الأربعاء 09 / ذو القعدة / 1446 - 07 / مايو 2025
فَلْيَضْحَكُوا۟ قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا۟ كَثِيرًا جَزَآءًۢ بِمَا كَانُوا۟ يَكْسِبُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ۝ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [سورة التوبة:81-82].
يقول تعالى ذَامًّا للمنافقين المتخلفين عن صحابة رسول الله ﷺ في غزوة تبوك، وفرحوا بمقعدهم بعد خروجه، وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا معه بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا أي: بعضهم لبعض: لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ؛ وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في شدة الحر، عند طيب الظلال، والثمار، فلهذا قالوا: لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قال الله - تعالى - لرسوله: قُلْ لهم: نَارُ جَهَنَّمَ التي تصيرون إليها بسبب مخالفتكم أَشَدُّ حَرًّا مما فررتم منه من الحر، بل أشد حراً من النار كما قال الإمام مالك، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: نار بني آدم التي يوقدون بها جزءٌ من سبعين جزءًا من نار جهنم، فقالوا: يا رسول الله إن كانت لكافية، قال: فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً[1] أخرجاه في الصحيحين.
وقال الأعمش عن أبي إسحاق، عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله ﷺ: إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لَمَن له نعلان وشِرَاكان من نار، يغلي منهما دماغه كما يغلي المِرْجَل، لا يرى أحداً من أهل النار أشد عذاباً منه، وإنه أهونهم عذاباً[2]، أخرجاه في الصحيحين.
والأحاديث والآثار النبوية في هذا كثيرة، وقال الله - تعالى - في كتابه العزيز: كَلا إِنَّهَا لَظَى ۝ نزاعَةً لِلشَّوَى [سورة المعارج:15-16]، وقال تعالى: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ۝ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ۝ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ۝ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [سورة الحج:19-22]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [سورة النساء:56].
وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ أي: لو أنهم يفقهون، ويفهمون؛ لنفروا مع الرسول في سبيل الله في الحر، ليتقوا به حَرَّ جهنم الذي هو أضعاف أضعاف هذا.
ثم قال الله - تعالى - متوعداً لهؤلاء المنافقين على صنيعهم هذا: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً... الآية، قال ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: "الدنيا قليل، فليضحكوا فيها ما شاءوا، فإذا انقطعت الدنيا، وصاروا إلى الله ؛ استأنفوا بكاء لا ينقطع أبداً".


هنا في قوله: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ المخلفون سواء قيل: إن الذي خلفهم الشيطان، أو خلفهم الله حيث ثبطهم عن الخروج فقعدوا كما يقول بعض المفسرين، والمقصود أنه حصل منهم التخلف فصح نسبة ذلك إليهم فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ بمقعدهم أي بمقامهم في المدينة، خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ خلافه يحتمل معنيين، يحتمل خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ أي بأنهم قعدوا، وذهب النبي ﷺ ومن معه إلى تبوك، ويحتمل أن يكون خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ أي مخالفة له؛ حيث دعاهم للخروج فلم يخرجوا، والأول أقرب - والله تعالى أعلم -، وقوله: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا هذا أمر، لكن وإن كانت الصيغة صيغة إنشاء - أي أمر هنا - فإنها بمعنى الخبر، يخبر الله عنهم أن أُنسهم في هذه الحياة الدنيا، وضحكهم، وسرورهم فيها قليل؛ لأن أيام الدنيا منقضية وقليلة، وأن بكاءهم في النار طويل لا انتهاء له، والله المستعان.

  1. رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة، برقم (3092)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها وما تأخذ من المعذبين، برقم (2843).
  2. رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، برقم (6193)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب أهون أهل النار عذابا، برقم (213).