الأربعاء 26 / جمادى الآخرة / 1447 - 17 / ديسمبر 2025
خَلَقَ ٱلْإِنسَٰنَ مِنْ عَلَقٍ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المصنف -رحمه الله-: تفسير سورة اقرأ، وهي أول شيء نزل من القرآن.

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ۝ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ۝ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ۝ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ۝ عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ[القلم:1-5].

روى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺمِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، فَكَانَ يَأْتِي حِرَاءَ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ- اللَّيَالِي ذَوَاتِ الْعَدَدِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فيتزود لمثلها، حتى فاجأه الوحي وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءَ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فِيهِ، فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ:فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ:مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ:مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فغطني الثالثة حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ:اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَحَتَّى بَلَغَ:مَا لَمْ يَعْلَمْ قَالَ: فَرَجَعَ بِهَا تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ، فَقَالَ:زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ:يَا خَدِيجَةُ ما لي؟ وأخبرها الخبر، وقال:قد خشيت على نفسي.

فقالت له: كلا، أبشر، فوالله لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتُقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبَ الْحَقِّ.

ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ، حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيِّ، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها، وكان امرأ قد تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ، وَكَتَبَ بِالْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْإِنْجِيلِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُكْتَبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: أَيِ ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ وَرَقَةُ: ابْنَ أَخِي مَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَا رَأَى، فَقَالَ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ على موسى، ليتني فيها جَذَعًا، ليتني أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمَكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:أوَمُخرجيّ هُمْ؟ فَقَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا.

ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِيمَا بَلَغَنَا- حُزْنًا غَدَا مِنْهُ مِرَارًا كي يتردى من رءوس شَوَاهِقِ الْجِبَالِ، فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذُرْوَةِ جَبَلٍ لِكَيْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ مِنْهُ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، فَيَسْكُنُ بِذَلِكَ جَأْشُهُ، وَتَقَرُّ نَفْسُهُ، فَيَرْجِعُ، فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الْوَحْيِ غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَوْفَى بِذُرْوَةِ الْجَبَلِ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ له مثل ذَلِكَ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ[1].

وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ جِهَةِ سَنَدِهِ وَمَتْنِهِ وَمَعَانِيهِ فِي أَوَّلِ شَرْحِنَا لِلْبُخَارِيِّ مُسْتَقْصًى، فَمَنْ أَرَادَهُ فَهُوَ هُنَاكَ مُحَرَّرٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

فَأَوَّلُ شَيْءٍ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَاتُ الْمُبَارَكَاتُ، وَهُنَّ أَوَّلُ رَحْمَةٍ رَحِمَ اللَّهُ بِهَا الْعِبَادَ، وَأَوَّلُ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِمْ.

فهذه السورة سورة العلق، ويقال لها أيضًا: سورة اقرأ، وكذلك أيضًا سماها بعضهم بـ"سورة القلم".

وهذه السورة صدرها هو أول ما نزل على النبي ﷺ من الوحي، إلى قوله:عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ.

ثم كانت تلك الأولية بإطلاق، يعني أول ما نزل مطلقًا، أول ما طرق سمع النبي ﷺ، أول ما رأى الملك على صورته الحقيقية كان في ذلك الموقف، وهو في غار حراء ﷺ، ولم تنزل السورة كاملة، ثم بعد ذلك حصل انقطاع مؤقت للوحي، ثم نزلت عليه سورة المدثر.

وما جاء من حديث عائشة -ا- من أن سورة "اقرأ" هي أول سورة نزلت من القرآن، هذا الذي عليه الجماهير من أهل العلم من السلف والخلف.

يليه في القوة -يعني من الأقوال في أول ما نزل- أن أول ما نزل هو سورة المدثر، وحديث جابر في هذا معروف، ولكن الروايات في حديث جابر إذا جمعت فإن ذلك يدل على أن جابرًا كان يعلم أن سورة:اقْرَأْ نزلت قبل ذلك، فكأنه كان يحدث عن فترة الوحي، يعني أول ما نزل بعد فترة الوحي؛ لأن في ألفاظه أنه جاء الملَك الذي جاءه بحراء، إذًا هناك مجيء سابق، إلى غير ذلك من الألفاظ التي تجدها في حديث جابر تدل على أن النبي ﷺ كان له عهد بالملك قبل ذلك، مع ما قد يقال من أن هذا قد يكون من قبيل الاجتهاد من جابر بن عبد الله ، أو أن سورة المدثر هي أول ما نزل في الرسالة، وأول ما نزل في النبوة: اقرأ، يعني ما نزل بإطلاق، نُبئ بـ"اقرأ"، وأرسل بـ"المدثر".

الموضوع الذي تتحدث عنه: هذه السورة ابتدأت بالأمر بالقراءة، أمر النبي ﷺ بالقراءة، وهذه القراءة:اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ.

فذكر فيها ما يستوجب حمده -تبارك وتعالى-، والإذعان له، والإقرار بربوبيته وقدرته، فهو الخالق الذي خلق هذا الإنسان من هذه العلقة، مخلوق ضعيف، خلقه من هذا الشيء الذي لا شأن له، ثم علمه بالقلم، حيث صار بذلك يثبت العلوم ويدونها، وصار بذلك -يعني بالكتابة- قادرًا على جمع ما لم يكن يستطيعه بحفظه وإمكاناته من غير كتابة، فصارت منته -تبارك وتعالى- على الإنسان بتعليمه الكتابة بالقلم منة عظيمة، ومع ذلك هذا الإنسان إذا حصل له العطاء، وشعر أنه استغنى يحصل له الترفع والطغيان، فتوعد الله هذا الصنف من الناس وتهددهم، وذكر نموذجًا من هؤلاء، وهي الآيات التي نزلت في أبي جهل:أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ۝ عَبْدًا إِذَا صَلَّى.

يعني هذا بلغ به الطغيان أنْ صار ينهى غيره، يعني هو لا يستنكف من عبادة الله -تبارك وتعالى- ويأنف من ذلك فقط، بل صار أيضًا ينهى غيره عن هذه العبادة.

وحديث عائشة -ا-: "أول ما بدئ به رسول الله ﷺمن الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح" يعني في الوضوح، بحيث لا تلتبس، وليس ذلك يختلط مع أضغاث الأحلام، أو نحو ذلك.

"ثم حبب إليه الخلاء، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه، وهو التعبد" هذا تفسير للتحنث، يعني التعبد، لكن لا يقال هكذا في القراءة، وهو التعبد الليالي ذوات العدد، ليس هذا معنى التحنث، التحنث هو التعبد، فهذه جملة اعتراضية، وإلا فسياق الكلام هكذا: "فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد" الليالي ذوات العدد يعني كأنه يتحنث ليالي متتابعة، ثم يرجع ويتزود لمثل ذلك، وهكذا، حتى فجَأه الوحي، فجاءه الملك فيه، فقال: "اقرأ" فقال النبي ﷺ، فقلت:ما أنا بقارئ ما أنا بقارئ هنا ليس معناه: لن أقرأ، وإنما يخبر عن نفسه أن ذلك ليس من شأنه، وأنه لا يحسن القراءة، قال:فأخذني فغطني الغط هو الضغط الشديد، والضم بقوة، ضمه، يقول:حتى بلغ مني الجهد الجهد يعني المشقة والغاية:ثم أرسلني فقال: اقرأ، إلى آخره، إلى أن قال: فقالت له: كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف.

"تحمل الكل" الكل هو الضعيف، العاجز، فسر باليتيم، وفسر بالضعيف، وفسر بالمسافر.

المقصود: أنه الإنسان الذي يكون عاجزًا عن النهوض بحاجاته وشئونه.

لكن هنا في هذه الرواية: "ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي فترة، حتى حزن رسول الله ﷺ فيما بلغنا" من القائل: "فيما بلغنا؟".

هو الزهري، أحد رواة الحديث محمد بن شهاب الزهري، فهنا: "فيما بلغنا" هذا ليس من متصل الإسناد، الحديث في الصحيحين، لكن هذا الجزء ليس بالإسناد الذي جاء به الحديث -الإسناد المتصل-، وإنما هذا القدر من بلاغات الزهري، يعني أنه لا يثبت، ولا يصح من جهة الإسناد، فالبخاري هكذا أورده، لكن هذه اللفظة تبين وتوضح أن ذلك ليس بالإسناد المتصل الذي ذكره في أول الحديث، فهذا القدر لا يثبت، وحاشا رسول الله ﷺ أن يصدر منه هذا، ولا داعي للتكلف بحمله على محامل، وإنما يقال: هذا لا يصح، يقول: "فيما بلغنا، حزنًا غدا منه مرارًا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال".

وهذا لا يليق ولا يصح أن ينسب إلى رسول الله ﷺ.

قوله -تبارك وتعالى-:اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ۝ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ.

اقْرَأْ هنا هذا أمر للنبي ﷺ بالقراءة.

اقْرَأْ ماذا؟

هذا يقتضي مقروءًا.

اقْرَأْ ما أوحي إليك اقْرَأْ ما يوحى إليك، أو ما أنزل، أو ما ينزل عليك من الوحي، أواقْرَأْ يعني ما تسمع، أو ما أمرت بقراءته.

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَالباء هذه يحتمل أن تكون للاستعانة، اقرأ مستعينًا، أو للابتداء، مبتدئًا باسم ربك، أو متلبسًا باسم ربك، الكلام في هذا معروف، ومضى في البسملة حينما يقول الإنسان: "بسم الله" الباء هذه ما موضعها،

وابن جرير -رحمه الله- يفسره يقول: اقرأ بذكر ربك.

وَفِيهَا: التَّنْبِيهُ عَلَى ابْتِدَاءِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ عَلَقَةٍ، وَأَنَّ مِنْ كَرَمِهِ تَعَالَى أَنْ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، فَشَرَّفَهُ وَكَرَّمَهُ بِالْعِلْمِ، وَهُوَ الْقَدْرُ الذي امتاز به أبو البرية آدَمُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَالْعِلْمُ تَارَةً يَكُونُ فِي الْأَذْهَانِ، وَتَارَةً يَكُونُ فِي اللِّسَانِ، وَتَارَةً يَكُونُ فِي الْكِتَابَةِ بِالْبَنَانِ، ذِهْنِيٌّ وَلَفْظِيٌّ وَرَسْمِيٌّ، وَالرَّسْمِيُّ يَسْتَلْزِمُهُمَا مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، فَلِهَذَا قَالَ:اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ۝ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ.

وَفِي الْأَثَرِ: "قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابَةِ".

وَفِيهِ أَيْضًا: "مَنْ عَمِلِ بِمَا عَلِمَ ورثه الله علم ما لم يكن يعلم".

 

قوله: "والعلم تارة يكون في الأذهان" يعني أن يكون محفوظًا للإنسان "وتارة يكون في اللسان" يعني مذكورًا يتكلم به، "وتارة يكون في الكتابة بالبنان" فهذا هو الذي أشارت إليه الآية:الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ.

يقول: "وتارة يكون في الكتابة بالبنان، ذهني ولفظي ورسمي" يعني هو يعيد الأشياء السابقة بمسميات مختصرة، ما يكون بالذهن يقال له: ذهني، وما يكون ملفوظًا يقال له: لفظي.

يقول: "ورسمي" الرسم يعني الكتابة، يكون مرسومًا، يعني مكتوبًا.

"والرسمي يستلزمهما، من غير عكس" يعني أن الذي يكتب يقتضي أن يكون محفوظًا في الأذهان، إنما يكتب الإنسان ما في ذهنه، ويكون أيضًا مما يتكلم الناس به فيمليه، أو نحو ذلك، يقول: "من غير عكس" يعني قد يكون الشيء في الذهن ولا يكتب، ولا ينطق به، وقد يكون ملفوظًا، ولكنه لا يكتب، فلهذا قال:اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ.

فالحاصل: أن قوله -تبارك وتعالى-:اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ هذا فيه إشارة إلى منة الله  على هذا الإنسان، وأيضًا إلى ضعفه، ثم يصير أمره إلى ما قد ذكر من الطغيان في حال الاستغناء، ثم بعد ذلك العدوان على عباد الله -تبارك وتعالى-، وهذا المخلوق من علقة، والله هو الذي أعطاه وأولاه، وامتن عليه وعلمه ما لم يكن يعلم، فهنا يقول: فلهذا قال:اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ۝ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ۝ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ.

عَلَّمَ بِالْقَلَمِ فسره بما بعده:عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ فعلمه بالقلم الكتابة التي تتضمن علومًا يتعلمها، فكما علمه الكتابة فإن هذا أيضًا كان سبيلاً إلى سائر العلوم أن تُحفظ وتضبط، ثم بعد ذلك يجد الإنسان بغيته منها، فلا تضيع العلوم وتذهب، فلو بقي ذلك للحفظ وحده لذهب كثير من العلم، سواء كان ذلك من العلم الشرعي، أو كان ذلك من العلوم الأخرى، لكن تتعاقب الأجيال، ويدونون العلوم، ثم بعد ذلك يجد من بعدهم بغيته في ذلك.

أما حديث:من عمل بما يعلم ورثه الله علم ما لم يعلم[2] فهذا فيه ضعف.

وهنا تعليق للحافظ ابن القيم -رحمه الله- في هذا الموضع، قال -رحمه الله-: "فافتتح السورة بالأمر بالقراءة الناشئة عن العلم، وذكر خلقه خصوصًا وعمومًا، فَقَالَ:الَّذِي خَلَقَ ۝ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ۝ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ وَخص الانسان من بَين الْمَخْلوقات لما أودعه من عجائبه، وآياته الدَّالَّة على ربوبيته وَقدرته وَعلمه وحكمته وَكَمَال رَحمته، وأنه لَا إِلَه غَيره وَلَا رب سواهُ.

وَذكر هُنَا مبدأ خلقه من علق، لكَون الْعلقَة مبدأ الأطوار الَّتِي انْتَقَلت إليها النُّطْفَة، فَهِيَ مبدأ تعلق التخليق، ثمَّ أعاد الْأَمر بِالْقِرَاءَةِ مخبرًا عَن نَفسه بِأَنَّهُ الأكرم، وَهُوَ الأفعل من الْكَرم، وَهُوَ كَثْرَة الْخَيْر، وَلَا أحْدُ أولى بذلك مِنْهُ -سُبْحَانَهُ-، فَإِن الْخَيْر كُله بيدَيْهِ، وَالْخَيْر كُله مِنْهُ، وَالنعَم كلهَا هُوَ موليها، والكمال كُله، وَالْمجد كُله لَهُ، فَهُوَ الأكرم حَقًّا، ثمَّ ذكر تَعْلِيمه عُمُومًا وخصوصًا، فَقَالَ:الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِهَذَا يدْخل فِيهِ تَعْلِيم الْمَلَائِكَة وَالنَّاس، ثمَّ ذكر تَعْلِيم الإنسان خُصُوصًا، فَقَالَ:عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ.

وَالْمَقْصُود أنه -سُبْحَانَهُ- تعرّف إِلَى عباده بِمَا علمهمْ إِيَّاه بِحِكْمَتِهِ من الْخط وَاللَّفْظ وَالْمعْنَى، فَكَانَ الْعلم اُحْد الأدلة الدَّالَّة عَلَيْهِ، بل من أعظمها وأظهرها، وَكفى بِهَذَا شرفًا وفضلا لَهُ"[3].

قوله -تبارك وتعالى-:اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ۝ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ.

العلق جمع علقة، وهي الدم الجامد، هذا معروف.

 

  1. رواه البخاري، كتاب التعبير، باب أول ما بدئ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصالحة، رقم(6982) ومسلم، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ، رقم (160) وهذا لفظ البخاري.
  2. بحر الفوائد المشهور بمعاني الأخبار، لأبي بكر محمد بن أبي إسحاق بن إبراهيم بن يعقوب الكلاباذي (1/99)، وضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة، رقم (422). 
  3. مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/58).