الأربعاء 26 / جمادى الآخرة / 1447 - 17 / ديسمبر 2025
كَلَّآ إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لَيَطْغَىٰٓ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى ۝ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى ۝ إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى ۝ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى ۝ عَبْداً إِذا صَلَّى ۝ أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى ۝ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى ۝ أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ۝ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى ۝ كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ۝ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ ۝ فَلْيَدْعُ نادِيَهُ ۝ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ ۝ كَلاَّ لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ[العلق:6-19].

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ ذُو فَرَحٍ وَأَشَرٍ وَبَطَرٍ وَطُغْيَانٍ إِذَا رَأَى نَفْسَهُ قَدِ اسْتَغْنَى، وَكَثُرَ مَالُهُ، ثُمَّ تَهَدَّدَهُ وَتَوَعَّدَهُ وَوَعَظَهُ، فَقَالَ:إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَىأَيْ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ وَالْمَرْجِعُ، وَسَيُحَاسِبُكَ عَلَى مَالِكِ مِنْ أَيْنَ جَمَعْتَهُ، وَفِيمَ صَرَفْتَهُ.

قوله -تبارك وتعالى-:كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى.

كَلَّا هذه مضى الكلام عليها بأنها تأتي بمعنى: الردع والزجر، وتأتي بمعنى: حقًّا، فإن كان ذلك لكلام قبله فهي للردع والزجر، وإلا كانت بمعنى حقًّا، وهي هنا تحتمل، فمن نظر إلى أنه لم يأتِ قبلها ما يستوجب الردع والزجر قال: هي بمعنى حقًّا، حقًّا إن الإنسان ليطغى، فإنه ذكر قبله منته -تبارك وتعالى- على الإنسان بخلقه، وبتعليمه بالقلم.

قال ابن القيم -رحمه الله-: "ثم تأمل نعمة الله على الإنسان بالبيانين، البيان النطقي، والبيان الخطي، وقد اعتد بهما -سبحانه- في جملة ما اعْتد بِهِ من نعمه على العَبْد، فَقَالَ فِي أول سُورَة أنزلت على رَسُول الله ﷺ:اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق ۝ خلق الْإِنْسَان من علق ۝ اقْرَأ وَرَبك الأكرم ۝ الَّذِي علم بالقلم ۝ علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم.

فَتَأمل كَيفَ جمع فِي هَذِه الْكَلِمَات مَرَاتِب الْخلق كلهَا، وَكَيف تَضَمَّنت مَرَاتِب الوجودات الأربعة، بأوجز لفظ وأوضحه وأحسنه، فَذكر أَولا: عُمُوم الْخلق، وَهُوَ إعطاء الوجود الْخَارِجِي.

ثمَّ ذكر ثَانِيًا: خُصُوص خلق الانسان؛ لأنه مَوضِع الْعبْرَة، والآية فِيهِ عَظِيمَة، وَمن شُهُوده عَمَّا فِيهِ مَحْض تعدد النعم، وَذكر مَادَّة خلقه هَاهُنَا من الْعلقَة، وَفِي سَائِر الْمَوَاضِع يذكر مَا هُوَ سَابق عَلَيْهَا، إِمَّا مَادَّة الأصل، وَهُوَ التُّرَاب والطين، أوْ الصلصال الَّذِي كالفخار، اَوْ مَادَّة الْفَرْع، وَهُوَ المَاء المهين، وَذكر فِي هَذَا الْموضع أول مبادئ تعلّق التخليق وَهُوَ الْعلقَة، فَإِنَّهُ كَانَ قبلهَا نُطْفَة، فَأول انتقالها إِنَّمَا هُوَ إلى الْعلقَة.

ثمَّ ذكر ثَالِثا: التَّعْلِيم بالقلم الَّذِي هُوَ من أعظم نعمه على عباده، إِذْ بِهِ تخلّد الْعُلُوم، وَتثبت الْحُقُوق، وَتعلم الْوَصَايَا، وَتحفظ الشَّهَادَات، ويضبط حِسَاب الْمُعَامَلَات الْوَاقِعَة بَين النَّاس، وَبِه تقيد أخبار الماضين للباقين اللاحقين، وَلَوْلَا الْكِتَابَة لانقطعت أخبار بعض الأزمنة عَن بعض، ودرست السّنَن، وتخبطت الأحكام، وَلم يعرف الْخلف مَذَاهِب السّلف، وَكَانَ مُعظم الْخلَل الدَّاخِل على النَّاس فِي دينهم ودنياهم إنما يعتريهم من النسْيَان الَّذِي يمحو صور الْعلم من قُلُوبهم، فَجعل لَهُم الْكتاب وعَاءً حَافِظًا للْعلم من الضّيَاع، كالأوعية الَّتِي تحفظ الأمتعة من الذّهاب والبطلان، فنعمة الله بتعليم الْقَلَم بعد الْقُرْآن من أجل النعم، والتعليم بِهِ وَإِن كَانَ مِمَّا يخلص إليه الإنسان بالفطنة وَالْحِيلَة فَإِنَّ الَّذِي بلغ بِهِ ذَلِك وأوصله اليه عَطِيَّةٌ وَهبهَا الله مِنْهُ، وَفضل أعطاه الله إِيَّاه، وَزِيَادَة فِي خلقه وفضله، فَهُوَ الَّذِي علمه الْكِتَابَة وَإِن كَانَ هُوَ المتعلم، فَفعله فعل مُطَاوع لتعليم الَّذِي علم بالقلم، فَإِنه علّمه فتعلم، كَمَا أنه علمه الْكَلَام فَتكلم، هَذَا، وَمَن أعطاه الذِّهْن الَّذِي يعي بِهِ، وَاللِّسَان الَّذِي يترجم بِهِ، والبنان الَّذِي يحط بِهِ، وَمن هيأ ذهنه لقبُول هَذَا التَّعْلِيم دون سَائِر الْحَيَوَانَات، وَمن الَّذِي أنطق لِسَانه، وحرك بنانه، وَمن الَّذِي دعم البنان بالكف، ودعم الْكَفّ بالساعد؟، فكم لله من آيَة نَحن غافلون عَنْهَا فِي التَّعَلُّم بالقلم، فقف وَقْفَة فِي حَال الْكِتَابَة، وَتَأمل حالك وَقد أمسكت الْقَلَم وَهُوَ جماد، وَضعته على القرطاس وَهُوَ جماد، فتولد من بَينهمَا أنواع الحكم، وأصناف الْعُلُوم، وفنون المراسلات والخطب، وَالنّظم والنثر، وجوابات الْمسَائِل، فَمن الَّذِي أجرى فلك الْمعَانِي على قَلْبك، ورسمها فِي ذهنك، ثمَّ أجرى الْعبارَات الدَّالَّة عَلَيْهَا على لسَانك، ثمَّ حرك بهَا بنانك، حَتَّى صَارَت نقشًا عجيبًا، مَعْنَاهُ أعْجَبْ من صورته، فتقضى بِهِ مآربك، وتبلغ بِهِ حَاجَة فِي صدرك، وترسله الى الأقطار النائية، والجهات المتباعدة، فَيقوم مقامك ويترجم عَنْك، وَيتَكَلَّم على لسَانك، وَيقوم مقَام رَسُولك، ويجدي عَلَيْك مَالا يجدي من ترسله، سوى من علم بالقلم:عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ؟.

والتعليم بالقلم يستلزم الْمَرَاتِب الثَّلَاثَة: مرتبَة الْوُجُود الذهْنِي، والوجود اللَّفْظِيّ، والوجود الرسمي، فقد دلّ التَّعْلِيم بالقلم على أنه سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُعْطِي لهَذِهِ الْمَرَاتِب، وَدلّ قَوْله:خلق على أنه يعْطى الْوُجُود الْعَيْنِيّ.

فدلت هَذِه الآيات مَعَ اختصارها ووجازتها وفصاحتها على أن مَرَاتِب الْوُجُود بأسرها مُسندَة إليه تَعَالَى خلقًا وتعليمًا، وَذكر خلقين وتعليمين، خلقًا عَامًّا وخلقًا خَاصًّا، وتعليما خَاصّا وتعليما عَاما، وَذكر من صِفَاته هَاهُنَا اسْم الأكرم الَّذِي فِيهِ كل خير، وكل كَمَال، فَلهُ كل كَمَال وَصفًا، وَمِنْه كل خير فعلا، فَهُوَ الأكرم فِي ذَاته وأوصافه وأفعاله، وَهَذَا الْخلق والتعليم إِنَّمَا نَشأ من كرمه وبره وإحسانه، لَا من حَاجَة دَعَتْهُ الى ذَلِك، وَهُوَ الْغَنِيّ الحميد"[1].

وقال -رحمه الله-: "قوله تعالى:كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى ۝ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ولم يقل: أن استغنى، بل جعل الطغيان ناشئاً عن رؤية غنى نفسه، ولم يذكر هذه الرؤية في سورة الليل، بل قال:وَأَمّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىَ وَكَذّبَ بِالْحُسْنَىَ فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَىَ[الليل:8-10].

وهذا -والله أَعلم- لأَنه ذكر موجب طغيانه، وهو رؤية غنى نفسه، وذكر في سورة الليل موجب هلاكه، وعدم تيسيره لليسرى، وهو استغناؤه عن ربه بترك طاعته وعبوديته، فإِنه لو افتقر إِليه لتقرب إِليه بما أَمره من طاعته فعْلَ المملوك الذى لا غنى له عن مولاه طرفة عين، ولا يجد بُدًّا من امتثال أَوامره، ولذلك ذكر معه بخله وهو تركه إِعطاء ما وجب عليه من الأَقوال والأَعمال، وأداءِ المال، وجمع إِلى ذلك تكذيبه بالحسنى، وهى التي وعد بها أَهل الإِحسان بقوله:لّلّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَىَ وَزِيَادَةٌ[يونس:26].

ومن فسرها بشهادة: أَن لا إِله إِلا الله، فلأَنها أَصل الإِحسان، وبها تنال الحسنى.

ومن فسرها بالخلف في الإِنفاق، فقد هضم المعنى حقه، وهو أَكبر من ذلك، وإِن كان الخلف جزءاً من أَجزاءِ الْحسنى.

والمقصود أَن الاستغناءَ عن الله سبب هلاك العبد وتيسيره لكل عسرى، ورؤيته غنى نفسه سبب طغيانه، وكلاهما منافٍ للفقر والعبودية"[2].

واضح الفرق بين المقامين، فالاستغناء يكون سببًا لتيسيره للعسرى، التكذيب والاستغناء، وإذا رأى نفسه أنه استغنى كان ذلك سببًا لطغيانه.

  1. المصدر السابق (1/278-279).
  2. طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 14).