هذا هو الشرط الثالث من شروط قبول الأعمال.
شروط قبول العمل ثلاثة: الأول: الإيمان، والثاني: الإخلاص، والثالث: المتابعة.
فالله - تبارك وتعالى - يقول في أول سورة الكهف: وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ [سورة الإسراء:9] فذكر الإيمان، والعمل الصالح، والعمل لا يكون صالحًا إلا بالإخلاص والمتابعة، وقال في آخرها: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [سورة الكهف:110] فهنا ذكر العمل الصالح، وذكر أيضًا السلامة من الشرك، صارت شروط قبول العمل هذه الشروط الثلاثة، ولهذا لما ذكر هذه الأعمال العظيمة الكبيرة هنا قال: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا فهنا "ثم" ليست للمهلة، والترتيب في الوقوع الزمني، ليس المراد ذلك؛ لأن الإيمان لابدّ منه قبل هذا، يعني هو لا يعتق رقبة إلى آخره، ثم بعد ذلك يكون مؤمنًا، لا، وإنما ذلك كأنه بمعنى إضافة إلى كذا، كما تقول: أنت فعلت كذا وكذا، ثم أنت تقول: كذا ومع هذا كله تقول: كذا وكذا، فليس المقصود فيه الترتيب في الوقوع في الزمان هنا؛ لأنه لا يصح أن يكون الإيمان بعد هذا، بل الإيمان يكون سابقًا له، أي ثم هو مع هذه الأوصاف.
يعني انظر إلى هذا الموضع لما ذكر الله اقتحام العقبة، وذكر هذه الأعمال الجليلة العظيمة ذكر أن ذلك إنما يكون مع الإيمان، وأيضًا ذكر مع الإيمان التواصي بالصبر، والتواصي بالمرحمة، التواصي بالصبر على طاعة الله فالنفس تحتاج إلى مجاهدة، وتصبير، الصبر عن معصيته، الصبر على أقداره المؤلمة، الصبر على إطعام المسكين، الصبر على بذل المال، يتواصون بهذا، وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ، يتواصون بالرحمة، فدل على أن هذا التواصي بمنزلةٍ عند الله - تبارك وتعالى - وهو بمنزلة من الإيمان، وهو بمنزلة من أسباب النجاة، فذكره مع هذه الأمور التي يحصل بها اقتحام العقبة، فالتواصي ليس بالشيء الهين السهل بحيث يغفل عنه كثير من الناس، والتواصى بالمرحمة كما قال الله - تبارك وتعالى -: كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [سورة الفجر:17-18] فهذا ليس من صفات أهل الإيمان، ولما ذكر الذي يكذب بالدين قال: فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [سورة الماعون:2-3] فهذا لا يرجو عائدة عند الله ولا حسابًا، ولا بعثًا، ولا نشورًا، فهو في حال من قسوة القلب بحيث يدفع هذا اليتيم، "يدُعّ اليتيم" يدفعه عن حقه، "ولا يحض على طعام المسكين" فالتواصي برحمة ذوي الحاجات، والإحسان إليهم هو بمنزلة عند الله والغفلة عن هذا كبيرة كما هو مشاهد، هذه أسباب النجاة، والخلاص، أما قوله - تبارك وتعالى -: أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ يعني أنهم أصحاب اليمين، أو أصحاب اليُمن، أو الذين يعطون كتابهم بأيمانهم، وهذا كله متقارب، والعرب قالت لهذه اليد: اليمين؛ لأنها أعظم عائدة على صاحبها من الأخرى، هذه اليد هي التي يتعاطى فيها الأشياء، وهي الأقوى، ولهذا يعبر عنه حتى في القوة لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ [سورة الحاقة:45] أخْذُ اليمين أقوى، واليد الأخرى يقال لها: اليسار من باب التفاؤل، من باب إطلاق الأسماء الحسنة، من اليسر، فلما كانت أضعف، وأقل عائدة قيل لها: يسار، كما يقال للديغ: سليم، ويقال للبيداء: مفازة؛ لأنه يفوز بقطعها، وينجو، ولا يحصل له الهلاك فيها، فالعرب عندها أدب في الألفاظ تراعي مثل هذه المعاني، فيتجنبون الاسم المكروه، ويعبرون بغيره تيمنًا.
أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ اليَمَن مع أن يمين الكعبة كله يَمَن، فهذا إذا استقبلت باب الكعبة وهو إلى المشرق، وإذا استقبلت المشرق الآن يكون الجنوب على يمينك، فما عن يمين الكعبة يقال له: يَمن من اليُمن، أو باعتبار يمين الكعبة، والشام على يسار الداخل إلى الكعبة، الشام كانت العرب لربما تربط بين ذلك، والشؤم، ولكن الإسلام أبطل هذا كله، والنبي ﷺ قال: اللهم بارك لنا في يمننا، اللهم بارك لنا في شامنا[4]، وجاءت فضائل الشام.
- رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب في الرحمة، برقم (4941)، والترمذي، كتاب البر والصلة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في رحمة المسلمين، برقم (1924)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (925)، وفي صحيح الجامع، برقم (3522).
- رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله - تبارك وتعالى -: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى [الإسراء:110]، برقم (7376).
- رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب في الرحمة، برقم (4943)، والترمذي، كتاب البر، والصلة عن رسول الله ﷺ باب ما جاء في رحمة الصبيان، برقم (1920)، وأحمد في المسند، برقم (6733)، وقال محققوه: "حديث صحيح"، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، برقم (271).
- رواه البخاري، كتاب الفتن، باب قول النبي ﷺ: الفتنة من قبل المشرق، برقم (7094).