الإثنين 29 / شوّال / 1446 - 28 / أبريل 2025
فَإِن تَوَلَّوْا۟ فَقُلْ حَسْبِىَ ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَهُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ۝ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [سورة التوبة:128-129].
يقول تعالى ممتناً على المؤمنين بما أرسل إليهم رسولاً من أنفسهم، أي: من جنسهم، وعلى لغتهم، كما قال إبراهيم : رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ [سورة البقرة:129]، وقال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [سورة آل عمران:164]، وقال تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي: منكم، وبلغتكم كما قال جعفر بن أبي طالب للنجاشي، والمغيرة بن شعبة لرسول كسرى: "إن الله بعث فينا رسولاً منا، نعرف نسبه، وصفته، ومدخله، ومخرجه، وصدقه، وأمانته ..." وذكر الحديث".


يعني على هذا التفسير الذي ذكره ابن كثير - رحمه الله - يكون الخطاب للعرب لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أيها العرب يعني يتكلم بلغتكم، وتعرفونه تعرفون أمانته، ولم يكن خافياً عليكم شأنه، ويحتمل أن يكون الخطاب لعموم الناس كما قال الزجاج لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنسكم ليس من الملائكة، تفهمون عنه، وتقتدون به، فهذا المعنى تحتمله الآية لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ يعني أيها الناس من البشر، والمعنى المشهور الذي عليه عامة أهل التفسير أنه خطاب للعرب، وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن بعثة النبي ﷺ خاصة بالعرب، ولكن هذا كما قال الله على سبيل الامتنان يمتن على هؤلاء العرب الأميين ببعثه ﷺ منهم، هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ [سورة الجمعة:2] فهو واحد منهم متصف بصفتهم وهي الأمية، يسهل عليهم الأخذ عنه، وفهم خطابه، لم يبعث إليهم فيلسوفاً لا يفهمون ما يقول، ولم يبعث إليهم أعجمياً لا يعرفون لغته، ولم يبعث إليهم ملَكاً لا يستطيعون مخاطبته، ومعايشته، والاقتداء به.

"وقوله: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ أي: يعز عليه الشيء الذي يُعْنِتُ أمتَه، ويشق عليها؛ وفي الصحيح: إن هذا الدين يسر[1]، وشريعته كلها سهلة، سمحة، كاملة، يسيرة على من يسرها الله - تعالى - عليه".


عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ يعني العنت الذي يحصل لكم يشق عليه، وهذا العنت ابن جرير - رحمه الله - فسره بالضلال، عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ولا شك أن الضلال من أعظم العنت الذي يحصل للإنسان، ولكن هنا العنت يشمل كل ما يصدق عليه، فالعنت يشمل ما يحصل للإنسان من المشقة، والكلفة غير المعتادة، ولهذا فسره بعضهم بما يحصل من القتل الذي يقع عليهم عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ، وكل عنت يحصل لأهل الإيمان فذلك يشق على النبي ﷺ، وبعضهم فسره بما هو أعم من هذا بمعنى أنه لا يختص بأهل الإيمان، إذا كان الخطاب لعموم الناس لا يختص ذلك بالمؤمنين، {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} ما يحصل لكم من العنت، ولهذا قال ابن جرير -رحمه الله-: "من الضلال فهو رحيم بالناس يحب لهم الهداية والإيمان، ويكره لهم الكفر"، وكأن تفسير ابن جرير - رحمه الله - هو من تفسير الشيء بسببه بمعنى أن الضلال الذي يحصل لهؤلاء الناس يكون سبباً لعذابهم، وشقوقهم في الحياة الدنيا، وفي الآخرة عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ.

"حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أي: على هدايتكم، ووصول النفع الدنيوي، والأخروي؛ إليكم.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: إن الله لم يُحرم حُرمة إلا وقد علم أنه سيطَّلِعها منكم مُطَّلِع، ألا وإني آخذ بحُجَزِكم أن تهافتوا في النار كتهافت الفراش أو الذباب[2].
وقوله: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ كما قال تعالى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ۝ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ۝ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ [سورة الشعراء: 215-217].
وهكذا أمره تعالى في هذه الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا أي: تولوا عما جئتهم به من الشريعة العظيمة، المطهرة الكاملة، الشاملة".


بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ هذه للحصر كما هو معلوم؛ لأن تقديم المعمولات على عواملها يفيد هذا المعنى فهنا قدم الجار والمجرور أصل الكلام "رءوف رحيم بالمؤمنين"، قال: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ فهذا يفيد الحصر، والرأفة هي أرق الرحمة، رَءُوفٌ رَحِيمٌ مثل ما يقال في الشفقة مع الخوف، بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ وهذا يختص بأهل الإيمان كما هو صريح في الآية، وأما مع الكفار فكما وصفه الله وأصحابَه مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ [سورة الفتح:29]، فإذا كان هذا حال أتباعه - عليه الصلاة والسلام -؛ فهو أحق بهذا الوصف، والله وصف المؤمنين بمثل هذه الأوصاف، ويأمر نبيه ﷺ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [سورة التوبة:73، وسورة التحريم:9]، وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً [سورة التوبة:123].

"فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ أي: الله كافِيَّ، لا إله إلا هو عليه توكلت، كما قال تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً [سورة المزمل:9].
وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أي: هو مالك كل شيء، وخالقه، لأنه رب العرش العظيم، الذي هو سقف المخلوقات، وجميع الخلائق من السماوات والأرضين، وما فيهما، وما بينهما تحت العرش، مقهورون بقدرة الله - تعالى -، وعلمه محيط بكل شيء، وَقَدَره نافذ في كل شيء، وهو على كل شيء وكيل".


هذا على قراءة الجمهور رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ بالكسر فيكون العظيم صفة للعرش، وفي القراءة الأخرى بالرفع العظيمُ يكون ذلك عائداً إلى الله كما في قوله - تبارك وتعالى -: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدِ فيكون ذلك من صفة العرش، وذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ [سورة البروج:15] فيكون ذلك من صفة الله - تبارك وتعالى -.

"روى الإمام أحمد عن ابن عباس - ا - عن أبيّ بن كعب قال: آخر آية نزلت من القرآن هذه الآية: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إلى آخر السورة.
وفي الصحيح أن زيداً قال: فوجدت آخر سورة "براءة" مع خزيمة بن ثابت[3] - أو: أبي خزيمة - وقدمنا أن جماعة من الصحابة تذكروا ذلك عن رسول الله ﷺ كما قال خزيمة بن ثابت حين ابتدأهم بها - والله أعلم -".


قول أُبيّ بن كعب : آخر آية نزلت من القرآن، قاله في مناسبة، وذلك أنهم حينما كانوا يجمعون القرآن، وكانوا لا يقبلون شيئاً إلا ما جاء عليه شهيدان، وفُسر "الشهيدان" بالكتابة، والحفظ؛ كما قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -، وقيل: شاهدان يشهدان أن ذلك مما كتب بين يدي رسول الله ﷺ، فالشاهد أن هذه الآية لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ هم يطلبون أن يكون هذا مما كتب بين يدي النبي ﷺ، ويشهد على ذلك شاهدان، ويطلبون الحفظ، والكتابة، والذين يحفظونها كثير؛ لكن طلبوها مكتوبة، والشاهد أن خزيمة بن ثابت الذي جعل النبي ﷺ شهادته بشهادة رجلين جاء بها، فلما أتى بها تذكروها، وهذا على قول بعض أهل العلم، وبعضهم يقول: إن ذلك الشرط يعني الذي اشترطوه الحفظ، والكتابة؛ أدى إلى أنهم لم يجدوها إلا عند خزيمة بن ثابت، فهنا حديث أُبي بن كعب قاله في هذه المناسبة: إنها آخر ما نزل من القرآن يعني من سورة براءة، أي أنه لا يقصد بذلك أنها آخر ما نزل من القرآن بإطلاق، وغاية ما هناك أنه لو قصد أنها آخر ما نزل من القرآن فإن هذا يكون من قبيل الاجتهاد، وقد خَالَفَ ما تعلمون: أن المشهور أن آخر ما نزل هي الآيات التي في سورة البقرة آية الربا، وآية الديْن، وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ [سورة البقرة:281] فهذه تكون آخر ما نزل من القرآن من سورة براءة، ولهذا جعلوها في آخرها، وخزيمة بن ثابت غير أبي خزيمة.

  1. رواه النسائي، كتاب الإيمان وشرائعه، باب الدين يسر، برقم (5034)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1161).
  2. رواه أحمد في المسند، برقم (3704)، وقال محققوه: "إسناده حسن".
  3. رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة التوبة، برقم (3103)، وأحمد في المسند بنحوه، برقم (1715)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف لتدليس محمد بن إسحاق، ولانقطاعه".