أمر الله - تعالى - بمباينة الكفار به وإن كانوا آباءً، أو أبناءً، ونهى عن موالاتهم إذا اسْتَحَبُّوا أي: اختاروا الكفر على الإيمان، وتوعد على ذلك كما قال تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ الآية [سورة المجادلة:22].
وروى الحافظ أبو بكر البيهقي من حديث عبد الله بن شوذب قال: جعل أبو أبي عبيدة بن الجراح ينعت له الآلهة يوم بدر، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر الجراح قصده ابنه أبو عبيدة فقتله، فأنزل الله فيه هذه الآية: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية[1].
ثم أمر - تعالى - رسوله أن يتوعد من آثر أهله، وقرابته، وعشيرته؛ على الله، وعلى رسوله، وجهاد في سبيله؛ فقال: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا أي: اكتسبتموها، وحصلتموها وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أي: تحبونها لطيبها، وحسنها، أي: إن كانت هذه الأشياء أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا أي: فانتظروا ماذا يحل بكم من عقابه، ونكاله بكم؛ ولهذا قال: حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ.
وروى الإمام أحمد عن زهرة بن معبد عن جده قال: كنا مع رسول الله ﷺ وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال: والله لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال رسول الله ﷺ: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه، فقال عمر: فأنت الآن والله أحب إلي من نفسي، فقال رسول الله ﷺ: الآن يا عمر[2]، انفرد بإخراجه البخاري.
وروى الإمام أحمد وأبو داود - واللفظ له - عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم[3]".
فقوله - تبارك وتعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ أورد المصنف - رحمه الله - ما رواه البيهقي من حديث عبد الله بن شوذب قال: جعل أبو أبي عبيدة بن الجراح ينعت له الآلهة ... إلى آخره، وفيها أن سبب نزول الآية هو أن أبا عبيدة قتل أباه في يوم بدر؛ وهذا لا يثبت، ولا يصح، وليس بسبب لنزول الآية، وقوله - تبارك وتعالى -: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ إلى آخر ما ذكر، في الأولى قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء والإنسان يتقوى بآبائه، ويعتز بهم، ويستنصر بإخوانه؛ فذكر الآباء، والإخوان؛ في الموالاة، وفي الآية التي بعدها: قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ العلماء في مثل هذا يذكرون بعض التوجيهات التي من أجلها قدم هذا على هذا، وهذه ليست بقاطعة، ولكن منها ما يكون ظاهراً، ومنها ما يكون خفياً، والكلام فيه لا يخلو من التكلف، ومما ذكر في هذا أن الله ذكر الآباء أولاً؛ لأنهم أصل الإنسان الذين يعتز بهم، فالإنسان يعتز بآبائه، فابتدأ بذكرهم هنا، ثم ذكر الأبناء؛ لأنهم امتداد له، ويتفرعون منه، وهم زينة الحياة الدنيا، ولشدة علوق القلب بهم، ثم ذكر الإخوان؛ لأنهم يلونهم في القرب، ولأن الأخ هو الناصر، وذكر بعده الأزواج، فالأزواج عنهن عوض، فلسن كالآباء، والأبناء، والإخوان، فهؤلاء لا عوض عنهم، وذكر الزوجات من ضمن هؤلاء؛ لأن الإنسان يحب زوجته، ولربما كانت سبباً لترك كثير مما أمره الله به كما قال الله - تبارك وتعالى -: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [سورة التغابن:14]، وكما ذكرنا من قبل أن هذه العداوة الجالب لها المحبة، فزوجته لربما من شدة محبتها له ثبطته عن كثير من الأعمال الصالحة من الجهاد في سبيل الله، والحج، والعمرة، أو الهجرة مع رسول الله ﷺ، ثم ذكر العشيرة وهم رهطه وقومه الأدنوْن؛ قيل: الذين يتفرعون إلى الجد العاشر عشيرة، وهذه اللفظة تدل على المعاشرة، والمخالطة، فالناس حينما كانوا مع قبائلهم، وفيهم فالذين تكثر مخالطته لهم؛ هم الأقرب إليه من هذه القبيلة، وهم عشيرته، فهذا يدل على كثرة المخالطة، والمعاشرة، فهو يحبهم، ويأنس بهم، وهم قريبون منه، ثم بعد ذلك ذكر الأموال التي اكتسبوها وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا، وأصل الاقتراف الاقتطاع، اقتطاع الشيء من مكانه يقال له: اقتراف، وهذه اللفظة تدل على معنى الدنوّ، فالكاسب والمقترف يُدني هذا المكسب إلى نفسه، ويدخله تحت ملكه، وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا، فقدم الأموال التي اقترفوها على التجارة التي يخشون كسادها فالأموال التي حصلوها هي أعلق بقلوبهم من التجارة التي يرجون نفعها فهذا شيء حصلوه فهو بمنزلة رأس المال، وأما التجارة فالمنتظر فيها الربح، ومن غرائب التفسير التي تذكر في هذا ما جاء عن ابن المبارك - رحمه الله - أنه فسر التجارة التي يخشى كسادها بالأخوات، والبنات؛ يعني أنه يهاجر فيترك أخواته، أو بناته، ثم بعد ذلك لا يتزوجن، وكذلك لربما هاجر معهن فينتقل إلى بلاد يكون غريباً فيها، ثم تبقى بناته، وأخواته؛ لا يتزوجن، وهذا لا تُحمل عليه الآية، ولا يقال للأخوات، والبنات: إنهن تجارة، مع أنه يقال لبقاء البنت، أو الأخت التي لم تتزوج يمكن أن يقال في كلام العرب: إنها كسدت، لكن لا تسمى تجارة، فالله يقول هنا: وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا، ثم بعد ذلك ذكر المساكن التي يرضونها المساكن الطيبة المريحة فهذا آخر هذه الأمور، وما قبله لربما يكون أكثر شغلاً وتعلقا بالقلب منه، هكذا ذكر الحافظ ابن القيم - رحمه الله -، والله - تعالى - أعلم.
- رواه البيهقي في السنن الكبرى، برقم (18291)، وقال: وجعل أبوعبيدة يحيد عنه.
- رواه البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي ﷺ، برقم (6257).
- رواه أبو داود، كتاب الإجارة، باب في النهي عن العينة، برقم (3462)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (423).