يقول تعالى: ومن المنافقين من أعطى الله عهده، وميثاقه لئن أغناه من فضله ليصدقن من ماله، وليكونن من الصالحين، فما وفى بما قال، ولا صدق فيما ادعى، فأعقبهم هذا الصنيع نفاقاً سكن في قلوبهم إلى يوم يلقون الله يوم القيامة - عياذاً بالله من ذلك -.
وقوله تعالى: بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ أي: أعقبهم النفاق في قلوبهم بسبب إخلافهم الوعد، وكذبهم كما في الصحيحين عن رسول الله ﷺ أنه قال: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان[1].
وقوله: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلامُ الْغُيُوبِ يخبرهم تعالى أنه يعلم السر وأخفى، وأنه أعلم بضمائرهم وإن أظهروا أنه إن حصل لهم أموال تصدقوا منها، وشكروا عليها، فإنه أعلم بهم من أنفسهم؛ لأنه - تعالى - علام الغيوب، أي: يعلم كل غيب، وشهادة، وكل سر، ونجوى، ويعلم ما ظهر، وما بطن".
فقوله - تبارك وتعالى -: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ: اللام في قوله: لَئِنْ آتَانَا لام قسم، واللام الثانية في قوله تعالى: لَنَصَّدَّقَنَّ ليست لام قسم، وإنما هي اللام الداخلة على جواب القسم، وجواب الشرط، فهذه الجملة فيها شرط وقسم، يعني الآن الشرط هكذا لو قال أحد: إن آتاني الله من فضله تصدقت، هذه جملة شرطية، والقسم: والله لئن آتاني الله من فضله لأتصدقن، وقد يحذف المقسم به، وأداة القسم، أو فعل أقسم أيضاً، فبدلاً من أن تقول أقسم بالله تقول: والله، بدلاً من أقسم، تحذف فعل القسم، وتأتي بحرف القسم فتقول: "والله لئن آتاني الله من فضله لأتصدقن".
وقد يحذف أيضاً المقسم به، وأداة القسم، ويدل على ذلك لام القسم وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ "لئن" فهذه اللام لام قسم، وإذا اجتمع شرط وقسم فالجواب عنهما يكون واحداً بطبيعة الحال، لا يأتي جوابان جواب للقسم، وجواب للشرط؛ لا يمكن هذا، لكن الجواب يكون هل هو للشرط أو للقسم؟
القاعدة أنه إذا اجتمع شرط وقسم فالجواب للمتقدم منهما، ويغنى ذلك عن الآخر، ويدل عليه، إذا اجتمع شرط وقسم فالجواب للمتقدم، ويستغني به عن الآخر، فالآن المتقدم القسم، اللام لام القسم، و"إن" هي أداة الشرط "لئن"، فتقدم القسم فقوله: لَنَصَّدَّقَنَّ الجواب هنا جواب القسم أغنى عن جواب الشرط هذه قاعدة، ولها أمثلة كثيرة في القرآن، قوله: يقول الله - تعالى -: ومن المنافقين من أعطى الله عهده وميثاقه لئن أغناه من فضله ... إلى آخره السياق، فالكلام على المنافقين وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ، وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي [سورة التوبة:49]، فعامة المفسرين حتى ابن كثير - رحمه الله - في الأصل يذكرون في ذلك سبباً للنزول وهو أن ثعلبة بن حاطب طلب من النبي ﷺ أن يدعو له أن يرزقه الله مالاً، وأن النبي ﷺ قال: ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تؤدي شكره[2]، فأعاد ثانية، وثالثة؛ ألح في الطلب فدعا له النبي ﷺ أن يؤتيه الله، ويرزقه مالاً، فاتخذ أغناماً فتكاثرت تكاثر الدود، فخرج من المدينة، ثم صار لا يحضر إلا في صلوات هكذا في الرواية صلوات النهار، ولا يحضر في الليل، ولم أتتبع الروايات، وقد يكون بالعكس، فالشاهد أنها تكاثرت فاتخذ مكاناً آخر أبعد، فصار يحضر الجمعة!! ثم تكاثرت حتى أبعد بها، وصار لا يحضر الجمعة، ولا الجماعة!! فأرسل النبي ﷺ رجلين لأخذ الصدقة (الزكاة) منه، ومن رجل آخر من بني سليم، فأتياه، فنظر في كتاب رسول الله ﷺ وفيها أسنان الصدقة الإبل، والغنم، وأوصافها فقال: ما هذه إلا أخت الجزية!! اذهبا فارجعا إليه حتى أنظر في أمري، فذهبوا إلى السلمي فوجوده قد هيأ أطيب الإبل للزكاة، فقالوا: ما أمرنا بأخذ هذا وإنما يعني من أوساط المال، فقال: هذا كله مال الله، وأبَى، فأخذوا من هذه الإبل، ثم رجعوا إلى هذا فنظر في الكتاب مرة أخرى وقال: ما هذه إلا أخت الجزية! اذهبا حتى أنظر، فرجعوا إلى النبي ﷺ وحينما رآهما قال: ويح ثعلبة، ثم بعد ذلك نزلت الآيات، فذهب بعض قومه - وهو من الأنصار - إليه، وأخبروه، فجاء إلى النبي ﷺ وندم، وطلب من النبي ﷺ أن يقبل صدقته فأبى، وقال: إن الله قد نهاني أن أقبل صدقتك، ثم بعد ذلك جاء إلى أبي بكر فأبى أن يقبل صدقته، وقال: لم يقبلها رسول الله ﷺ فلا أقبلها، ثم جاء إلى عمر فقال: ردها النبي ﷺ، وأبو بكر؛ فلا أقبلها، ثم جاء إلى عثمان فقال له مثل ما قال، حتى توفي في خلافة عثمان، فهذا السبب للأسف مبثوث في كتب التفسير، لا يكاد يخلو منه كتاب، وهي رواية لا تصح بحال من الأحوال لا من جهة السند، ولا من جهة المتن، وثعلبة بن حاطب هو صحابي وليس من المنافقين، ولا يصح نسبة ذلك إليه، ومتنها أيضاً فيه ما فيه، فمتن هذه الرواية كما ترون، والله : يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ [سورة التوبة:104]، ومن تاب تاب الله عليه، وأعظم ذلك الإشراك بالله ، فإن الله يتوب على من تاب، بل إن الله يقول للذين نسبوا له الصاحبة، والولد؛ يتلطف بهم: أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ [سورة المائدة:74]، ويقول للذين أحرقوا المؤمنين والمؤمنات في الأخدود: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا [سورة البروج:10] يعني أحرقوا، الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ فعلوا هذا كله ويقول: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فالتوبة يقبلها الله من عبده، فهذا الرجل ندم وتاب فكيف لا تقبل زكاته؟! فالشاهد أن هذه الرواية لا تصح بحال من الأحوال.
صح عن ابن مسعود أن النبي ﷺ قال في علامات المنافقين: إذا حدث كذب، واذا وعد اخلف، واذا عاهد غدر[3] فأنزل الله تصديق ذلك: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ فإذا أخذنا بظاهر هذه الرواية، واعتبرنا جانب الصناعة؛ فإن هذا يعتبر من قبيل الصريح في أسباب النزول، والروايات الصريحة في سبب النزول قد يوجد منها ما ليس بسبب نزول، وقد يوجد من غير الصريح ما هو سبب نزول في حقيقة الأمر، ولكن الكلام عن الغالب، وعرفنا المراد بالصريح وغير الصريح، فهذه من الناحية الصناعية تعتبر من قبيل الصريح بسبب النزول، وإذا أجرينا عليها القاعدة قلنا: إن هذا هو سبب النزول، وقد لا يكون كذلك، قد يكون الصحابي يقصد أن النبي ﷺ قال هذا، ثم بعد ذلك نزلت آية ليس بسبب قول النبي ﷺ ذلك، نزلت آية توافق هذا المعنى فيما بعد، ولكن قول النبي ﷺ لم يكن سبب النزول؛ لأن سبب النزول - كما هو معروف - هو ما نزلت الآية أو الآيات متحدثة عنه أيام وقوعه، سؤال أو حادثة، لكن فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ هذا يؤخذ منه أن الإنسان إذا عاهد الله ينبغي عليه أن يفي، وإلا فإن الله قد يعاقبه بسبب ذلك ليطمس على قلبه، ويحصل له نفاق ونحو هذا، والفاء في فَأَعْقَبَهُمْ تدل على التعليل، والباء في قوله: بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ للسببية أي السبب هو إخلاف ما وعد اللهَ به، وقد يقول قائل: إذا كانت هذه الآية في المنافقين أصلاً فكيف قال الله في جزائهم: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ فهم كانوا من المنافقين، فيقال: لا إشكال، فزادهم نفاقاً على نفاقهم مع الديمومة والاستمرار، النفاق قد يكون عارضاً يعرض للإنسان فيحصل له نفاق، نافق فلان، هنا فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ليس نفاقاً عملياً وإنما هو نفاق اعتقادي، ومستمر دائماً إلى يوم يلقونه، وقوله هنا: أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ السر والنجوى الفرق بينهما ظاهر، فـ "السر" كل ما قصد الإنسان إخفاءه، و"النجوى" نوع من السر خاص وهي الحديث الذي يكون بين اثنين وأكثر يقصد به الاختصاص دون الآخرين، هذه حقيقة النجوى كل حديث بين اثنين أو أكثر يقصدون به الانفراد، والاختصاص، وألا يطلع عليه أحد حتى لو يتكلمون بصوت مرتفع؛ لأنهم في مكان بعيد عن الناس، أو بلغة أخرى بين الناس، لغة أخرى لا يفهمها الآخرون، وهم يقصدون التكلم بها لئلا يفهم أحد؛ فهذه هي النجوى.
- رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، برقم (33)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، برقم (59).
- رواه الطبراني في المعجم الكبير، برقم (7873)، وقال الشيخ الألباني: ضعيف جداً في السلسلة الضعيفة، برقم (1607).
- رواه البخاري، أبواب الجزية والموادعة، باب إثم من عاهد ثم غدر، برقم (3007)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، برقم (58).