الثلاثاء 09 / رمضان / 1445 - 19 / مارس 2024
وصايا للحجاج
تاريخ النشر: ٢٩ / ذو القعدة / ١٤٢٥
التحميل: 21296
مرات الإستماع: 14274

استحضار النية في الحج

الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على أشرف الأنبياء، والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد:
فسلام الله عليكم، ورحمته، وبركاته، أسأل الله أن يجعل هذا المجلس خالصاً لوجهه الكريم، وأن يجعله مقرباً إليه، وأن يعيذنا، وإياكم من النار.
سأتحدث في هذا المجلس بإذن الله عن عشر وصايا أوصي بها نفسي، وأوصي بها إخواني ممن أراد أن يؤم هذا البيت الحرام، ممن أراد أن يحج، ممن اختاره الله للقيام بهذه الوظيفة الشريفة، والعمل الكبير الذي هو ركن من أركان الإسلام.
نحن بحاجة إلى المذاكرة، نحن بحاجة إلى مزيد من التواصي، والتبصير، وتذكير النفوس بما يصلحها، وينفعها، قبل الشروع في الأعمال، ولربما دخل الإنسان في عمل يعمله، وغفل عن بعض الجوانب المتعلقة فيه، فضاع عليه عمله، أو كان ذلك سبباً لنقص كبير في هذا العمل، كثيراً ما يندم الإنسان، ويتمنى أنه تفطن لبعض الأمور قبل أن يشرع بعمله، ولذلك أحببت أن يكون هذا المجلس قبل انعقاد الإحرام، وقبل الدخول في النسك؛ ليكون لدى المرء مكنة يتمكن معها من القيام بما يجب لله - تبارك، وتعالى - فأول هذه الوصايا:
أولها: أن يحضر النية، أن تكون له نية صحيحة، الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110] الله يقول كما في الحديث القدسي: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته، وشركه[1] والأحاديث، والآيات التي تتحدث عن قضية النية، والإخلاص كثيرة لا تخفى عليكم، ولعل من حكمة الله  البالغة أن جعل البيت الحرام، وأكنافه بوادٍ غير ذي زرع، لم يكن ذلك المحل مصيفاً يجد الناس فيه برد الهواء في وقت الحر، ولم يكن ذلك المكان متربعاً يجدون فيه خضرة، وبهجة، وأنساً، وطرباً، إنما جعله الله في بلد هو من أكثر بلاد الدنيا حراً، وليس فيه أثر لبهجة تكسو الأرض من خضرة، وزينة، إنما هي أرض تحيط بها الجبال ليس فيها ما يطرب الناظرين، مما يقصده الناس لراحة بالهم، وأنس نفوسهم، ومن ثم فإنه ليس ثمت مجال لأن يذهب الواحد من أجل الفرجة، ومن أجل البهجة، ومن أجل السفر إلى بلاد غناء يتنافس الناس، ويتسابقون للذهاب إليها؛ لأنها من مصايفهم، ومن الروضات الغناء التي يطرب لها الناظرون ليس فيه شيء من ذلك، الذي يذهب إلى ذلك المحل يعلم جيداً إلى أين يذهب؟ يذهب إلى مكان يكثر فيه الزحام، ويحتاج معه إلى كثير من الصبر، وكتم النفوس عن شهواتها، ولذاتها، ومألوفاتها، وهذا أمر لا يخفى، فهل تفكرت قبل أن تدخل في الإحرام ما الذي يحركك تجاه بيت الله العتيق؟ هل تريد بذلك مقصداً دنيئاً ليقل عنك الناس أنك حاج؟ هل تقصد بذلك أن يقال: إن فلان قد حج خمسين حجة، أو أربعين حجة، أو عشر حجج، أو غير ذلك؟ هل تريد أن تذهب من أجل أن فلاناً من الناس قد أعطاك شيئاً من المال فتحركت عزيمتك من أجل أن توفر بعضه، وأن تحج ببعضه عن غيرك؟ هل هذا هو المقصود؟ ما هو مطلوبك؟ هل فكرت؟ وهل جلست مع نفسك لتصحح نيتك؟

بعض السلف لربما طلب منه ما هو أدنى من ذلك، فوقف قليلاً فحينما يُسأل عن هذا قال: حتى أحضر فيه نية، زيارة، أو تشييع جنازة، أو نحو ذلك من الأعمال التي لا تتطلب مجهوداً كبيراً حتى أحضر فيه نيتي، فكيف بحج بيت الله الحرام؟! ينبغي أن يكون المقصود هو نيل رضا المعبود  دون شيء سواه، ومن انحط عن هذه المرتبة فله أن يلتفت إلى مطلوب يجوز الالتفات إليه من تجارة، وعمل دنيوي، ونحو ذلك يكون تابعاً لمقصوده الأول، وهو طلب رضا الله أما المطالب المهلكة من قصد الريا، والسمعة، فالويل لمن كانت تنهزه، وتحركه، فربما كان ذلك قوته الذي يقتاته إلى النار، وراحلته التي تقوده إلى عذاب الله وبئس المصير.
نحن بحاجة إلى التفكير، لا ننساق مع الأعمال الصالحة، أو الأعمال الدنيوية، بل حتى الأعمال السيئة قبل أن نفكر؛ لأننا قد نضيع أنفسنا، ونندم ولات ساعة مندم، فإذا حصل لك هذا القصد، والنية فأبشر بفضل الله ورحمته، وألطافه.

  1.  أخرجه مسلم في كتاب الزهد، والرقائق باب: من أشرك في عمله غير الله (14/254 - 5300).
اختيار الرفقة الطيبة

ثم أوصيك بوصية ثانية: أن تختار رفقة طيبة صالحة، ولست بحاجة لذكر النصوص الواردة في أثر الصحبة على الإنسان: مثل الجليس الصالح، وجليس السوء كحامل المسك، ونافخ الكير[1] المرء على دين خليله[2] إلى غير ذلك.
أريد أن أتحدث معكم حديثاً يلامس القلوب، ولا شك أن أعظم ما يمكن أن يتحدث عنه الناس هو كتاب الله، وسنة رسوله ﷺ ولكن المقصود ألا نتحدث عن أمور لربما قال السامع لقد سمعناها مراراً، المقصود من هذا المجلس هو التذكير، وليس التعميم.
فأقول: الصحبة لقاح، هذا الصاحب لربما أفسد عليك حجك، لربما كان كثير اللغو، واللمز، والسخرية بعباد الله والثرثرة في غير حاجة، لربما كان مجادلاً فأوقعك في الجدل، ولربما كان من أصحاب الرفث فتكلم عندك بما لا يليق من الفحش من القول، فدنس حجك، وأبطل أجرك، ولربما رجعت بخفي حنين ليس لك من حجك إلا العناء، والسفر، والتعب، فاختر رفيقاً طيباً صالحاً، يعينك على طاعة الله ولا يثبطك عنه، الأصحاب الذين ينبغي أن يسافر الإنسان معهم، ينبغي أن يتحلوا بخصال الإسلام، أن يتحلوا بالخصال الطيبة الكريمة.
السفر قطعة من العذاب، فإذا اجتمع معه عذاب آخر، فذاك عذاب مضاعف، تجدون في تراجم كثير من السلف يذكرون في ترجمته أنه كان قليل المخالفة في السفر، ما معنى هذا الكلام؟ السفر قطعة من العذاب، يسفر عن أخلاق الرجال، ولربما توارت تلك الابتسامات، والمجاملات. 

إذا وجد مس الجوع، والعطش، أو الحر، أو أضناه التعب بعد المسير بساعات يجامله فتظهر أخلاقه على حقيقتها، وتتكشف نفسه عن أخلاق أشبه ما تكون بأخلاق السباع، فهو يهارش، ويجادل، ويصخب، وينازع على أتفه الأشياء، يكدر عليك صفوك، ويشتت فكرك، ويشغل قلبك، ولربما شاحنك على أمور تافهة، يغضب من أجل الطعام، وإذا أردت المسير في وقت جادلك فيه، وإذا أردت الإقامة في محل جادلك فيه، وإذا أردت أن تسلك طريقاً أكثر من عتابك، ولومك، وإذا رأى عيباً لم يستره، فما الحاجة إلى هذه الصحبة، والرفقة؟! وأنت تقصد عملاً ترجو به مطلوباً عظيماً، وهو رضا الله - تبارك، وتعالى - وأن تحط عنك الأوزار، والذنوب، وهذه الصحبة لا تؤهلك لهذا المطلوب إطلاقاً.
ولذلك السفر تعب، وعناء، ويوجد من هذا العناء في سفر الحج ما الله به عليم، فأنت بحاجة إلى قوم يتسمون بسعة الصدر، وكثرة الحلم، والعفو عن الناس، والرفق، والأخلاق الفاضلة الكريمة، نحن بحاجة إلى ذلك كله، نحن بحاجة إلى قوم ينشطوننا إلى الطاعة، ويقومون العزائم إذا فترت، لسنا بحاجة إلى من يثنيك عن كل فضيلة، وعمل صالح تريد القيام به، الإنسان لربما خاصة من حج لأول مرة، لربما ينطبع في نفسه صورة عن الحج بسبب رفقة سافر معها، إذا سافر الرجل مع قوم من العابدين الصالحين الأتقياء، ورأى دموعهم تنحدر على خدودهم، ورأى ابتهالهم، وتضرعهم، ورأى حسن رجائهم بالله، ورأى خوفهم منه انطبع ذلك في نفسه، فلم يعد يقبل بديلاً عن هذه الحال في الحج، ويسعى إلى تحقيق ما هو أعلى من ذلك.
أما من سافر مع البطالين مع أهل الغفلة في يوم عرفة، في عشية عرفة يرعى كما ترعى البهيمة، ثم يتمدد ينام في وقت أوقاته لا تقادر بشيء، دقائقه، وأنفاسه، وثوانيه لا يمكن أن تعدل بشيء، ثم يسمع عن الحج سنين طويلة، ثم يذهب مع هذا، ويجد فتوراً في طاعة الله وخوراً في العزيمة، ودوناً في الهمة، وقلباً قاسياً، وعيناً جافة لا تدمع، فيظن أن الحج هو هكذا، وأن الناس ينامون في عرفة، ويأكلون، ويشربون، ويضحكون، وينكتون، فيظن أن هذا هو الحج، وأن هذا هو الوقوف الحقيقي الذي ينبغي أن يكون في تلك المشاعر.

  1.  أخرجه البخاري في كتاب البيوع باب: في العطار، وبيع المسك (7/ 287 - 1959) وفي كتاب الذبائح، والصيد باب: المسك (17/ 214 - 5108) ومسلم في كتاب البر، والصلة، والآداب باب: استحباب مجالسة الصالحين، ومجانبة قرناء السوء (13/ 73 - 4762).
  2.  أخرجه أبو داود في كتاب الأدب باب: من يؤمر أن يجالس (12/ 459 - 4193) والترمذي في كتاب الزهد عن رسول الله ﷺ باب: ما جاء في أخذ المال بحقه (8/ 383 - 2300) وأحمد (16/ 226 - 7685) وحسنه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: (3545).
النفقة في الحج

فإذا عرفت ذلك فاسمع وصية ثالثة: وهي تتصل بنفقتك في حجك، فالله طيب لا يقبل إلا طيباً، وتعرفون خبر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك[1] والله قد أخبرنا عن حال المرابين يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا [البقرة: 276] يعني يبطله فتذهب بركته في الدنيا، فإذا عمل به عملاً صالحاً، أو تصدق منه، لم يقبل الله ذلك منه، فهو ممحوق، وهكذا كل مكسب خبيث رديء فإن الله يمحقه، فتخير نفقة طيبة، ثم تبصر في معنى آخر، وهو أن هذه النفقة مخلوفة، المنافقون أخبرنا الله أنهم يرون النفقة في سبيل الله مغرماً وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا [التوبة: 98] يعد ما ينفق ذلك من الغرم، والخسارة فهي مقطوعة من قلبه، أما المؤمن الصادق فهو يحتسبها، ويعلم أنها مخلوفة، حينما تدفع هذه الأموال في سبيل حجك فهذا هو الكسب الحقيقي، هذا خير ما أنفقت فيه الأموال، نحن ندفع كثيراً في سفرة للنـزهة، والفرجة، نحن ندفع كثيراً في سبيل استئجار صالة للأفراح، أو استراحة، أو غير ذلك مما يذهب، ويزول، ويبطل، ولربما يراد به غير وجه الله وأما النفقة في الحج فإن الله يقبلها، ويثيب عليها، وينميها للإنسان، فلا تستكثر ذلك، كيف يستكثر، والله يقول: وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ [البقرة: 272] فإذا أدركت هذا المعنى فإنك تخرج النفقة، وأنت مستريح النفس، مطمئن القلب، وتعلم أن هذا الوفد، وأن هؤلاء الذين جاؤوا إلى هذا الحج أن خير ما أنفق هو ما بذل في سبيل الله في مثل هذه المشاهد، والمقامات، والأزمنة الشريفة، أي نفقة أفضل من نفقة تبذل في شهر حرام من شهور الحج، في بلد الله الحرام، لضيوف الله ؟ الحجاج هم وفد الله، وضيوفه، فهل ستجد نفقة أفضل، وأكمل، وأعظم من هذه النفقة؟ فلماذا تستحقرها؟ أنفق، أنفق، وهذه النفقة ليست من التضييع، ولا الإسراف، هذه نفقة في محلها، الإسراف هو تضييع الأموال في الحرام، أو صرف الأموال على سبيل المبالغة، أو المباهاة في أمور المباح، وأما في طاعة الله فهذا خير ما أنفقت به الأموال تنفق على من معك من رفقتك، وأنت منشرح الصدر، فرح بذلك ترجو عائداتها، أما أن يكون الإنسان مقتراً على نفسه، مقتراً على من معه، يجد أن الحذق كل الحذق هو في تقليل النفقة ما أمكن، وأن هذه الحجة ما كلفته إلا دراهم معدودة، هل هذا هو التفكير الصحيح؟ هل هذا هو المكسب، والربح الذي يعود به الإنسان في حجته؟ إذا أراد أن يشتري هدياً بحث عن الأرخص إن كان في اشتراك في بدنة اشترك، وإن كان في شيء عن طريق شركة اشتراه المهم أن يبذل الأقل، والأدنى، وأقل ما يجزئ، هل هذا هو المطلوب؟ إذا أردت أن تعرف ما لك عند الله كما جاء في الحديث فانظر ما لله عندك. 
النبي ﷺ كان يجزئه أن يذبح شاة واحدة، فكم قدم ﷺ في حجته؟ قدم مائة من الإبل، نحر منها بيده الشريفة ثلاثاً، وستين، أما يكفيه واحدة؟ لكنه لم يحسب حسابات أولئك، الذين يظنون أنهم يحسنون صنعاً، كان حكيم بن حزام - رضي الله تعالى عنه، وأرضاه - يقف في عرفة، ومعه مائة مقلدة، يعني مائة من الإبل عليها قد قلدت القلائد لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ [المائدة: 2] وذلك ما يوضع على البدن ليعرف أنها من الهدي، حكيم بن حزام، يقف في عرفة، ومعه مائة مقلدة، ومائة رقبة فيعتق رقيقه بعرفة، فيضج الناس بالبكاء، والدعاء، ويقولون: "ربنا هذا عبدك قد أعتق عبيده، ونحن عبيدك فأعتقتنا" مائة مقلدة، ومائة رقبة ماذا يريد بها؟ إن كنت ممن حج فكم قدمت في عرفة؟ كم قدمت في مزدلفة؟ وكم قدمت في منى؟ وكم نحرت من الهدي؟ كم قدمت؟ أكثر ما نسمع من الأسئلة في هذه الأيام هو سؤال الناس عن الحج الذي لا هدي فيه ما هو؟ من أجل ألا يقدموا هدياً، وأعتق حكيم بن حزام في الجاهلية مائة رقبة، وحمل على مائة بعير، وفعل مثل ذلك في الإسلام، وأهدى مائة بدنة، وألف شاة، وأعتق بعرفة مائة، وصيف في أعناقهم أطواق الفضة، منقوش عليها عتقاء الله عن حكيم بن حزام، فماذا أعددت لهذا الحج؟
وللعلم فإن الهدي لا يختص بالحاج، بل إن الهدي يكون للحاج، وللمقيم يمكن للمقيم أن يرسل هديه إلى بيت الله الحرام، يمكن أن يبعث بها، ويمكن أن يشترى له من هناك، فينحر بتلك المواطن، والبقاع الشريفة، لعل الله أن يعتقه بذلك من النار.

  1.  أخرجه مسلم في كتاب الزكاة باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب، وتربيتها (ج 5 / ص 192 - 1686).
متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في الحج

ووصية رابعة لابد منها: وهي أن يكون العمل متابعاً فيه النبي ﷺ : فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110] أي عملاً صواباً، ولا يمكن للعمل أن يكون صواباً إلا إذا تابعت فيه رسول الله ﷺ : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد[1] فالله لا يقبل من الدين إلا ما شرع، ولذلك من أراد أن يقبل الله حجه، وسعيه فعليه أن يتعلم المناسك أن يتعلم هدي النبي ﷺ وقد قال: خذوا عني مناسككم[2] فيعمل عملاً صحيحاً صواباً، فيكون عمله صالحاً حتى لا يرد عليه عمله، الله يقول: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك: 2] لِيَبْلُوَكُمْ ليختبركم أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: 2] ما قال: أيكم أكثر عملاً، ليست العبرة بكثرة الحج، فكم من حاج لا يزداد من الله إلا بعداً، ومقتاً، وطرداً لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا  [الملك: 2] هذا هو المعنى الذي خلق من أجله الموت، والحياة إحسان العمل، وإتقانه، ولم يقل الله : ليبلوكم أيكم أسرع عملاً، قد يجد الإنسان، ويجتهد، ويشتط ليصل قبل الناس إلى عرفة، ثم ماذا؟ أنت في عبادة، ما حططت رِجلاً، ولا رفعت أخرى إلا كتب لك ذلك، أنفاسك مكتوبة، وتعبك محسوب، كما قال النبي ﷺ لعائشة - رضي الله عنها - لما قالت له يا رسول الله يصدر الناس بنسكين، وأصدر بنسك؟ فقيل لها: انتظري فإذا طهرت فاخرجي إلى التنعيم فأهلي، ثم ائتينا بمكان كذا، ولكنها على قدر نفقتك، أو نصبك[3] على قدر التعب، فليست العبرة أن تصل قبل الناس، ثم تأتي، وتتباهى إذا رجعت؛ لأنك استطعت أن تصل إلى مزدلفة بعشر دقائق، أو إنك استطعت أن تكتشف طريقاً سالكوه قليل، وتخلصت من كثير من الزحام، فوصلت، والناس لم يصلوا إلى مزدلفة بعد، ثم ماذا؟ إن كان ذلك عند الله مقبولاً فلا بأس، لكن إن كان عملك مردوداً، وحجك غير مبرور فما الفائدة أن تصل قبل الناس، أو أن تصل في آخرهم؟ هل هذا هو المعنى الذي من أجله تعبدنا الله بالحج؟ فكر، وصحح قصدك، ونيتك؛ وليكن شغلك في نفسك، والتفت إلى إصلاح عملك، وتخلص من ذنوبك.
والنبي ﷺ يقول: خذوا عني مناسككم فعلمنا ﷺ كيف نحج؟ وكيف نسير؟ وكيف نتمهل؟ وكيف نكون مخبتين بخشوع، وانكسار، نقف في تلك المواطن؟
وهكذا أيضاً من همه تتبع الرخص، يبحث عمن يفتيه في الرمي قبل الزوال في أيام التشريق، أو في غير ذلك مما يبحث عنه كثير من الناس، من أجل أن يختصر على نفسه، لو تعلم ما أنت فيه لما فرطت هذا التفريط، المطلوب عظيم، المطلوب ليس له جزاء إلا الجنة، تريد حجة مبرورة ليس لها جزاء إلا الجنة؟ فهل يحسن مع ذلك تتبع الرخص، والاحتيال على أحكام الشرع، والالتفات على الأحكام؟ أهكذا يكون عملنا، وسعينا، وحجنا؟

  1. أخرجه البخاري في كتاب الصلح باب: إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود (9/ 201 - 2499) ومسلم في كتاب الأقضية باب: نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور (9/ 118 - 3242).
  2.  أخرجه البيهقي في السنن الكبرى في (5/ 5 - 125) وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: (7882).
  3.  أخرجه البخاري في كتاب الحج باب: أجر العمرة على قدر النصب (ج 6 / ص 293 - 1662) ومسلم في كتاب الحج باب: بيان، وجوه الإحرام (6/ 226 - 2120).
أعمال الحج فاضلة، وزمنه شريف

ووصية خامسة: وهي أن تتذكر أنك بين أيام شريفة، وأعمال فاضلة عظيمة، الزمان زمان شريف، الله يقول: وَالْفَجْرِ ۝ وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر : 1 - 2] وعامة أهل العلم سلفاً، وخلفاً على أن هذه العشر التي أقسم الله بها في عشر ذي الحجة، فأقول: جاء ذلك عن رسول الله ﷺ بإسناد حسن: إن العشر عشر الأضحى، الوتر يوم عرفة، والشفع يوم النحر[1] والله يقول: وَالْفَجْرِ ۝ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ۝ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ [الفجر: 1 - 3]  والله لا يقسم إلا بمعظم، فدل ذلك على عظمة العشر، وعظمة يوم عرفة على وجه الخصوص، وعظمة يوم النحر، وهذه كلها من العشر، ونقل على ذلك جمع من أهل العلم اتفاق المفسرين، والله يقول: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ [الحـج: 27] وهي عشر ذي الحجة، على أشهر القولين في التفسير، ونسبه بعضهم لجمهور أهل العلم.
وتعرفون ما ورد في فضائل العشر، من قول النبي ﷺ : ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه قالوا، ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه، وماله فلم يرجع بشيء[2] وفي بعض الألفاظ: العمل فيهن أفضل[3] وفي بعضها: ما من أيام يتقرب إلى الله فيها بعمل أفضل[4] وفي حديث جابر: أفضل أيام الدنيا[5] وكلها أحاديث صحيحة، وفي رواية من حديث ابن عباس: ما من عمل أزكى عند الله ولا أعظم أجراً من خير يعمله من هذه الأيام العشرة[6] العمل الصالح فيهن أحب إلى الله، يتقرب إلى الله فيها بعمل أفضل من هذه الأيام في عشر الأضحى كما جاء عن النبي ﷺ من عشر ذي الحجة، من هذه الأيام العشر.
وهنا لفتة، وهي لا سيما من لم يعتد الحج في كل عام، أفضل عمل تقوم به في هذه العشر هو الحج، ولذلك فإن أداءك للحج من اليوم الأول من ذي الحجة فتشغل أيام العشر بتلبية، وتهليل، وتكبير في تلك المقامات هو من أجل الأعمال، وأفضلها، وبالتالي ليست الغنيمة أن يختصر الإنسان حجته إلى أضيق، وقت ممكن، إنما كلما ذهب مبكراً كان ذلك أوفى في عمله إلى الله وهذه قضية لا يتفطن لها الكثيرون، ولكن هناك ملحظ، وهو من أراد المداومة على العمل الصالح لربما يشق عليه ذلك، ومن مقاصد الشارع في تكليف المكلفين بهذه الشريعة المداومة على العمل أحب العمل إلى الله أدومه، وإن قل[7] فإذا كان العبد يتجشم لوناً من العمل، لربما يسهل عليه فيبغضه ذلك بهذه العبادة فإنه يحتاج إلى إعادة نظر في طريقة تعامله معه، ومن هنا قد يقال للإنسان الذي يحج في كل عام: لربما كان الأرفق بك غير ذلك، بمعنى أن الإنسان يحج يوم عرفة، إذا كان الحج من أول يوم في عشر ذي الحجة يشق عليه، ولكن أردت التنبيه إلى هذه الملحظ الذي كثيراً ما نغفل عنه، ليس هناك عمل أفضل من اشتغالك في العشر بعمل، أو بأعمال الحج، قالوا للنبي ﷺ لما قال لهم عن فضل تلك الأيام، ولا الجهاد في سبيل الله، قال: ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه، وماله فلم يرجع بشيء[8] وفي بعض الألفاظ: إلا من عقر جواده، وأهرق دمه[9] وفي بعضها: إلا رجل عفر وجهه في التراب[10].
فالعمل في هذه العشر أفضل من الجهاد في سبيل الله، وهذا يدل على أن الأجور فيها تعظم، ولربما تضاعف كما قال بعض أهل العلم، و أيامها خير من أيام العشر الأخيرة من رمضان، فما بالك بأوله أو وسطه؟!
وقد جاء عن النبي ﷺ حينما سألته عائشة: يا رسول نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ لكنّ أفضل الجهاد، حج مبرور[11] فينبغي أن يستغل الإنسان هذه الأيام بالذكر، والتسبيح، والتهليل، والطواف، والأعمال الصالحة من صدقة، وصوم، وما إلى ذلك، كان سعيد بن جبير - رحمه الله - من التابعين إذا دخل العشر اجتهد اجتهاداً شديداً حتى ما يكاد يقدر عليه، وكان يقول: "لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر" فتعجبه العبادة، ويقول: "أيقظوا خدمكم يتسحرون لصوم يوم عرفة".
فأيام العشر يجتمع فيها أمهات الأعمال الصالحة من صلاة، وحج، وصوم، وصدقة، وذكر إلى غير ذلك، ومنها يوم عرفة الذي أقسم الله به بقوله: وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ [البروج: 3] وقد جاء عن النبي ﷺ بإسناد صحيح: الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَالْيَوْمُ الْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ[12] فما بالكم إذا اجتمع يوم عرفة مع يوم الجمعة!.
وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ ۝ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ۝ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُود [البروج: 1 - 3] هذا كله يكون في أيام العشر، أعني الشاهد، والمشهود، وذكر النبي ﷺ عرفة فقال: ينزل الله إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء، فيقول: انظروا إلى عبادي شعثاً غبراً ضاحين - ليس لهم ما يظلهم من الشمس -  جاءوا من كل فج عميق يرجون رحمتي، ولم يروا عذابي، فلم ير يوم أكثر عتقاً من النار من يوم عرفة[13] هل استشعرت هذا المعنى، وأنت في عرفة؟ وجاء عنه ﷺ : ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟[14] رواه مسلم، وفي الحديث الآخر: إن الله يباهي بأهل عرفات ملائكة السماء فيقول: انظروا إلى عبادي هؤلاء جاءوني شعثاً غبراً[15] وأما الدعاء فيه فتعرفون الحديث: خير الدعاء دعاء يوم عرفة[16]وفي حديث أبي قتادة سئل ﷺ عن صوم يوم عرفة، يعني لغير الحاج، فقال: يكفر السنة الماضية، والباقية[17] وهذا من لطف الله ورحمته بعباده، الحاج يقوم بهذا العمل الجليل، وهو الحج، فيرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ومن لم يحج يختم آخر شهر له في العام بصيام يوم يكفر سنة ماضية، وآتية، ويفتتح عامه بشهر الله المحرم، الذي صومه أفضل الصوم بعد رمضان، وفيه يوم عاشوراء يكفر سنة ماضية أرأيتم فضل الله على عباده، وعظيم أوصافه، وكرمه؟! يفتح لهم الأبواب من أجل أن يحط عنهم الأوزار، وقد جاء في حديث عقبة بن عامر عن النبي ﷺ : يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل، وشرب[18] ويوم النحر، وهو يوم الحج الأكبر على المشهور عند أهل العلم، ويدل عليه قول النبي ﷺ حينما خطب على ناقة حمراء مخضرمة فقال: هذا يوم الحج الأكبر[19] وفي حديث ابن عمر أن النبي ﷺ قال: هذا يوم الحج الأكبر ويوم النحر يجتمع فيه عيدان، عيد مكاني، يجتمع فيه المسلمون من كل حدب، وصوب في مكان واحد، وعيد زماني يدور في وقت محدد في كل سنة، وفيه الحج كله، حيث يصح الوقوف في ليلته، ويكون الرمي، والنحر، والحلق، والطواف في يومه، وقد جاء عن النبي ﷺ: إن أعظم الأيام عند الله - تبارك، وتعالى - يوم النحر، ثم يوم القر[20] اليوم الحادي عشر؛ لأن الناس يستقرون فيه في منى، هل استشعرت هذا المعنى في اليوم الحادي عشر يوم القر أعظم الأيام عند الله بعد يوم النحر، وقعد النبي ﷺ على بعيره، وأمسك إنسان بخطامه أي بزمامه، فقال لأصحابه: أي يوم هذا؟ فسكتوا، حتى ظنوا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال ﷺ: أليس يوم النحر؟ قالوا: بلى، قال: فأي شهر هذا؟ فسكتوا حتى ظنوا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس بذي الحجة؟ فقالوا: بلى، قال: فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا[21] إنما ذكر ذلك النبي ﷺ لعظم يوم النحر، كحرمة يومكم أوقاته الشريفة التي نقضي فيها هذه المناسك، هل استشعرناها؟ وهل الأعمال التي لربما يستثقلها كثير من الناس، ولربما تبرم بها الإنسان، وصدرت منه بعض الكلمات التي تذهب بحجه أعمالك التي تقوم بها منذ قصدت بيت الله الحرام، يقول النبي ﷺ : ثلاثة في ضمان الله رجل خرج إلى مسجد من مساجد الله ورجل خرج غازياً في سبيل الله تعالى، ورجل خرج حاجاً[22] فمن أراد أن يسلك هذا الطريق فليبشر بهذا الوعد، وبهذا الضمان من الله - تبارك، وتعالى -.
وقد جاء عنه ﷺ في ذكر بعض فضائل أعمال الحج، كما جاء في صحيح الجامع، وفي غيره: أما خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام فإن لك بكل وطأة تطؤها راحلتك يكتب الله لك بها حسنة، ويمحو عنك بها سيئة، وأما وقوفك بعرفة فإن الله ينزل إلى السماء الدنيا، فيباهي بهم الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي جاءوني شعثاً غبراً من كل فج عميق، يرجون رحمتي،  ويخافون عذابي، و لم يروني فكيف لو رأوني؟! فلو كان عليك مثل رمل عالج، أو مثل أيام الدنيا، أو مثل قطر السماء ذنوباً غسلها الله عنك، وأما رميك الجمار فإنه مدخور لك، وأما حلقك رأسك فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة، فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك[23] هل استشعرت هذا المعنى؟ أي فضل أعظم من هذا؟ هل استشعرت هذا، وأنت في سفرك إلى الحج؟ أو عند طوافك في البيت؟ أو عند حلقك، وتقصيرك؟ أو عند رميك للجمار؟ أو حينما تلبي؟ ما من مسلم يلبي إلا لبى من عن يمينه، أو شماله من حجر، أو شجر، أو مدر، حتى تنقطع الأرض من ها هنا، وها هنا[24] ما أهل مهل قط، ولا كبر مكبر قط إلا بشر قيل: يا رسول الله بالجنة؟ قال: نعم[25].
وكان ابن عمر يزاحم على الركنين، فسئل عن ذلك فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن مسحهما كفارة للخطايا[26] وسمعته يقول: من طاف بهذا البيت أسبوعاً - يعني سبعة أشواط - فأحصاه كان كعتق رقبة وسمعته يقول: لا يضع قدماً، ولا يرفع أخرى إلا حط الله عنه خطيئة، وكتب له بها حسنة[27] فربما يعتبر الإنسان الطواف لا سيما من السطح في وقت طواف الإفاضة، أو الوداع لربما يعتبر ذلك عناء يريد التخلص منه، ويتمنى أنه لو رخص له في تركه، هل استشعرت هذا المعنى، وهذا الأجر عند الله ؟
الحلق، وقد سمعتم بعض ما فيه، فقد قال النبي ﷺ : اللهم اغفر للمحلقين، اللهم اغفر للمحلقين، اللهم اغفر للمحلقين ثلاث مرات، وهم يراجعونه في كل مرة والمقصرين[28] فكان يردها ﷺ ثلاثاً: وللمحلقين.
وأما صلاتك في المسجد الحرام فكل صلاة عن مائة ألف صلاة، وكثير من أهل العلم يقول: ذلك لا يختص بالمسجد، بل في كل الحرم، ومنى من الحرم، ومزدلفة من الحرم.

  1.  أخرجه أحمد (29/ 36 - 13987).
  2.  أخرجه البخاري في كتاب العيدين باب: فضل العمل في أيام التشريق (1/ 329 - 926).
  3.  أخرجه أحمد (2/ 167 - 6559) وقال شعيب الأرنؤوط: (صحيح لغيره، وهذا إسناد حسن في الشواهد).
  4.  أخرجه الطبراني في الكبير (3/ 10 - 194).
  5.  أخرجه البزار عن جابر، وصححه الألباني: في صحيح الجامع حديث رقم : (1133).
  6.  أخرجه البيهقي في شعب الإيمان في تخصيص أيام العشر من ذي الحجة بالاجتهاد بالعمل فيهن (8/ 266 - 3594).
  7.  صحيح مسلم في كتاب صفة القيامة، والجنة، والنار باب: لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى (ج13/ص 438 - 5043).
  8.  أخرجه البخاري في كتاب العيدين باب فضل العمل في أيام التشريق (1/ 329 - 926).
  9.  أخرجه الطبراني في الأوسط (7 - 96696) والصغير (2/ 121 - 889).
  10.  أخرجه أبو يعلى (4/ 69 - 2090) و قال الألباني: "صحيح لغيره" صحيح الترغيب، والترهيب (2/ 15).
  11.  أخرجه البخاري في كتاب الحج باب: فضل الحج المبرور (2/ 553 - 1448).
  12.  أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن باب، ومن سورة البروج (ج11/ص169 - 2362) وحسنه الألباني في صحيح الجامع:حديث رقم: (8200).
  13.  أخرجه ابن حبان في كتاب الحج باب الوقوف بعرفة، والمزدلفة، والدفع منهما (16/207 - 3926) وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب، والترهيب (1/ 185 - 738).
  14.  أخرجه مسلم في كتاب الحج باب: في فضل الحج، والعمرة، ويوم عرفة (ج 7 / ص 70 - 2402).
  15.  أخرجه أحمد (ج 14 / ص 330 - 6792) وصححه الألباني في صحيح الجامع: حديث رقم: (1868).
  16.  أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات باب: في دعاء يوم عرفة (ج 12 / ص 8 - 3509) وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (ج 8 / ص 85) المشكاة (2598) التعليق الرغيب (2 /242) الصحيحة (1503).
  17.  أخرجه مسلم في كتاب الصيام باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصوم يوم عرفة، وعاشوراء، والاثنين، والخميس (ج6/ص56 - 1977).
  18.  أخرجه أبو داود في كتاب الصيام باب صيام أيام التشريق (1/ 735 - 2419) والترمذي في كتاب الصوم باب ما جاء في كراهية الصوم في أيام التشريق (3/ 143 - 773) والنسائي في كتاب مناسك الحج النهي عن صوم يوم عرفة (5/ 252 - 3004) وأحمد (4/ 152 - 17417) وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2/ 458 - 2114).
  19.  أخرجه البخاري في كتاب الحج باب الخطبة أيام منى (ج 6 / ص 229 - 1626).
  20.  أخرجه أبو داود في كتاب المناسك باب في الهدي إذا عطب قبل أن يبلغ (ج 5/ص94 - 1502) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (ج4/ص 265).
  21.  أخرجه البخاري كتاب العلم باب قول النبي ﷺ : رب مبلغ أوعى من سامع (ج 1 / ص 118 - 65 ) وفي كتاب الحج باب الخطبة أيام منى (ج 6/ص226 - 1623) وفي كتاب الأدب باب قول الله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ إلى قوله: فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (ج 18 / ص473 - 5583) وفي كتاب الفتن باب قول النبي ﷺ : لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض (ج 21 /ص469 - 6551) ومسلم في كتاب القسامة، والمحاربين، والقصاص، والديات باب تغليظ تحريم الدماء، والأعراض، والأموال (ج 9 / ص 33 - 3180).
  22.  أخرجه الحميدي (ج 2/ ص 417 - 1139) وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: (3051).
  23.  أخرجه الطبراني في الكبير في (3/ 11 - 56) وحسنه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: (1360).
  24.  أخرجه الترمذي في كتاب الحج باب ما جاء في فضل التلبية، والنحر (ج 3 / ص340 - 758 ) وابن ماجه في كتاب المناسك باب التلبية (ج 8 / ص 478 - 2912) وصححه الألباني في صحيح الجامع: حديث رقم: (5770).
  25.  أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (ج17/ص79 - 8003) وقال الألباني: (حسن لغيره) انظر صحيح الترغيب، والترهيب (ج2/ص 11 - 1137).
  26.  أخرجه الترمذي في كتاب الحج باب ما جاء في استلام الركنين (ج4/ص58 - 882) وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (ج2 /ص 459).
  27.  أخرجه الترمذي في كتاب الحج باب ما جاء في استلام الركنين (ج4/ص58 - 882) وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: (6380).
  28.  أخرجه البخاري في كتاب الحج باب الحلق، والتقصير عند الإحلال (ج 6/ص211 - 1613) ومسلم في كتاب الحج باب تفضيل الحلق على التقصير، وجواز التقصير (ج 6 / ص 439 - 2295).
الحج فرصة للتغيير

وصية سادسة: وهي أن الحج فرصة للتغيير، والموفق من وفقه الله في الحج يرى الإنسان أخلاط الناس، فيرى الفقير، فيعرف نعمة الله عليه، فيكون حامداً على الغنى، ويرى المقعد فيعرف عافية الله التي عافاه بها، فأصح بدنه، فيكون شاكراً يسخر جوارحه في طاعة ربه، ومليكه ويرى الجاهل فيعرف نعمة الله عليه بالعلم، ويرى العامل، والعابد، والمنفق، ويرى من ينشط في طاعة ربه - تبارك، وتعالى - فيدرك بذلك تقصيره، وعجزه، وضعفه يرى الناس يتسابقون في البذل يتقربون إلى الله بأموالهم، وبألوان التقربات المالية، والبدنية فتنشط نفسه لعبادة الله ويعرف تقصيره، إذا بقي الإنسان مع قوم ضعفاء لربما يظن أن حاله على استواء، وأنه لم يبدر منه تقصير؛ لكن حينما يختلط بغيره، ويرى فرقاً شاسعاً بينه، وبين هؤلاء الذين، وهبهم الله ما وهبهم، فإنه يعرف قدره، ويكتشف ضعفه.

ثم ليست الأحلام في حال الرضا إنما الأحلام في حال الغضب

تبرز أخلاق الإنسان عند المحك، في الزحام، ووقت الشدة، فربما كشر الإنسان عن أنيابه، واختفت بسمته، وذهبت مجاملته، فظهر على حقيقته التي لا يواريها شك، فتكشفت نفسه، وتبدت عن ضعف شديد لربما كان يخفى عليه، فضلاً عمن خالطه من أصحابه، فالحج فرصة كبيرة جداً لترويض النفس على العفو، والصفح، والحلم، والغفر، والشكر، والتحمل، والرضا، اجعل هذا في نيتك، واعقد عليه عزمك قبل أن تخرج، تجد أثر هذا القصد في سلوكك، وحالك، وعملك، الإنسان ينسى كثيراً في وقت الشدة حينما يختلط بالزحام ينسى نفسه، فلربما بدر منه ما لا يليق من الأقوال، والأعمال التي تنقصه عند الله عليك أن تضع في اعتبارك أن تحج حجة سليمة تغير فيها حالك، فتتوب إلى الله توبة نصوحاً، فترجع بوجه جديد، وعمل جديد إذ أن الحج المبرور كما قال بعض أهل العلم هو الذي لا يخالطه إثم هو الذي يرجع صاحبه بوجه غير الوجه الذي ذهب به، لربما كان الإنسان مضيعاً للصلاة لا سيما صلاة الفجر، فيرجع بحال جديدة، ولربما كان معاكساً لشيء من الشهوات فيرجع بوجه جديد، ولربما كان الإنسان عاقاً لوالديه فيرجع، وهو في غاية البر، ولربما كان الإنسان يحمل أخلاقاً شرسة، فيرجع بأخلاق طيبة، يرحم الصغير، ويوقر الكبير، ويعين الضعيف، ولا يحقر أحداً، ولا يتكبر على إخوانه، فيكون مخبتاً متدللاً متواضعاً لله ارجع بوجه آخر، غير نفسك، غير قلبك، غير حالك.
قد يحج الإنسان ملأها الغرور، والتعالي، والترفع حتى كأنه قد وصل، كأنه قد حط رحله في الجنة، وأما الناس فهم جهلة مسرفون على أنفسهم مذنبون لا يعرفون أداء المناسك، فهذه النفس نفس مريضة، تحتاج إلى مداوة، وعلاج، وقف مفرح بن عبد الله بن الشخير، وبكر المزني - رحمهما الله تعالى - في عرفة فقال أحدهما: "اللهم لا ترد أهل الموقف من أجلي" وقال الآخر: "ما أشرفه من موقف، وأرجاه لولا أني فيهم" انظر كيف يزرون على أنفسهم، وهم الأئمة الكبار العباد؟ فأنت، وأنت تمشي في جموع الحجيج، وأنت تقف بعرفة، أو تبيت بمزدلفة كيف تنظر إلى نفسك، وإلى الناس من حولك؟
وأما الفضيل بن عياض - رحمه الله - فوقف بعرفة، والناس يدعون، وهو يبكي بكاء الثكلى المحترقة، قد حال البكاء بينه، وبين الدعاء، فلما كادت الشمس أن تغرب رفع رأسه إلى السماء، وقال: "وسوأتاه منك، وإن عفوت" مستحي من تقصيره، وذنوبه، وهو الفضيل بن عياض! أين هذا ممن يتمدد في يوم عرفة فينام؟! أو حال الآخر، وقد سمعت ذلك بأذني يسحب صاحبه إلى الطريق، ويقول: هيا لنقطع الوقت، يتمشون في شوارع عرفة يوم عرفة لنقطع الوقت، لو كان هذا في منافسة في أمور الدنيا هل يقال ذلك؟
يقول ابن المبارك - رحمه الله - : "جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة، وهو جاثٍ على ركبتيه - سفيان الثوري جاثٍ على ركبتيه - وعيناه تهملان، فقلت له: من أسوأ هذا الجمع حالاً؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر لهم" المغرور، والمعجب بنفسه، وبعمله، الذي يحتقر الناس، ويستهزأ بهم، يذكر كل من دخل، وخرج ألواناً من الطرف، والمفاكهة لأصحابه فيمن رآهم في طريقه من إخوانه المسلمين، فيضحك على هذا، ويسخر من هذا، وقد قال بنو إسرائيل لموسى ﷺ : أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة: 67] قال: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين فدل ذلك على أن الذي يستهزأ بالناس، ويسخر منهم من غير موجب أنه جاهل؛ ولكن المشكلة أن الإنسان لا يدري أنه جاهل، بل يظن أنه فوق الجميع.
ونظر الفضيل بن عياض إلى تسبيح الناس، وبكائهم عشية عرفة فقال: "أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقاً - يعني سدس درهم - أكان يردهم؟ قالوا: لا، قال: والله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق" يعني يرجو للمسلمين رحمة الله لا يحتقر عملهم، ودعائهم، وحجهم، ومناسكهم.
حدثني أحد الإخوة عن رجل يعرفه قد حج، ورجع فسألته بعدما رجع فقال: ذهبنا، وجلسنا في عرفة، نصف نهار، ثم نمنا في مزدلفة، ثم أتينا إلى منى، وجلسنا فيها يومين، ولم أدر لماذا نصنع ذلك؟ أهذا حج؟ أهكذا يكون العبد؟!
وآخر قال في برنامج أذيع على قناة من القنوات، قال: إن الذهاب، والطواف في الكعبة، واستلام الحجر، والذهاب إلى عرفة، ومزدلفة لون من ألوان الوثنية، ويقول: الشيطان في قلبك لست بحاجة إلى رمي الجمار، يقول هذا في برنامج أذيع في عشر ذي الحجة، وهذا رجل يحسب عند أتباعه على أنه من الدعاة إلى الله، ومن الإسلاميين كما يقال، يقول هذا الكلام في برنامج يسمعه المؤمن، والكافر، أهكذا يكون نظر العبد إلى هذه الأعمال الجليلة؟!
أقول: فلتكن مخبتاً منكسر القلب، وغير قلبك، وحالك، وعملك، وحسن أخلاقك، صاحب الخلق السيء معذب، ومن يحتك به معذب، أول من يعذب بسوء الخلق هو صاحبه، تجده دائماً في حالة من التوتر، والتجهم، والقلق، ابتسامته لا ترى، وينظر إلى الناس شزراً، وهو يوصل ألوان الأذى، والكلام الذي يجرح إلى العظم دون أن يرعوي، أو يحسب حساباً لهذه الكلمات التي يتفوه بها.
غير أخلاقك لن تخسر شيئاً، حسن الخلق مجاناً، والله يجزي عليه أفضل الجزاء إن من خياركم أحسنكم أخلاقا[1] ما شيء أثقل في ميـزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن[2] أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً[3] وخياركم خياركم لنسائهم[4] إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم[5].
والسفر فيه عناء، والحج فيه عناء كثير فإذا اجتمع معه سوء الخلق فإن ذلك يتضاعف، كم من امرأة طلقها زوجها، وقد ذهب معها إلى الحج، أو العمرة ساءت أخلاقه عليها، بل قالت إحدى النساء: بأنها حجت حجة مضنية حين كان زوجها يكثر من لومها، وعتابها، فكانت معها صغيرة تبكي دائماً، الناس يسألون الله الجنة، ويعوذون به من النار، وأنا لا أفتأ أقول: اللهم لا تقبل هذه الحجة بسبب ما رأت من سوء التعامل، فلا تكن عذاباً على من معك، هي ساعات، وأيام قليلة، وهؤلاء الذين معك من أهلك، أو رفقة هم أولى الناس ببرك، وإحسانك إن كانوا الأهل خيركم خيركم لأهله[6] خياركم خياركم لنسائهم[7] المرأة ضعيفة فهي بحاجة إلى رعايتك، وإحسانك، وإذا غضبت فكما أوصى النبي ﷺ فاسكت، جاء ذلك في عدد من الأحاديث وإذا غضب أحدكم فليسكت[8] فاسكت، توضأ اجلس استعيذ بالله من الشيطان، أما أن ينظر الإنسان بعين ترمي الشرر، ويتكلم بكلام كله وعيد، وتهديد، وربما شتم نفسه، واليوم الذي جاء به مع هذه المرأة الضعيفة المسكينة، الناس يطوفون يسألون الله وهو يقرعها، ويلومها، ويشتمها أهكذا؟!
وأما الرفقة فالله يقول: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ [النساء: 36] والصاحب بالجنب الرفيق في السفر، فله حق خاص على من معه، ثم أيضاً تذكر أن سوء الخلق هذاا لن يغير من الأمر شيئاً، هل تتحول الأتعاب إلى راحة بسوء الخلق؟ هل سينتهي الزحام بسوء الخلق؟ والله ما عرفوا عنك هباءة بين هذه السيارات، هل سينفرج صحن الحرم عنك حين يسوء الخلق؟

رأيت رجلاً في صحن الحرم الناس يخرجون، أدركتهم الصلاة، وهم في الطواف، فكانوا يمرون به، فكلما مر به رجل جمع يده فوكزه، وكزة قوية، وهو يصلي.
فأقول: سوء الخلق لن يغير من حالك شيئاً، بل سيرديك، وتكسب أوزراً، وتخرج بمذمة، وينقص ذلك عملك، وحجك فما الفائدة؟ ما الفائدة من سوء الخلق؟ هذا الحج صفحة مطوية كم مضى من حجة عبر السنين؟ كثير، أولئك الذين حجوا، وقد ساءت أخلاقهم، وتوترت نفوسهم، وعذبوا من كان معهم، الآن لو سئل هل تودون أن يكون ذلك مثلكم في تلك الحجة، والعمل؟ فربما يستحي الإنسان من نفسه، هي أوقات قصيرة ستذهب، وتزول، وتنقضي فاصبر قليلاً، وهذا الزحام الشديد الذي تراه سيأتي، وقت قصير فتجد هذه الطرقات لا يمر بها أحد، هذه الأماكن المكتظة في منى يتنافس الناس فيها على الشبر الواحد ليجلس فيه في الحج، إذا جاء اليوم الثالث عشر صارت موحشة، ويعرف هذا من جرب التأخر إلى اليوم الثالث عشر.
فالمقصود أن ذلك سيكون وقتاً يسيراً، ثم ينقضي، فعليك بالصبر، والعفو، والحلم، والصفح، والله يقول: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 134] خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199] وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى: 43] والنبي ﷺ يقول لأشج عبد القيس: إن فيك خصلتين يحبهما الله، الحلم، والأناة[9] والرجل الذي قال لرسول الله ﷺ أوصني، قال: لا تغضب رددها مراراً قال: لا تغضب[10] إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف[11] إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينـزع من شيء إلا شانه[12] من يحرم الرفق يحرم الخير كله[13] إذا أراد الله بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق[14] التوأدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة[15] فهذه كلها أحاديث ثابتة صحيحة عن النبي ﷺ : أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بِالْإِيضَاعِ[16] أي الإسراف.
انظر إلى حال الناس، وهم ينطلقون من عرفة، أمر هائل، لماذا ذلك كله؟ لقد كان النبي ﷺ يسير سير العنق - أي يسير سيراً رفيقاً - فإذا وجد فجوة - أي كان متسعاً غير مزدحم - نص - يعني أسرع - رواه البخاري[17].

  1.  أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب: صفة النبي ﷺ (ج 11 / ص 394 - 3295).
  2.  أخرجه الترمذي في كتاب البر، والصلة باب ما جاء في حسن الخلق (ج7/ص 284 - 1925) وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: (5632).
  3.  أخرجه أبو داود في كتاب السنة باب الدليل على زيادة الإيمان، ونقصانه (ج 12 / ص 292 - 4062).
  4.  أخرجه الترمذي في كتاب الرضاع باب: ما جاء في حق المرأة على زوجها (ج4/ص390 - 1082) وفي كتاب الإيمان باب: ما جاء في استكمال الإيمان، وزيادته، ونقصانه (ج9/ص196 - 2537) وفي مسند أحمد (ج15/ص 136 - 7095) وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: (1232).
  5.  أخرجه أبو داود في كتاب الأدب باب: في حسن الخلق (ج 12/ص420 - 4165) وصححه الألباني في المشكاة (5082).
  6.  أخرجه الترمذي في كتاب المناقب باب: فضل أزواج النبي ﷺ (ج 12 / ص 399 - 3830) وابن ماجه في كتاب النكاح باب: حسن معاشرة النساء (ج 6 / ص 119 - 1967) وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: (3314).
  7.  أخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح باب: حسن معاشرة النساء (ج6/ص120 - 1968) وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: (3265).
  8.  مسند الشهاب القضاعي (ج 3 / ص 183 - 714) وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (ج 3 / ص 449 - 1375).
  9.  أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب الأمر بالإيمان بالله تعالى، ورسوله ﷺ وشرائع الدين، والدعاء إليه، والسؤال عنه، وحفظه، وتبليغه من لم يبلغه (ج 1 / ص 107 - 24).
  10.  أخرجه البخاري في كتاب الأدب باب الحذر من الغضب (ج 19 / ص 74 - 5651).
  11.  أخرجه مسلم في كتاب البر، والصلة، والآداب باب فضل الرفق (ج 12 / ص 486 - 4697).
  12.  أخرجه مسلم في كتاب البر، والصلة، والآداب باب فضل الرفق (ج 12 / ص 487 - 4698).
  13.  أخرجه أبو داود في كتاب الأدب باب في الرفق (ج 12 / ص 433 - 4175) وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: (6606).
  14.  أخرجه أحمد (ج 49 / ص 446 - 23290) وهو في شعب الإيمان للبيهقي (ج 14 / ص 78 - 6289) بلفظ: إذا أراد الله بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق في المعاش وصححه الألباني في صحيح الجامع بدون زيادة: (في المعاش) حديث رقم: (303).
  15.  أخرجه الحاكم في المستدرك في كتاب الإيمان (ج 1/ص 209 - 200) وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: (3009).
  16.  أخرجه البخاري في كتاب الحج باب: أمر النبي ﷺ بالسكينة عند الإفاضة، وإشارته إليهم بالسوط (6/ 125 - 1559).
  17.  أخرجه البخاري في كتاب الحج باب السير إذا دفع من عرفة (ج 6/ص119 - 1555) وفي كتاب الجهاد، والسير باب السرعة في السير (ج 10 / ص 181 - 2777) وفي كتاب المغازي باب حجة الوداع (ج 13/ ص 321 - 4061) ومسلم في كتاب الحج باب: الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة، واستحباب صلاتي المغرب، والعشاء جميعاً بالمزدلفة في هذه الليلة (ج6/ص 399 - 2263).
هل تعلم إلى أين تتجه في الحج؟

الوصية السابعة: هل تعلم إلى أين تتجه؟ أنت تتجه إلى حرم الله الذي يؤخذ فيه على الهم بالمعصية وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحـج: 25] إذا هم العبد بالمعصية في حرم الله أخذه، وقد قال النبي ﷺ : إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة[1] إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات، والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة[2] فهل أدركت هذا المعنى؟ انتهاك حرمة الحرم قد تكون بتقذيره، والله قد قال لإبراهيم ﷺ : أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ [البقرة: 125] فتقذير الحرم - وترون ألواناً من هذا - مما يصدر من بعض الحجيج، أو بعض المعتمرين لا سيما في رمضان، قلة المبالاة، يأكل فيترك بقايا الطعام في الحرم، ولربما لوث الفرش، وزاحم الناس، وآذاهم، ولربما تكلم بالغيبة، والنميمة، والفحش، والباطل في حرم الله ووقع منه ما لا يليق من إخلال لحرمة الحرم من إخلال فيه، أو سرقة، أو تعدٍ على عباد الله الذين ينتهكون حرمة المسجد بأفعال متنوعة، أقل ذلك لربما المشادة، والمزاحمة، والمخاصمة على الفرش يضعها في غير ما وضعت له، من أجل أن تكون متكئاً، أو أن يحجز فيها محلاً لا يحق له أن يتحجره، ولربما استعمل الماء الذي قد وضع للشرب في غير موضعه، بل لربما غفلنا عن أمور لربما نظن أنها سهلة، تجد الفئام من الناس يأتي كل واحد يهرول، وقد أخذ أربطة من هذه الكؤوس، وجاء يكومها في محله يداريها عن الناس، أليس هذا من التعدي في الحرم؟ أليس هذا من أخذ ما لا يحل له أن يأخذه؟
أمور كثيرة جداً لربما نغفل عنها، وهي داخلة تحت الإلحاد فيه، فعظم هذه البقعة، واستحضر رقابة الله عليك، واعلم أن هؤلاء الحجاج هو وفد الله، فإياك أن تؤذيهم في حرمه.
لى آله، وصحبه.

  1.  أخرجه بهذا اللفظ مسلم في كتاب الحج باب فضل المدينة، ودعاء النبي ﷺ فيها بالبركة، وبيان تحريمها، وتحريم صيدها، وشجرها، وبيان حدود حرمها (ج7/ص 99 - 2425) وأصله في البخاري.
  2.  أخرجه البخاري في كتاب الجزية باب إثم الغادر للبر، والفاجر (ج10/ص460 - 2951).
الأجر على قدر المشقة

ووصية ثامنة: وهي أن تتذكر أن الأجر على قدر المشقة، وقد سمعتم قول النبي ﷺ لعائشة - رضي الله عنها - : ولكنها على قدر نصبك - أو قال - : نفقتك[1] الأجر على قدر المشقة، وبالتالي لا حاجة إلى التنافس في التنعم، يفتخر الإنسان أنه وفق في حملة، وفر له فيها ألوان النعيم، من كل ما لذ، وطاب، هل هذا هو المطلوب؟ الذي يحج ينبغي ألا يكون طائفاً حول نفسه، يطوف حول شهواته، يريد أن يستصحب كبرياءه، وشهواته معه في حجه، فلا يتنازل عن شيء منها، يغضب إذا تأخر الطعام، أو إذا وجد نقصاً فيه، أو فاته فيخاصم على ذلك، ويرفع صوته، ويدخل في شجار، وعراك، أو اشتباك بالأيدي، في أمور يستحي العاقل من رؤيتها، ومشاهدتها، ولا يد له فيها؛ لكنها أمور مخجلة، ومحزنة تنبئ عن نفوس حقيرة دنيئة، إذا رأيت الرجل يغضب للطعام، إذا رأيت الرجل يغضب في الطعام، ولو في بيته، فاعلم أنه يحمل نفساً صغيرة، الكبير لا تحركه هذه الأمور الصغار.
فينبغي أن تكون طائفاً لبيت الله، ولا يكون طوافك حول النفس، فخل وراء ظهرك تلك الشهوات، والمألوفات، فالحج يحتاج إلى لون من تصبير النفس، وفطامها عن كثير من إلفها، النفس تحتاج إلى ترويض، وقد جاء عن النبي ﷺ لما سئل عن الحاج من هو؟ قال: الشعث التفل[2] وقد سمعتم في الأحاديث: شعثاً غبراً[3] وقد كان عمر بن الخطاب يفرض على أهل مكة في أيام خلافته يقول: الناس يأتون شعثاً غبراً يأتون إلى مكة شعثاً غبراً، وأنتم تأتون مدهنين - يعني أن أهل مكة يأتون في اليوم الثامن يحرمون - فكان يلزم أهل مكة أن يحرموا بالحج من اليوم الأول من ذي الحجة من أجل أن يكونوا شعثاً غبراً، فأين هؤلاء من أولئك الذين لا يذهبون إلا وهم قد ضمنوا لأنفسهم غاية الترف؟ هل هذا هدف، ومقصود في الحج؟ هل هذا هو الذي يتنافس عليه المتنافسون؟ أنواع المأكولات، والحلوى، والمشروبات، وسمر لا سيما النساء إلى أذان الفجر في قيل، وقال بين أكل، وشرب، وتفكه، تارة بالطعام، وتارة بالأعراض، ثم تقول الواحدة: ما كنا نظن أن الحج بهذا الأنس، نريد أن نحج في كل عام، استأنست، وانبسطت، ولماذا لا، وهي في مثل هذا الحال؟ لكن هل هذا هو معنى الحج حقيقة؟ كم من إنسان يذهب إلى تلك البقاع، ولكنه لم يحج.

  1.  أخرجه مسلم في كتاب الحج باب: بيان، وجوه الإحرام، وأنه يجوز إفراد الحج، والتمتع، والقران، وجواز إدخال الحج على العمرة، ومتى يحل القارن من نسكه؟ (6/ 226 - 2120).
  2.  أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن باب، ومن سورة آل عمران (ج10/ص 259 - 2924) وابن ماجه في كتاب المناسك باب: ما يوجب الحج (ج 8 / ص 444 - 2887) وحسنه الألباني انظر حديث رقم: (3167) في صحيح الجامع.
  3.  أخرجه ابن حبان في كتاب الحج باب الوقوف بعرفة، والمزدلفة، والدفع منهما (16/207 - 3926) وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب، والترهيب (1/ 185 - 738).
الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة

ووصية تاسعة: تذكر أن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، فأنت تريد أن يكون الحج مبروراً، والحج المبرور من حج لله فلم يرفث، ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه[1] دعنا من الكلام الكثير، دعنا في أمور قريبة تلامس كل أحد، هل استشعرت أن النظر الحرام من الفسق؟ من حج فلم يرفث، ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، هل استشعرت هذا المعنى؟ هل استشعرت أن التعليق على الناس، والتهكم بهم من الفسق؟ هل استشعرت أن التوسع في الكلام، والجدل من غير طائل، والكلام الذي فيه فحش، أو كذب، أو غيبة، أو غير ذلك أنه من الفسق؟ بمعنى أن الحج قد لا يكون مبروراً من حج فلم يرفث، ولم يفسق، فاحفظ عينيك، ولسانك من أجل هذا أردنا أن نقول هذا الكلام قبل الحج، لا بد من التذكير بهذه المعاني، إذا شرع الإنسان في الإحرام، ونظر ألف نظرة، ثم يسمع هذا الكلام في أيام التشريق، وقد لا يسمعه إلا إذا رجع فما الفائدة؟
كم سمعنا من إنسان يقول: أريد أن أحج حجة ثانية، هل يمكن أن تكون الثانية هي حجة الإسلام؟ هيهات، الحجة الأولى هي التي تعتبر حجة الإسلام، أياً كانت ممن خالطها من الفسق، والآثام، فلا تخاصم، ولا تجادل، ولا يقع منك معصية بغيبة، أو نميمة، أو فحش، أو نظر محرم، أو غير ذلك.

  1.  أخرجه البخاري في كتاب الحج باب فضل الحج المبرور (ج 5 / ص 400 - 142) وفي باب قول الله تعالى: فلا رفث (ج 6 / ص 344 - 1690) وفي باب قول الله : ولا فسوق، ولا جدال في الحج (ج 6 / ص 346 - 1691).
الحج إما أن يكون مقبولاً، أو مردوداً

الوصية الأخيرة:
تذكر جيداً أنه لا يخلو حالك من أحد أمرين:
إما أن يكون الحج مقبولاً مبروراً، نسأل الله أن يجعلنا، وإياكم جميعاً كذلك إخواناً مسلمين، وأن يقال: انصرفوا مغفوراً لكم، وأن تحط عنا الأوزار، فإذا كان الأمر كذلك فلا حاجة لأن تسود صحيفتك بعد الحج من جديد، فليس هذا من شكر النعمة، بعد أن حط الله عنك الخطايا، والذنوب تعود لتسود صحائفك؟!
وأما إذا كانت الثانية: وهي الخيبة، فيرجع الإنسان، وقد حرم، فيرفع يديه: "لبيك، وسعديك" فيقال: لا لبيك، ولا سعديك، فهذه هي الطامة، فمثل هذا ينبغي أن يبكي على نفسه طويلاً، يبكي على قلبه، وعلى ذنوبه، وعلى إسرافه في أمره، أن حرم، ورد، وطرد، فلا حاجة في أن يرجع إلى سيرته الأولى من جديد، عليه أن يعاود التوبة، ويستغفر ربه، ويبكي كثيراً على نفسه، ومن ثم فإنه يتعين على هذا، وهذا أن يرجعوا بحال أخرى بعد الحج، رجاء أن يبدل الله ما بهم.
لما أحرم الحسن بن علي - رحمه الله - وهو من هو؟ سيد شباب أهل الجنة، حج خمس عشرة حجة على قدميه، والنجائب تقاد بين يديه ما اشترط مركباً خاصاً فارهاً، حج على قدميه، والنجائب تقاد بين يديه، لما أحرم بالحج، واستوت به راحلته اصفر لونه، وارتعد، ولم يستطع أن يلبي، فقيل له: ما لك؟ قال: أخشى أن يقول لي: "لا لبيك، ولا سعديك" هل قلوبنا وصلت إلى هذه المراتب؟
المقصود أنه ينبغي على الإنسان أن يعزم أن يرجع بوجه جديد، وبحال جديدة بعد الحج، ولربما لم يعتد أهله منه ذلك الإحسان، والإفضال، والخلق الحسن لا ضير، المصيبة أن يستغرب منا حسن الخلق، من الناس من يستغرب منه الكلمة الطيبة، يستغرب أبوه أن يقبل رأسه إذا دخل، أو خرج، يستغرب منه البر، هذه مصيبة، ولربما يستحي بعض الناس يقول: لم يعتد أبواي هذه الملاطفة فماذا سيقولون؟ نقول: نعم، اعتادوا منك الجفاء، والغلظة، والعقوق ألا تريد أن تغير؟! ينبغي أن يكون المستغرب منك هو الجفاء، والإساءة، استغرب فلان ليس من عادته، فمن الذي كدره في هذه اليوم فسمعنا منه كلمة على غير المعتاد؟ لربما فيها شيء من الشدة، أو الغلظة؟
هذه عشر وصايا قصدت بها نفسي أولاً، وقصدت بها إخواني.
وأسأل الله أن تكون سبباً لحج مبرور، ولعمل مشكور، وأن يتقبل منا، ومنكم، كما بلغنا هذه الأيام الشريفة أن يبلغنا بيته الحرام، وأن يجعل ذلك ليس آخر عهدنا بالدنيا، وأن يقينا، وإياكم من الفتن ما ظهر منها، وما بطن، وأن يحفظنا، وإياكم بالإسلام قائمين، وبالإسلام قاعدين، وبالإسلام راقدين، وأن يثبتنا، وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد.

وصلى الله، وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه.

مواد ذات صلة