الجمعة 01 / محرّم / 1447 - 27 / يونيو 2025
أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُۥٓ أَحَدٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"ثم أنكر - سبحانه - على الإنسان قوله: يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً وهو الكثير الذي يلبد بعضه فوق بعض، فافتخر هذا الإنسان بإهلاكه، وإنفاقه في غير وجهه، إذ لو أنفقه في وجوهه التي أُمر بإنفاقه فيها، ووضعه مواضعه لم يكن ذلك إهلاكا له بل تقربًا به إلى الله، وتوصلاً به إلى رضاه، وثوابه، وذلك ليس بإهلاك له، فأنكر - سبحانه - افتخاره، وتبجحه بإنفاق المال في شهواته، وأغراضه التي إنفاقه فيها إهلاك له.

ثم وبخه بقوله: أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ وأتى ههنا بلم الدالة على المضي في مقابلة قوله: أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً فإن ذلك في الماضي، أفيحسب أن لم يره أحد فيما أنفقه، وفيما أهلكه؟.

ثم ذكر برهانا مقدرًا أنه - سبحانه - أحق بالرؤية، وأولى من هذا العبد الذي له عينان يبصر بهما، فكيف يعطيه البصر من لم يره؟ وكيف يعطيه آلة البيان من الشفتين، واللسان فينطق، ويبين عما في نفسه، ويأمر وينهى من لا يتكلم، ولا يُكلَّم، ولا يخاطب، ولا يأمر ولا ينهى؟ وهل كمال المخلوق مستفاد إلا من كمال خالقه؟ ومن جعل غيره عالمًا بنجدي الخير، والشر - وهما طريقهما - أليس هو أولى وأحق بالعلم منه؟ ومن هداه إلى هذين الطريقين كيف يليق به أن يتركه سدى، لا يُعرفه ما يضره، وما ينفعه في معاشه، ومعاده؟ وهل النبوة، والرسالة إلا لتكميل هداية النجدين؟ فدل هذا كله على إثبات الخالق، وصفات كماله وصدق رسله، ووعده.

وهذه أصول الإيمان التي اتفقت عليها جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم، إذا تأمل الإنسان حاله، وخلقه وجده من أعظم الأدلة على صحتها وثبوتها، فتكفي الإنسان فكرته في نفسه، وخلقه، والرسل بعثوا مذكرين بما في الفطر، والعقول مكملين له؛ لتقوم على العبد حجة الله بفطرته، ورسالته، ومع هذا فقامت عليه حجته، ولم يقتحم العقبة التي بينه، وبين ربه التي لا يصل إليها حتى يقتحمها بالإحسان إلى خلقه بفك الرقبة، وهو تخليصها من الرق؛ ليخلصه الله من رق نفسه، ورق عدوه، وإطعام اليتيم والمسكين في يوم المجاعة، وبالإخلاص له سبحانه بالإيمان الذي هو خالص حقه عليه، وهو تصديق خبره، وطاعة أمره، وابتغاء وجهه، وبنصيحة غيره أن يوصيه بالبر، والرحمة، ويقبل وصية من أوصاه بها، فيكون صابراً رحيمًا في نفسه معينًا لغيره على الصبر، والرحمة، فمن لم يقتحم هذه العقبة، وهلك دونها هلك منقطعاً عن ربه غير واصل إليه، بل محجوباً عنه، والناس قسمان: ناجٍ وهو من قطع العقبة، وصار وراءها، وهالك وهو من دون العقبة، وهم أكثر الخلق، ولا يقتحم هذه العقبة إلا المُضَمَّرون، فإنها عقبة كئود شاقة لا يقطعها إلا خفيف الظهر، وهم أصحاب الميمنة، والهالكون دون العقبة الذين لم يصدقوا الخبر، ولم يطيعوا الأمر فهم أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ قد أطبقت عليهم فلا يستطيعون الخروج منها، كما أطبقت عليهم أعمال الغي، والاعتقادات الباطلة المنافية لما أخبرت به رسله، فلم تخرج قلوبهم منها، كذلك أطبقت عليهم هذه النار، فلم تستطع أجسامهم الخروج منها.

فتأمل هذه السورة على اختصارها، وما اشتملت عليه من مطالب العلم، والإيمان، وبالله التوفيق"[1].

وقوله تعالى: يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا أي: يقول ابن آدم أنفقت مالاً لبدًا أي كثيرًا، قاله مجاهد، والحسن، وقتادة، والسدي وغيرهم."

يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا كما ذكر هنا، وكما ذكر الحافظ ابن القيم - رحمه الله - "لبدًا" أي: كثيرًا مجتمعًا، يعني أن بعضه على بعض مثلما يقال: هذه أشياء ملبَّدة، يقال: تلبد الأمر، أو الشيء الفلاني تلبد، يعني صار بعضه على بعض، فهذا الإنسان يكون مخبرًا عن نفسه بأنه أهلك هذا المال الكثير، الليث يقول: مَالًا لُّبَدًا أي: كثيرًا، لا يخاف فناءه، يقول: أهلكت مالاً كثيرًا، لا يخاف فناءه لكثرته، وابن جرير - رحمه الله - يقول: أهلكت مالاً كثيرًا في عداوة محمد ﷺ يعني المعنى الذي ذكره هؤلاء من المفسرين غير ابن جرير، وهو الذي مشى عليه ابن القيم أن هذا الإنسان يقول: أهلكت مالاً كثيرًا، يقوله على سبيل التبجح، والافتخار، أنفق ذلك في شهواته، ولذاته، والكلام كما سبق في الإنسان المعرض عن ربه - تبارك وتعالى -.

وهو يقول: أهلكت مالاً كثيرًا، فهو يتحدث عن سالف أيامه، وعما صدر منه، فيقول: إنه قد أنفق أموالاً طائلة في هذه الشهوات، ونسي أن الله - تبارك وتعالى - سيحاسبه عليها.

المعنى الذي ذكره ابن جرير أخص من هذا، يقول: أهلكت مالاً لبدًا أي في عداوة محمد ﷺ وفي حرب الإسلام، وفي الكيد لهذا الدين، وأهله، أنفق الأموال الطائلة لكن هذه النفقات هو سيحاسب عليها، فالله - تبارك وتعالى - يقول: أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ؟! فحينما أنفق هذه النفقات في حرب الإسلام، لحرب الدين، في عداوة أولياء الله كيف يغفل، أو كيف غفل عن مراقبة الله  له؟! وهنا يقول: أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ ابن جرير يقول: أن لم يره أحد في حال إنفاقه، يزعم أنه أنفقه، يعني حينما يخبر عن هذا أيحسب أن لم يره أحد في حال إنفاقه؟، وهكذا ما ذكره الحافظ ابن القيم - رحمه الله - فيما بعده من قوله: أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ أي: يبصر بهما، وَلِسَانًا أي: ينطق به فيعبر عما في ضميره، وَشَفَتَيْنِ يستعين بهما على الكلام، وأكل الطعام، وجمالاً لوجهه، وفمه، بمعنى أن الذي أعطاه ذلك قد أحاط به علمًا فهو يراه، ويطلع على كل حالاته، وحينما أنفق هذه الأموال فيما أنفقها به من مساخط الله فالله كان على إطلاع تام عليه، والله أخبر عن مآل تلك الأموال التي ينفقها هؤلاء من أهل الإجرام في حرب دينه، وأوليائه، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [سورة الأنفال:36] ثم حكم حكمًا مبرمًا فهذا أصل كلي لا يتبدل، ولا يتحول، ولا يتغير، قاعدة مستمرة فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ فالله حكم على هذه الأموال التي تنفق للصد عن سبيل الله دائمًا بأن هذا هو مصيرها، ومآلها فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ.

فالعاقبة للمتقين، وهؤلاء مهما أنفقوا من الأموال فلا تكترث بكثرتها، ولا يحصل للإنسان شيء من الانكسار، واليأس حينما يرى هذه الأرقام الهائلة تنفق في الصد عن سبيل الله  وإنما نتيجتها محسومة من البداية كثرت، أو قلت، لكن إذا كثرت زادت الحسرة على أصحابها، وكانت الغلبة في حقهم أعظم، "فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة"، هذا حكم الله الذي بيده مقاليد الأمور، ونواصي الخلق بيده، وما الخلق بالنسبة إلى عظمته، وجبروته - تبارك وتعالى - ؟ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً، فإذا رأيت الإنفاق في الصد عن سبيل الله  فلا يحصل لك أدنى شك في أن مصير هذه النفقات البوار، والدمار، والهلاك، ليس فيما أنفقت من أجله من الصد عن سبيل الله فيحصل مقصودهم بذلك، وإنما في ضده، وهو فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ لا يخرجون بطائل، فدين الله - تبارك وتعالى - منصور، والله متم نوره، وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ [سورة التوبة:32] لا يستطيع أحد أن يقف دون هذا، ولا أن يغير هذا الحكم، ولا أن يغير هذه السنة المستمرة، ولكن الله يبلو بعض الخلق ببعض، فيكون بعضهم من الأشرار من حزب الشيطان، وأوليائه، ويكون بعضهم من أهل الإيمان فتحصل المدافعة، ويبلو ربنا - تبارك وتعالى - الناس بعضهم ببعض، فيحصل التمحيص، والرفعة لأهل الإيمان، ويحصل لأهل الشر، والفساد الكبت - والله المستعان -.

فهنا يقول: يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا ۝ أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ يقول مجاهد: أيحسب أن لم يره الله ؟ وكذا قال غيره من السلف.

  1. التبيان في أقسام القرآن.