقول: عاد هو الأب، وإرم هي القبيلة، وبعضهم يقول: لا، ولكن عاد هي القبيلة، وإرم هي جزء، وفرع من القبيلة، وهو: عطف بيان، أو بدل من عاد؛ للدلالة على أنها عاد الأولى، وليست عادًا الأخرى.

وقوله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ يعني: أهل عاد، أو أهل إرم، أو سبط إرم الذي هو أيضاً جد، فهو أبو عاد؛ لأنه عاد بن إرم، وبعضهم يقول: عاد بن عوص بن إرم، وهذه الأسماء إذا رجعت لكتب التاريخ تجد أنها ليست محل اتفاق في ترتيبها، وفي ضبطها أيضاً، ليس الضبط بالحركات فقط بل حتى الحروف.

والذي رجحه ابن جرير - رحمه الله - وهو اختيار قتادة: أن إرمَ قبيلة من عاد، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ۝ إِرَمَ، وابن جرير يقول: إن هذه الإضافة توضح، وتقيد "عاد إرم"، كما سبق حينما يقال: حجر اليمامة، سواء كان ذلك في المواضع، أو كان في الأسماء والقبائل، أي: حتى تميز قبيلة من قبيلة، وهنا قال: عاد إرم، ويحتج ابن جرير لهذا بتفاصيل ذكرها في تفسيره، وعلى هذا القول هما عادان: الأولى هي: إرم التي أهلكها الله وهنا عطف بيان، أو بدل، ولا يقال: لماذا لم يأتِ مجرورًا؟ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة، فقال: إرم بالفتح، وما قال: إرمِ بالكسر؛ لأنه لا تتأتى الكسرة هنا.

"وقوله تعالى: ذَاتِ الْعِمَادِ؛ لأنهم كانوا يسكنون بيوت الشَّعْر التي ترفع بالأعمدة الشداد، وقد كانوا أشد الناس في زمانهم خلقة، وأقواهم بطشًا؛ ولهذا ذكّرهم هود بتلك النعمة، وأرشدهم إلى أن يستعملوها في طاعة ربهم الذي خلقهم، فقال: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأعراف: 69]، وقال تعالى: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [فصلت:15]، وقال هاهنا: الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ أي: القبيلة التي لم يخلق مثلها في بلادهم؛ لقوتهم، وشدتهم، وعظم تركيبهم.

قال مجاهد: إرم: أمة قديمة، يعني: عادًا الأولى، وقال قتادة بن دعامة، والسدي: إن إرمَ بيت مملكة عاد، وهذا قول حسن جيد وقوي.

وقوله تعالى: الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ [الفجر: 8]، أعاد ابن زيد الضمير على العماد؛ لارتفاعها، وقال: بنوا عُمدًا بالأحقاف لم يخلق مثلها في البلاد، وأما قتادة، وابن جرير فأعاد الضمير على القبيلة أي لم يخلق مثل تلك القبيلة في البلاد، يعني: في زمانهم، وهذا القول هو الصواب، وقول ابن زيد، ومن ذهب مذهبه ضعيف؛ لأنه لو كان المراد ذلك لقال: التي لم يعمل مثلها في البلاد، وإنما قال: لم يخلق مثلها في البلاد."

الذي مشى عليه ابن كثير -رحمه الله- هنا: أن إرمَ هي: القبيلة، وهذه القبيلة هي: عاد الأولى، ومن ثَمَّ فإن قوله: ذَاتِ الْعِمَادِ قال: "لأنهم كانوا يسكنون بيوت الشعْر التي ترفع بالأعمدة الشداد، وكانوا أشد الناس في زمانهم خلقة، وأقواهم بطشًا"، يعني: أنها ليست اسمًا للمدينة، وإنما اسم للقبيلة التي عرفت بهذا حيث ينتجعون المطر، ويترحلون، ويتنقلون يطلبون الكلأ، فكانت لهم عمد رفيعة طويلة لهذه الخيام الكبيرة، هذا الذي مشى عليه ابن كثير، وذكره جماعة من المفسرين: أن إرم ذات العماد يعني: التي عرفت ببيوت الشعر ذات العماد، أو بالخيام ذات العماد الرفيعة، إذًا هي ليست اسمًا للمدينة، هذا الذي مشى عليه ابن كثير، وذكر دلائل قوتهم من القرآن، ثم بعد ذلك ما نقله عن قتادة، والسدي: من أن إرمَ بيت مملكة عاد، قال: "وهذا قول حسن جيد، وقوي"، فهو استحسن هذا القول وقواه، لكن الذي مشى عليه الأول، يعني: كأنه يقول: هذا له وجه قوي، لكنه ليس هو اختياره، إذا كان في التفسير الأصل كما عندنا في المختصر، فيكون اختيار ابن كثير إذًا هو القبيلة، يعني: فيكون الكلام كله على القبيلة، وليست مدينة عاد.

وبعضهم يقول: ذَاتِ الْعِمَادِ يعني: ذات القوة، والشدة، مأخوذة من قوة الأعمدة، يعني: إرم القبيلة هذه ذات العماد، أي: ذات القوة، والشدة، وهذا مروي عن الضحاك - رحمه الله -، لكن هذا القول الذي مشى عليه ابن كثير من أنهم أصحاب عمد سيارة يترحلون إلى آخره هذا هو الذي اختاره ابن جرير، وقال به جماعة من السلف، كقتادة، ومجاهد، فإذا هاج النبت رجعوا إلى منازلهم، يعني: كانت لهم مساكن يرجعون إليها كما هي حال كثير من الناس ممن يخرجون إلى البادية وقت ظهور الربيع، والنبات، فإذا هاج النبات، وصار يابسًا رجعوا، فكانوا أهل عمد يتنقلون يطلبون الكلأ، وبعضهم كمقاتل يقول: ذات العماد يعني: قاماتهم طويلة جدًّا، فيكون هذا صفة لهم، تعود إلى ذواتهم، وأجسامهم، وتركيبهم، يقول: كان طول الرجل منهم اثني عشر ذراعًا، يعني: ستة أمتار، والآيات تدل على طولهم قال تعالى: وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً [الأعراف: 69]، وهم اغتروا، وقالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت: 15] ويوجد في بعض المقاطع صور في حفريات وأنا لا أثق بالصور التي توجد؛ لأنها يعبث بها، وترى الشيء الصغير كبيرًا، وترى الشيء الكبير صغيرًا، فيعبث بها، لكن إن صحت هذه الصور التي رأيناها فإننا رأينا الجثة ممتدة تصل إلى أكثر من ستة أمتار، يعني: الجثث التي رأيناها تصل إلى أكثر من ستة أمتار، أو اثني عشر مترًا، أو أكثر، فتجد الناس يتحلقون حوله، وجاءوا بصور وهو محفور حينما استخرجوه، ووقفوا عليه في الحفر - في القبر -، وجاءوا بالصور بعدما استخرجوه ووضعوه على مثل الطاولة الطويلة جدًّا، والناس حوله أمثال النمل، وجاءوا به، وقد أقاموه، ووضعوا سُلمًا بجانبه، فتجد الرجل كأنه نملة تصعد بجواره، فإن صح هذا - والله أعلم - فقد يكونون هؤلاء، فهم وجودهم مصادفة، شركة أرامكو كانوا يحفرون ووجدوهم في الربع الخالي، هكذا قالوا، فإن كان كذلك فهذا هو المشهور في منازل عاد، قال تعالى: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ [الأحقاف: 21]، والأحقاف على المشهور: أنها حبال الرمل، هذه الموجودة في الربع الخالي، وهذا يدل على أن المعالم ما تغيرت خلافًا لما يقوله أهل علوم الأرض، حيث يقولون: هذه كلها تتغير، وتغيرت، يقال: ليس بهذه المدة، انظر من متى قوم عاد، ومعالمها باقية، فهذه تعتبر قريبة نسبيًّا، بالنسبة لتغير معالم الأرض، فهذه الأحقاف موجودة من ذلك الحين، وهي: حبال الرمل، وفي هذه المنطقة، محصورة في الربع الخالي، فلم تنتقل إلى مكان آخر.

والمشهور عند المؤرخين والمفسرين: أن عادًا كانت منازلهم بالأحقاف، كما قال الله : وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ، لكن اختلفوا ما معنى الأحقاف؟ والمشهور: أنها حبال الرمل، في هذه المنطقة التي هي الآن الربع الخالي، وأما ما يذكر من أن هذا قبر هود - عليه الصلاة والسلام - في أكثر من موضع، ومنها في حضرموت، فإن هذا لا يصح، ولا يثبت شيء من قبور الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - أبداً إلا قبر محمد ﷺ فكل ما ينسب إلى الأنبياء فهذا غير ثابت من مواضع مدافنهم.

فعلى قول مقاتل: إنهم طوال، يقال: رجل طويل العماد، يعني: طويل القامة، وهكذا أيضًا قال أبو عبيدة معمر بن المثنى، قال: رجل معمَّد أي: طويل، وقامته طويلة، فتكون إرم قبيلة، وصفهم أنهم طوال الأجسام، وجاء عن مجاهد، وقتادة: أنهم كانوا عمادًا لقومهم، يقال: فلان عميد الأسرة، وفلان عميد آل فلان، وفلان عميد الكلية، ونحو هذا، فيكون بمعنى: أنه مثل السيد، والرئيس، ونحو ذلك، وهذا معنى العميد، يعني: كبير هؤلاء، وجاء عن ابن زيد ما يدل على أنها المدينة، يقول: ذات العماد، يعني: أنها مشيدة، قوية البنيان، محكمة، هذا قول لابن زيد، ولا شك أن الأبنية المحكمة يقال لها ذلك، وهذا موجود في كتب اللغة، فالعماد تقال للأبنية القوية، الرفيعة، المشيدة، كما ذكره صاحب الصحاح، وتذكّر وتؤنث، يقال: هذا بناء ذو عماد، وأبنية ذات عماد؛ ولهذا فسرها بعضهم بالمدينة، مدينة هؤلاء أنها كانت بهذه الصفة.

وأما ما يذكر من أنها من ذهب، وأشياء من هذا القبيل فهذا كله من الإسرائيليات، لا تثبت إطلاقًا، ويبعد غاية البعد أن تكون كذلك، بل هي من المبالغات، أنها مبنية بلبن من ذهب إلى آخره، ويوجد صور الآن أن هناك مدينة، أو قصورًا مستخرجة من تحت الرمال في الربع الخالي، عجيبة جدًّا هائلة، لكن هل هذه هي أبنية عاد؟ الناس ينشرونها على أنها إرم، مع أن إرمَ المشهور أنها قبيلة، وأن ذات العماد هي الخيام، أو أجسامهم الممتدة، إلى غير ذلك، وليست هي المدينة إلا على قول، وعلى هذا القول هل هي هذه؟ نقول: لا نستطيع أن نجزم بهذا إطلاقًا - فالله أعلم - ولكن لا شك أن أجسامهم ضخمة، قال الله: وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً [الأعراف: 69]، مع أن القرظي يقول: هي في الإسكندرية، فعاد ما الذي ذهب بهم للإسكندرية؟ هذا بعيد جدًّا، وهكذا قول المقبري من أنها دمشق، فهذا يقول: الإسكندرية، وهذا يقول: دمشق، وهذا أيضاً بعيد غاية البعد.

أما من قال: إنها في الأحقاف، وإنهم بنوها هناك، وإنها مدينة فهذا قال به ابن زيد، لكن في مثل هذا لا يمكن الجزم بأن إرم هي: اسم المدينة، فأنا أقول: هذا واحد من الأقوال، والأشهر - على اختلاف في العبارات وهو قول الجمهور -: أنها ليست اسم المدينة، وإنما هي القبيلة، أو جزء من القبيلة، أو أن المقصود أنهم أقوياء، وأصحاب أجسام ممتدة إلى آخره، أو ذات العماد: أعمدة الخيام التي كانوا يتنقلون، ويترحلون بها، يعني: إذا جمعت هذه الأقاويل جميعًا يبقى قول من قال: إرم هي المدينة، وهذا خلاف قول الجمهور، فلا يكاد أن يقول به قائل إلا ما جاء عن ابن زيد، أو نحو ذلك، فحينما يُجعل هذا هو القول المعتد، ويُبنى عليه أشياء، وأن هذه هي منازلهم، وهذه المدينة إذا كانت بهذه الصفة، أو نحو ذلك، هذا فيه مصادرة لأقوال أهل العلم في المسألة، ولا يحسن ذلك - والله أعلم -.

طبعًا أصحاب التفسير العلمي لهم في هذا أشياء، ويربطونه بأمور، يقولون الآن: إرم هذه المدينة التي هي مبنية من لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، يقال لهم: من قال لكم ذلك؟ فيقولون: أكيد أنها ما كانت في صحراء مثل الربع الخالي، يا أخي، الله يقول: إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ، والأحقاف: حبال الرمل، يقول: ليس معقولا أنها في صحراء، وهذا يؤكد قول النبي ﷺ لن تقوم الساعة حتى تعود جزيرة العرب مروجًا وأنهارًا [1] نقول له: يا أخي، كل الكلام الذي تقوله يحتاج إلى مناقشة، حتى قوله: حتى تعود كلمة تعود في اللغة من الأضداد، لها معنيان: تعود بمعنى: ترجع إلى حالها الأولى، مثل: حتى يعود اللبن في الضرع، وتعود بمعنى: تصير، عاد الصبي شيخًا، ما كان من قبل ذلك شيخًا، ولكن المعنى: يصير شيخًا، فهنا قوله: حتى تعود جزيرة العرب.. هل كانت جزيرة العرب مروجًا وأنهارًا قبل ذلك؟ نقول: هذا احتمال، على أحد المعنيين في الحديث، احتمال، ولا نستطيع أن نجزم، فيُبنى على هذا أشياء، واستنتاجات، ولوازم، كيف مدينة من لبن ذهب، وفضة، وكذا وتكون في صحراء قاحلة، وفي صحراء الربع الخالي، في هذه المنطقة القاحلة التي لا يمكن العيش فيها؟ أكيد كانت هذه المنطقة كلها مروجًا، وأنهارًا، نقول: أول شيء أثبِت الأول، ثم الثاني، ثم الثالث، فكل هذا مبني على أمور ليست ثابتة، ويطرح هذا بقوة، وبثقة كاملة، والكلام من أصله ليس بثابت، وتجد من الحضور من يحصل عندهم نشوة، ينتشون بمثل هذا الكلام، ويقولون: هذا إعجاز.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب الترغيب في الصدقة قبل أن لا يوجد من يقبلها، رقم: (157).