الإثنين 12 / ذو الحجة / 1446 - 09 / يونيو 2025
لَا يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ۚ وَأُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُعْتَدُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۝ لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ۝ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [سورة التوبة:9-11].
يقول تعالى ذماً للمشركين، وحثاً للمؤمنين على قتالهم: اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً يعني: أنهم اعتاضوا عن اتباع آيات الله بما التهوا به من أمور الدنيا الخسيسة، فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ أي: منعوا المؤمنين من اتباع الحق، إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۝ لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً تقدم تفسيره، وكذا الآية التي بعدها: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إلى آخرها، تقدمت".


اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً يعني كما قال ابن كثير - رحمه الله -: اعتاضوا عن اتباع آيات الله بما التهوا به من أمور الدنيا، فأطلق ذلك على الاستعاضة، والاختيار والإيثار، آثروا ملاذ الدنيا، وشهواتها؛ على اتباع ما جاء به الرسول ﷺ من ربه، وهذا يقال له: اشتراء، ويقال له: استبدال، واستحبوا العمى على الهدى اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى [سورة البقرة:16] كل هذا يدور ويرجع إلى هذا المعنى كما قال الشاعر:

أخذت بالجُّمة رأسا أزعرا وبالثنايا الواضحات الدردرا
وبالطويل العمر عمراً جيذراً كما اشترى المسلم إذ تنصرا

يعني اختار، فـ"اشتروا" هنا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً يعني بما استعاضوا به من اتباع أهواء النفوس، والشهوات؛ وهذا لا إشكال فيه، خلافاً لمن حمل ذلك على اليهود باعتبار أن اليهود هم الذين اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً بما كانوا يأخذونه من الرشى، فيحرفون الكلم عن مواضعه؛ ولهذا قال بعض أهل العلم كالنحاس: إن هذه الآية في اليهود اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ، ثم قال بعدها: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يقول: هذه في اليهود ما فيه تكرار، والآية التي قبلها: كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً في المشركين، هذا الفرق على قول النحاس، ولكن هذا فيه نظر - والله تعالى أعلم -، فهذه الآيات في الكفار، ويدخل فيها أيضاً اليهود، فكل الكفار اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، كلهم اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ [سورة البقرة:175]، والمعاوضة تكون بأن يدفع شيئاً ويأخذ شيئاً مكانه، وهذا ليس بالضرورة من أثر الضلالة على الهدى، فإنه يكون قد استعاض واشترى كما قال الشاعر:

وبالطويل العمر عمراً جيذراً كما اشترى المسلم إذ تنصرا

فلا يلزم أن تكون القضية مقايضة مثل أن يأخذ الرشوة، ويحرف الكلم عن مواضعه في مقابل هذا مثلاً، أو يكتم الحق أو نحو هذا؛ لا يلزم أن تكون هذه الصورة فقط من أثر الضلال والكفر على الهوى، ويمكن أن يطلق عليه ويقال: اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فهذه الآية في الكفار عموماً، وإذا كانت في الكفار فيكون قوله: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ للتأكيد وليس من قبيل التكرار، وسبق الكلام في مناسبات متعددة على أن التكرار المحض غير موجود، وأن كل آية محمولة على معنى فتؤسس معنى جديداً، فهنا لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً لاحظ الفرق هناك: كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً، وهنا لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً فمن أهل العلم من قال: إن هذه الآية: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ هي في عموم المؤمنين، وهناك في طائفة من المؤمنين؛ وهذا توجيه، وقد يقال غير هذا، كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً، وهنا لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً والآية الثانية لا شك أن العموم فيها أظهر، لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ نكرة في سياق النفي، اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ فلفظة "صدّ" تأتي لازمة، وتأتي متعدية، فإذا كانت لازمة فهي بمعنى أنهم صدوا يعني في أنفسهم بإعراضهم عن قبول الحق واتباعه، وإذا كانت متعدية فتعني أنهم صدوا غيرهم عنه، صدوا الناس عن الدخول في الإسلام كما قال الله عن المنافقين: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ [سورة المجادلة:16]، صدوا في أنفسهم لما رأوا أن الأيمان تدفع عنهم في الدنيا التهم، والعقوبات؛ فاستمرؤوا ذلك، فبقوا على ضلالهم فَصَدُّوا أي في أنفسهم، والمعنى الآخر فَصَدُّوا أي صدوا الناس عن الدخول في الإسلام، إذا جاء واحد يدخل في الإسلام قالوا: انتبه، إذا ارتددت تقطع رقبتك، وإذا سرقت تقطع يدك، وإذا زنيت ترجم فأحسن لك كن بعيداً!! وصدوا المسلمين أيضا عن الجهاد مع النبي ﷺ بالأموال، والأنفس كما قال الله : وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ [سورة النساء:72]، وقال: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [سورة الأحزاب:18]، وصدوا أيضاً المؤمنين عن إقامة حكم الله فيهم بسبب هذه الأيمان، وكل هذه المعاني داخلة في هذا، فالشاهد هنا فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أي صدوا في أنفسهم، وصدوا غيرهم عن اتباع الحق، فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۝ لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً والذمة هي العهد وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ.