وهذه أيضاً من صفات المنافقين: لا يسلم أحد من عيبهم، ولمزهم في جميع الأحوال، حتى ولا المتصدقون يسلمون منهم، إن جاء أحد منهم بمال جزيل قالوا: هذا مُراءٍ، وإن جاء بشيء يسير قالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا كما روى البخاري قال: حدثنا عبيد الله بن سعيد، حدثنا أبو النعمان البصري، حدثنا شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن أبي مسعود قال: لما نزلت آية الصدقة كنا نتحامل على ظهورنا، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير، فقالوا: مُراءٍ، وجاء رجل فتصدق بصاع، فقالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا، فنزلت الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ الآية[1]، وقد رواه مسلم أيضاً في صحيحه.
وقال العوفي عن ابن عباس: إن رسول الله ﷺ خرج إلى الناس يوماً فنادى فيهم: أن اجمعوا صدقاتكم، فجمع الناس صدقاتهم، ثم جاء رجل من آخرهم بصاع من تمر، فقال: يا رسول الله! هذا صاع من تمر بت ليلتي أجر بالجرير الماء؛ حتى نلت صاعين من تمر، فأمسكت أحدهما، وأتيتك بالآخر، فأمره رسول الله ﷺ أن ينثره في الصدقات، فسخر منه رجال، وقالوا: إن الله، ورسوله لغنيان عن هذا، وما يصنعون بصاعك من شيء، ثم إن عبد الرحمن بن عوف قال لرسول الله ﷺ: هل بقي أحد من أهل الصدقات؟ فقال رسول الله ﷺ: لم يبق أحد غيرك فقال له عبد الرحمن بن عوف: فإن عندي مائة أوقية من ذهب في الصدقات، فقال له عمر بن الخطاب : أمجنون أنت؟ قال: ليس بي جنون، قال: أفعلت ما فعلت؟ قال: نعم، مالي ثمانية آلاف، أما أربعة آلاف فأقرضها ربي، وأما أربعة آلاف فلي، فقال له رسول الله ﷺ: بارك الله لك فيما أمسكت، وفيما أعطيت، ولمزه المنافقون فقالوا: والله ما أعطى عبد الرحمن عطيته إلا رياء، وهم كاذبون، إنما كان به متطوعاً، فأنزل الله عذره وعذر صاحبه المسكين الذي جاء بالصاع من التمر فقال تعالى في كتابه: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ الآية".
قوله: الجرير يعني: الحبل.
والروايات الواردة في سبب النزول كثيرة منها ما هو صحيح، ومنها ما هو ضعيف، والرواية الصحيحة منها ما جاء مبهماً لم يسمَّ فيه أحد يعني كالرواية الأولى التي قال فيها: إنه لما نزلت كنا نتحامل على ظهورنا؛ فجاء رجل فتصدق[2] الرجل مبهم، وكذلك الآخر، وفي بعض الروايات جاءت تسمية المتصدق غير هذه الرواية التي من طريق العوفي فإنها لا تصح، لكن جاءت روايات أخرى صحيحة، وفيها مراسيل كثيرة قد تتقوى لمجموعها، فلا منافاة سبب النزول واحد - والله تعالى أعلم - جاء في بعض الروايات تسمية بعض من تصدق، وفي بعضها بالإبهام.
وقال ابن إسحاق: كان المطّوّعون من المؤمنين في الصدقات: عبد الرحمن بن عوف تصدق بأربعة آلاف درهم، وعاصم بن عدي أخا بني العجلان، وذلك أن رسول الله ﷺ رغب في الصدقات، وحض عليها، فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدق بأربعة آلاف، وقام عاصم فتصدق بمائة وسْق من تمر، فلمزوهما، وقالوا: ما هذا إلا رياء، وكان الذي تصدق بجهده: أبو عقيل أخو بني أنيف الإراشي حليف بني عمرو بن عوف، أتى بصاع من تمر، فأفرغه في الصدقة، فتضاحكوا به، وقالوا: إن الله لغني عن صاع أبي عَقيل.
وقوله: فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وهذا من باب المقابلة على سوء صنيعهم، واستهزائهم بالمؤمنين؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فعاملهم معاملة من سخر بهم، انتصاراً للمؤمنين في الدنيا، وأعد للمنافقين في الآخرة عذاباً أليماً؛ لأن الجزاء من جنس العمل.
فيكون بهذا التفسير من قبيل الإخبار سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ ويحتمل أن يكون المراد به الدعاء عليهم، ولعل الأول أقرب - والله أعلم -.
- رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب اتقوا النار ولو بشق تمرة والقليل من الصدقة، برقم (1349)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الحمل بأجرة يُتصدَّق بها والنهي الشديد عن تنقيص المتصدِّق بقليل، برقم (1018).
- رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب اتقوا النار ولو بشق تمرة والقليل من الصدقة، برقم (1349).