الثلاثاء 09 / رمضان / 1445 - 19 / مارس 2024
التدمرية - القواعد 01-16
تاريخ النشر: ١٩ / شوّال / ١٤٣٢
التحميل: 10586
مرات الإستماع: 7204

التعريف بكتاب طريق الوصول

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فهذا الكتاب المبارك جمعه الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السّعدي التميمي المتوفى سنة 1376هـ، الشيخ -رحمه الله- معروفٌ لديكم جميعاً، ولا حاجة للكلام على ترجمته.

وهذا الكتاب جمعه الشيخ -رحمه الله- وانتقاه من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وكتب الحافظ ابن القيم، وكأنه -رحمه الله- في البداية أراد أن يجمع الفوائد والضوابط، والقواعد وما إلى ذلك من كتب شيخ الإسلام، ثم بعد ذلك أضاف إليها ما انتقاه من كتب الحافظ ابن القيم، وقد بلغ عدد الكتب التي انتقى منها هذا الكتاب ستين كتاباً، أربعون لشيخ الإسلام ابن تيمية، وعشرون للحافظ ابن القيم، وبلغ عدد القواعد والضوابط والفوائد التي انتقاها ألفًا وثماني عشرة قاعدة، أو ضابطًا، أو فائدة، منها:

ثمانمائة وخمس وعشرون لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، ومائة وثلاث وتسعون للحافظ ابن القيم، والشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمة الله عليه- كانت له عناية بكتب هذين الإمامين، ولو قال قائل بأن الشيخ -رحمه الله- اطلع على كتب شيخ الإسلام وابن القيم ودرسها وفهمها، فأثمر ذلك ما رأيناه من مصنفات تحمل علماً جمًّا بعبارة سهلة، لو قال قائل بأن الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- قرّب إلينا علوم شيخ الإسلام، وابن القيم بعبارة نفهمها يسيرة لما أبعد في قوله هذا.

الشيخ -رحمه الله- كما هو معلوم- يتميز بسهولة عبارته، وبعده عن التكلف، وظاهر من كلام الشيخ في مقدمته وخاتمته أنه يعتز بهذا الكتاب، وهو يدل أيضاً على أن الشيخ عبد الرحمن -رحمه الله- مع كثرة ما كان فيه من الاشتغال بالتدريس إلا أنه كان دائم الاطلاع، ففي ذلك الوقت لربما هذه هي الكتب التي طبعت للشيخين -رحمهم الله-، فقرأها، وليست قراءة عابرة، بل استخرج منها هذه الضوابط والفوائد.

وهذه الضوابط والفوائد والقواعد التي استخرجها يحرص الشيخ على أن يوردها بعبارة قائلها، ولكنه يختصر في ذلك، ولربما يتصرف، فهذا الذي نجده: الأصل من عبارة شيخ الإسلام أو الحافظ ابن القيم، ولكنه لم يلتزم ذلك، وإنما كان يتصرف في بعض العبارات إذا دعت الحاجة لذلك.

ثم أيضاً هذه الضوابط التي نشاهدها ونجدها لربما في سطرين، أو في أربعة، أو في عشرة قد تكون في فصول ممتدة، فأحياناً يكون هذا الضابط كما هو بحجمه الذي نشاهده، وأحياناً يكون أوسع من ذلك في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، أو ابن القيم، فأحياناً يكون هذا الضابط عبارة عن تلخيص لفصول، وليس لفصل واحد، وأحيانا يكون تلخيصاً لفصل.

وأحياناً يكون تلخيصاً لكلامٍ طويل في صفحات فلخصه، وأحياناً يذكر عبارة شيخ الإسلام مثلاً، أو ابن القيم في ذكر الأنواع مثلاً، أو الأقسام، ويترك ما بين ذلك من الشواهد والأمثلة والاستطرادات التي لربما كانت طويلة، أو قصيرة، فيورد الأنواع، أو الأقسام دون التطويل في ذكر الشواهد أو الأمثلة، ولربما الاستطرادات، ولربما يزيد الشيخ عبد الرحمن -رحمة الله عليه- عبارة أو جملة يتضح بها المراد، ولربما كان الكلام يتصل بكلامٍ قبله لا يتضح إلا به فيورد جملة ليرتبط المعنى، ولربما نقل جملة من كلام متقدم فألحقها بهذا الكلام المتأخر الذي نقله، إلى غير ذلك من ألوان التصرفات.

وهذه القضايا التي يذكرها لم يرتبها الشيخ -رحمه الله- على الأبواب مع أنها تتعلق بأبواب شتى، منها ما يتصل بالاعتقاد، ومنها ما يتصل بأصول الفقه، ومنها ما يتصل بالتفسير، ومنها ما يتصل بالأخلاق والآداب، ومنها ما يتصل بالأعمال القلبية، ومنها ما يتصل بالعلم وما أشبه ذلك، فهي في أبواب شتى بحسب الكتاب الذي ينقل منه، ولهذا لا يمكن أن يقاس فيقال: إن هذه القواعد ذات طابع معين في المستوى، فمثلاً: أول ما يقابلنا في هذا الكتاب القواعد التي استخرجها، والضوابط والفوائد من كتاب "التدمرية"، ثم كتاب "الإيمان"، ومعلوم أن هذه الكتب هي من أصعب الكتب لشيخ الإسلام ابن تيمية.

ثم بعد ذلك يأتي كتاب "العبودية" لشيخ الإسلام، وهو ليس بهذه المثابة مقارنة بكتاب "التدمرية" مثلاً، فالكتب متفاوتة، ومن ثَمّ فإن هذه الفوائد من حيث الصعوبة والسهولة هي متفاوتة، ثم أيضاً هي متفاوتة في كونها قواعد، فكثير مما في هذا الكتاب ليس من قبيل القواعد بالمعنى المعروف، أو الضوابط بالمعنى المعروف، وإنما يقال: هي من قبيل الفوائد المنتقاة، لكن انتقاها عالم، وقضية الانتقاء قضية نسبية يتفاوت الناس فيها، فيمكن لواحد أن يقرأ في كتب هذين الإمامين فيستخرج من القواعد والضوابط والفوائد مجلدات.

ويمكن لآخر أن يستخرج دون ذلك، فالمسألة تتفاوت، هي قضية نسبية، ولذلك تجد في كتب هذين الإمامين من الضوابط والفوائد ونحو ذلك ما لا يقل أهمية عما نقله الشيخ -رحمه الله-، ولكن هذا اختياره، ونحن نقرأ ما اختاره وجمعه في هذا الكتاب.

وهذا الكتاب يوجد منه نسختان خطيتان، إحداهما كاملة، والأخرى ناقصة، والعنوان في النسختين الخطيتين هكذا (بلوغ المنى والسُّول في القواعد المنوعة والضوابط والأصول لشيخ الإسلام أحمد ابن تيمية وشمس الدين ابن القيم الجوزيه)، وأما العنوان الذي تجدونه على المطبوع فليس في النسخ الخطية، مع أني لا أستبعد أن يكون هذا العنوان هو من وضع الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله-؛ لأنه يتفق في تركيبه وأسلوبه وصياغته مع عناوينه التي يضعها لكتبه عادة، (طريق الوصول إلى العلم المأمول بمعرفة القواعد والضوابط والأصول)، هذا أسلوبه في وضع العنوانين، فيمكن أن يكون قد غَيَّر، والشيخ -رحمه الله- كان يغير في كتبه كعادة أهل العلم.

وكان من عادة الشيخ -رحمه الله- إذا ألف كتاباً أن ينسخ منه نسختين، وهذا تجده في عامة كتبه في التفسير وغيره، ربما نسخ ذلك بخط يده كما في النسختيْن اللتيْن بين أيدينا كلتيهما بخطه، وربما وَكَلَ إلى بعض تلامذته فكتب ذلك، وربما كُتب التاريخ على النسخة الخطية وربما لم يُكتب، والنسخة التي عندنا -النسخة الناقصة- كتبت في20 جمادى الآخرة سنة 1370هـ، والمطبوع في آخره مؤرخ أنه في شهر شعبان من سنة 1370هـ، فيمكن أن يكون قد فرغ منه في شهر شعبان، ابتدأه في شهر جمادى، بمعنى أنه لا يمكن قراءة الكتب في هذه المدة، ولكن كان يدون فشرع في جمعها من الكتب، يعني حينما كان يدونها مثلاً في أماكن خاصة، أو في أوراق، أو في دفاتر، أو في مواضعها من الكتب يشير إليها، فاستخرجها وجمعها في هذه المدة، ربما. 

وهناك فروقات بين النسختين، ولعل الإخوان معهم النسخ يذكرون فقط الفروق المؤثرة، وإلا فالأصل أن مثل هذا يُرجع فيه إلى هذه الكتب، وكنت قرأت هذا الكتاب قديماً في طبعة قديمة له، ثم رأيت في بعض المواضع ما يُشكل، كأن الاختصار يحتاج إلى شيء من التتمّات في بعض المواضع؛ ليتضح المراد، فكأن الشيخ أحيانًا يختصر أشياء هي حاضرة في ذهنه لكن القارئ لربما يحتاج ما قبلها أو ما بعدها؛ ليفهم، فكنت أريد أن نقرأ هذا الكتاب في مجلس كهذا في حدود سنة: 1414هـ، وهيأت الكتاب لذلك وعلقت عليه ولكن لما رأيت هذه المواضع بردت الهمة.

ثم بعد ذلك لما ظهرت هذه النسخ الحاسوبية -التي هي موسوعة شيخ الإسلام وابن القيم- في سنة 1418هـ أعطيت لأحد طلبة العلم نسختي فصار يتتبع ذلك، ويطلب هذه الفوائد التي كان التعرف إلى مواضعها من هذه الكتب أمنية؛ لأن جرد هذه الكتب لاستخراج هذه الفوائد أمر صعب، فصار ذلك أمرًا ميسوراً، فاستخرجها ووضع الجزء والصفحة عليها، فصار بالإمكان مراجعة هذه المواضع، فلما راجعتها وجدت أنها مختصرة من فصول أحياناً، ولذلك في مثل هذا المجلس -إن شاء الله تعالى- أرجو أن لا يكون هناك تطويل في شرح ما لا يحتاج إلى شرح، أو توضيح الواضحات، والتكثير من الأمثلة أو نحو ذلك، إنما يُذكر ما يُحتاج إليه فقط، ومن كلام شيخ الإسلام الذي قابلت هذا معه أذكر ما يُحتاج إليه مما يتضح به المراد إن كان هناك خفاء، فقط، وإلا نتجاوز ما لا يحتاج إلى توضيح، فأسأل الله -عز وجل- أن ييسر ويعين.  

القواعد والضوابط والأصول

هذا الكتاب في معرفة القواعد والضوابط والأصول، لا بأس أن أشير هنا إلى أن القاعدة في اللغة: هي الأساس، والأصل سواءً كان حسيًّا أم معنويًّا.

أما في الاصطلاح فيمكن أن يقال بأنها: حكم كلي يتعرف به على أحكام جزئياته، ولا حاجه لأن يقال هنا: هي حكم أغلبي، فإن الحكم الكلي كما يقول الشاطبي -رحمه الله- هو الذي ينطبق على جميع الجزئيات، ويصدق أيضاً على ما وُجد له استثناءات، ما يوجد به استثناءات فإنه يقال له: حكم كلي، ولا داعي للتنقير والتدقيق الذي لربما يتكلم به أهل المنطق في هذا المقام.

وأما الضابط: فضبْطُ الشيء يقولون: حِفظه بالحزم، والرجل الضابط هو الحازم، ويقولون: إن الضابط -عند من يفرق بينه وبين القاعدة-: هو ما يجمع فروعاً من باب واحد، ويأتي الفرق بينه وبين القاعدة عند من فرّق.

وأما الأصول فهي: جمع أصل، وهو ما يبنى عليه غيره.

وفي الاصطلاح يطلق على أمور منها: الراجح، والمستصحَب، والقاعدة الكلية، والدليل، كل هذا يقال له: الأصل، يقال: الأصل في ذلك قول الله كذا، يعني الدليل.

ويقال للقاعدة "الأصل في ذلك أن المشقة تجلب التيسير"، فتذكر القاعدة، "الأصل بقاء ما كان على ما كان"، فيقال ذلك للحكم المستصحَب.

وعلى الراجح فيقال: هذا هو الأصل.

الفرق بين القاعدة والضابط

بعض أهل العلم يقولون: القاعدة والضابط شيء واحد، وبعض الذين ألفوا في القواعد من الناحية العملية لم يفرقوا، وبعضهم يصرح بعدم الفرق، ومن فرّق يقول: القاعدة أعم من الضابط، القاعدة تحتها جزئيات من أبواب شتى، والضابط يتعلق بباب واحد، فمثلاً: "الأمور بمقاصدها" تدخل في كل الأبواب، هذه قاعدة، لكن "العبرة بعموم اللفظ والمعنى لا بخصوص السبب" هذه تكون من قبيل الضابط؛ لأنها تتعلق بباب واحد.

والقواعد والضوابط إذا نظرت إلى الخلاف في قبولها وردها، فإن الاختلاف في الضابط في قبوله ورده من أصله أكثر من الاختلاف في القاعدة، القاعدة يختلفون فيما يتفرع عنها، لكن الاختلاف في الضابط؛ لأنه أخص من القاعدة وأصغر، فيختلفون فيه أكثر من حيث القبول والرد، وهناك فروقات أخرى لا حاجة للتطويل في هذا، والشيخ تكلم في مقدمته على أهمية معرفة القواعد، وسيأتي كلامه.

ولأهل العلم -رحمهم الله- عبارات أيضاً مفيدة، ونافعة في بيان أهميتها، ومن ذلك ما ذكره الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله- يقول: "لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية، ترد إليها الجزئيات؛ ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات، فيتولد فساد عظيم".

والزركشي صاحب (المنثور في القواعد) يقول: "فإن ضبط الأمور المنتشرة المتعددة في القوانين المتحدة هو أوعى لحفظها، وأدعى لضبطها، وهي إحدى حكم العدد التي وضع لأجلها، والحكيم إذا أراد التعلم لا بد أن يجمع بين بيانين إجمالي تتشوف إليه النفوس، وتفصيلي تسكن إليه".

والشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- أيضاً في كتابه (الرياض الناضرة) ذكر شيئاً من هذا، يقول: "من محاسن الشريعة وكمالها وجمالها وجلالها أن أحكامها الأصولية والفروعية والعبادات والمعاملات، وأمورها كلها لها أصول وقواعد تضبط أحكامها، وتجمع متفرقاتها، وتنشر فروعها، وتردها إلى أصولها، فهي مبنية على الحكمة والصلاح، والهدى والرحمة، والخير والعدل، ونفي أضداد ذلك".

مقدمة المؤلف

الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

فاللهم اغفر لشيخنا، ولنا، وللحاضرين، والسامعين، قال الشيخ عبدالرحمن السعدي -رحمه الله- في كتابه (طريق الوصول إلى العلم المأمول بمعرفة القواعد والضوابط والأصول):

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهدِ الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:

فإنه لما كانت كتب الإمام الكبير شيخ الإسلام والمسلمين، تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية -قدس الله روحه- جمعتْ فأوعت جميع الفنون النافعة، والعلوم الصحيحة، جمعت علوم الأصول والفروع، وعلوم النقل والعقل، وعلوم الأخلاق والآداب الظاهرة والباطنة، وجمعت بين المقاصد والوسائل، وبين المسائل والدلائل، وبين الأحكام وبيان حِكَمها وأسرارها، وبين تقدير مذاهب الحق والرد على جميع المبطلين، وامتازت على جميع الكتب المصنفة بغزارة علمها، وكثرته، وقوته، وجودته، وتحقيقه، بحيث يجزم من له إطلاع عليها وعلى غيرها أنه لا يوجد لها نظير يساويها أو يقاربها، وقد مَنّ الله تعالى بنشرها في هذه الأوقات، ونفع الله بها النفع العظيم، وصار كل مصلح منها يستمد وعليها يعتمد، ومن أعظم ما فاقت به غيرها وأهمِّه وتفردت على سواها أن مؤلفها -رحمه الله- يعتني غاية الاعتناء بالتنبيه على القواعد الكلية، والأصول الجامعة والضوابط المحيطة في كل فن من الفنون التي تكلم بها.

هنا الآن يبدأ يتكلم عن أهمية القواعد، وهي الجزئية التي أشرت إليها آنفا.

قال

-رحمه الله-: ومعلوم أن الأصول والقواعد للعلوم بمنزلة الأساس للبنيان، والأصول للأشجار، لا ثبات لها إلا بها، والأصول تبنى عليها الفروع، والفروع تثبت وتتقوى بالأصول، وبالقواعد والأصول يثبت العلم، ويقوى وينمى نماء مطرداً، وبها تعرف مآخذ الأصول، وبها يحصل الفرقان بين المسائل التي تشتبه كثيراً، كما أنها تجمع النظائر والأشباه التي من جمال العلم جمعها، ولها من الفوائد الكثيرة غير ما ذكرنا.

فيما يتصل بهذا الكتاب يمكن أن نقول: هو كتاب يؤصل طالب العلم بلا شك، سواء كانت القضايا المذكورة فيه من قبيل القواعد أو الضوابط أو الفوائد، فكلها من هذا القبيل، ومعرفة الضوابط والقواعد وهذه الأمور التي من هذا القبيل هي تجمع لك المتفرق، تجمع لك الجزئيات وأشتاتها بعبارة موجزة، هذا الأصل في القواعد، فلا تحتاج دائماً في كل موضع أن يقال: هذا للوجوب، هذا للوجوب، هذا للوجوب، وإنما يكفي أن تعرف أن الأمر للوجوب، فتطبق ذلك على الجزئيات المتناثرة، فهي تلم شعثها وتحصرها بعبارة موجزة يمكن حفظها، هذا الأصل في القواعد، ثم أيضاً إن طالب العلم يطّرد في أحكامه، لا يتشتت، لا يتناقض من غير موجب. 

فهنا يأتي ويقول: هذا واجب، وفي الموضع الآخر يقول: مستحب، وفي الموضع الثالث يقول: مباح، مع أن الأصل أنه يجري على قاعدة واحدة، فإذا ضبط القواعد رُجي بعد ذلك أن يطّرد في أحكامه فلا يتشتت، ولا يحصل عنده تناقضات، فهذا من فائدة معرفة القواعد، وإن كان هذا الكتاب كما قلت: لا تفهم بالضرورة أنه بمعنى القواعد التي يسبق إليها الذهن، وقد صيغت صياغة خاصة ونحو ذلك، لا، الأمر أوسع من ذلك، والشيخ -رحمه الله- كان أبعد ما يكون عن التكلف، لم يكن الشيخ ينقر تنقيرنا إطلاقاً، حتى في النسخ التي يكتبها في الكتاب يغير، وأحياناً يغير الصياغة في النسخ الأخرى في مواضع من الكتاب، أو في كثير منه، أو في أوله، وربما جرّأ ذلك بعض من أخرج كتبه إلى التغيير فيها، فبعضهم يغير سطرًا أو كلمة أو جملة، وبعضهم يجترئ على أكثر من هذا فيلحق صفحات من عنده بكلام الشيخ، وكان الشيخ -رحمه الله- يعلم بعض ذلك ويغض الطرف عنه، يقول له تلامذته: فلان أخرج الكتاب وزاد فيه ونقص منه وتصرف فيه، الشيخ -رحمه الله- كان سهلاً، لطيفاً، كريم المعشر لا ينقِّر ولا يدقق في كثير من الأشياء، وما كان يتكلف في العبارة. 

قال -رحمه الله-: وقد يسر الله الوقوف على كتبه الموجودة، فتتبعتُ ما وجدته في كتب هذا الإمام من الأصول والقواعد والضوابط النافعة، وأثبتها في هذا المجموع، ونقلتها بعبارات مؤلفها إلا شيئاً يسيراً منها أوجب تغيير بعض الألفاظ إذا كانت القاعدة والأصل متفرقاً في كلامه غير متصل بعضه ببعض، فجمعته من متفرقات كلامه في موضع واحد، ونضطر فيه إلى التغيير اليسير الذي يوضح المعنى ولا يغيره، ولشيخ الإسلام كتاب يقال له: (قواعد الاستقامة) طالما بحثنا عنه لتحصيله من مظانه -فلم يتيسر- لكثرة فوائده، وإني أرجو أن يكون ما جمعته في هذا المجموع من كلامه في الأصول والقواعد مغنياً عن ذلك الكتاب، ومتضمناً زيادات كثيرة لا توجد فيه ولا في غيره.

كتاب الاستقامة طُبع، والكتاب يتحدث عن قضايا ويناقش أموراً لربما قد لا تصلح إلا لبعض طلبة العلم.

قال -رحمه الله-: وإني أرجو أن يكون ما جمعته في هذا المجموع من كلامه في الأصول والقواعد مغنياً عن ذلك الكتاب، ومتضمناً زيادات كثيرة لا توجد فيه ولا في غيره، وسميته: (طريق الوصول إلى العلم المأمول بمعرفة القواعد المنوعة والضوابط والأصول).

هذا في المطبوع فقد يكون هناك نسخة أرسلها الشيخ للطباعة ذكر فيها هذا العنوان، لكن الذي بين أيدينا في النسختين هو ما ذكرت.

قال -رحمه الله-: إذ هو اسم يطابق مسماه، وفيه من العلوم الجمة والفوائد المهمة ما يعرفه أهل العلم الراغبون، فرحمه الله من إمام رحم الله به المسلمين، وكان قدوة للمحققين والمصلحين.

وفي النسخ الخطية، أوفي بعضها تجد بعض العبارات التي يشيد فيها بهذا المجموع.

وهي قواعد وأصول منوعة في أصول الدين.

هذا الآن هو موضوع الكتاب، قواعد منوعة في أصول الدين يعني الاعتقاد.

قال -رحمه الله-: وفي أصول الفقه، والتفسير، والحديث، وفي أصول الأحكام، وفي أصول الأخلاق والمناظرات، والرد على أهل الباطل، ويوجد في يسير منها نوع تكرار إذا كان الأصل مهمًّا جدًّا، وكان فيه زيادة فائدة، وأسأل الله تعالى أن يكون خالصاً لوجهه، وأن يعم نفعه، ويعظم وقعه، إنه جواد كريم، رءوف رحيم.

وقد فصلت بين كل أصل وآخر، فجعلت كل أصل في أول السطر، ووضعت له رقماً مسلسلاً، وقد ألحقتها بعدما أكملتها بقواعد وأصول أخر من كتب شمس الدين ابن القيم، فبلغ الجميع ما يزيد على الألف ما بين أصل وقاعدة وضابط وكلام جامع.

يقول: وقد ألحقتها بعدما أكملتها، فكانت في البداية كلام شيخ الإسلام، وبعض العنوانين الموجودة أو بعض الكلام الموجود في مقدمة بعض النسخ الخطية يدل على هذا، أنه يتحدث عن كتب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، لكن في الخاتمة بعض الكلام الذي قد نحتاج إليه؛ ليتضح موضوع الكتاب أكثر، في خاتمة الكتاب لو قرأنا جزءًا من الخاتمة فهذا يفيد في التعرف على الكتاب أكثر، يقول: "وقد نافت -ولله الحمد- على الألف ما بين أصل، وقاعدة، وضابط جامع، وتعريف مهم، وفائدة ضرورية، وترغيب في كمال، وتحذير من نقص"، هذه ليست قواعد، "وتوجيه إلى المنافع الظاهرة والباطنة، وترهيب من المضار الدينية والدنيوية، ومخبره يغني عن وصفه، وجملة ذلك أن هذا المجموع قد انتقيته بعد التروي الكثير، وكثرة التأمل والتفكير من جميع الكتب الموجودة من كتب الشيخين، فتضمن صفوتها، واحتوى على جواهرها وغُرَرها، والحمد لله، والفضل لله".

ولسنا بحاجة أن نستدرك على الشيخ -رحمه الله-، أو نقول: ترك فائدة في الكتاب الفلاني لا تقلّ عن هذا، وهي كذا، وهي قوله كذا، انتقاها بعد التأمل وهذا كتابه، فيدرس ما فيه، والشيخ -رحمه الله- في كتابه الآخر: (القواعد الحسان في تفسير القرآن) ليس كل ما ذكر فيه أيضاً من قبيل القواعد، بل إن ما سماه بذلك يصل إلى سبعين، أو إلى إحدى وسبعين قاعدة، الذي يصدق عليه من القواعد فعلاً لربما لا يتجاوز إحدى وعشرين قاعدة.

وهناك مواضع يمكن أن تصاغ بصياغات فتلحق بالقواعد، وهناك أشياء من قبيل الفوائد، أو ما يصح أن يقال له مثلاً: قواعد قرآنية، أو من عادة القرآن كذا، إذا  ذكر مثلاً الترهيب ذكر الترغيب، أو ذكر صفات المؤمنين ذكر كذا، وهناك أشياء فوائد مستنبطة: مَن ترك مثلاً ما هو بصدده فإنه يعاقب بالاشتغال بضده، ونحو هذا، هذا كتاب (القواعد الحسان).

أصول من العقيدة المسماة بالتدمرية
قال -رحمه الله-: أصول من العقيدة المسماة بالتدمرية، قال -رحمه الله-: فلا بد للعبد أن يثبت لله ما يجب إثباته له من صفات الكمال، وينفي عنه ما يجب نفيه مما يضاد هذه الحال، ولا بد له في أحكامه أن يثبت خلقه وأمره، فيؤمن بخلقه المتضمن كمال قدرته وعموم مشيئته، ويثبت أمره المتضمن بيان ما يحبه ويرضاه من القول والعمل، ويؤمن بشرعه وقدره إيماناً خالياً من الزلل، وهذا يتضمن التوحيد في عبادته وحده لا شريك له، وهو التوحيد في القصد والإرادة والعمل، والأول يتضمن التوحيد في العلم والقول.

الآن يقول: لا بد للعبد أن يثبت لله ما يجب له من صفات الكمال، وينفي عنه ما يجب نفيه مما يضاد هذه الحال، وهذه قضية معلومة وهي عقيدة أهل السنة، نثبت لله ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله ﷺ من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، يقول: ولا بد له في أحكامه أن يثبت خلقه، وأمره، فيؤمن بخلقه المتضمن كمال قدرته وعموم مشيئته، ويثبت أمره المتضمن بيان ما يحبه ويرضاه من القول والعمل، أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف:54] فأحكامه الكونية، وما يتصل بربوبيته وقدره كل ذلك نثبته، وكذلك ما يتصل بأمره الشرعي، يثبت أمره المتضمن بيان ما يحبه ويرضاه من القول والعمل، ويؤمن بشرعه وقدره إيماناً خالياً من الزلل، وهذا يتضمن التوحيد في عبادته، هذا يرجع إلى ما قبله وهو توحيد الشرع والقدر، ويتضمن التوحيد في عبادته وحده لا شريك له، وهو التوحيد في القصد والإرادة والعمل، أي التوحيد الطلبي الإرادي الذي يقال له: توحيد العبادة، والذي يقال له: توحيد الألوهية، ويقال له: التوحيد الفعلي نسبة إلى أفعال العباد، ويقال له: توحيد القصد والعمل.

فلواحدٍ كن واحدًا في واحد أعني سبيلَ الحق والإيمانِ

إذا أردت أن تفهمها فتوحيد الإلاهية صادر منك إلى الله، يعني توحد الله بأفعالك، بصلاتك، وصيامك، بذبحك، بطوافك، بأعمالك التي تتعبد بها.

وتوحيد الربوبية هو أن توحده بأفعاله هو، فلا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله، ولا محيي إلا الله، ولا مميت إلا الله، ولا مدبر إلا الله، هذا توحيد الربوبية، فيقول: "وهذا يتضمن التوحيد في عبادته وحده لا شريك له، وهو التوحيد في القصد والإرادة والعمل، والأول.." يقصد به توحيد الربوبية والأسماء والصفات، يقول: "يتضمن التوحيد في العلم والقول"، وهذا الذي يسمونه التوحيد العلمي القولي، ويقولون له: العلمي الخبري، ويقولون له: توحيد الربوبية والأسماء والصفات، ويقولون له: توحيد المعرفة والإثبات، تثبت لله ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله ﷺ، هو توحيد علمي خبري يتوقف على الخبر، أخبرنا أنه عزيز، وأنه حكيم، وأنه يضحك، وأنه يغضب، وأنه متصف بأوصاف الكمال، فهذا موقوف على الخبر، وأما الذي قبله فهو توحيدٌ عملي، توحيد القصد والإرادة والطلب.

الإثبات مفصل والنفي مجمل
قال -رحمه الله-: والله -سبحانه- بعث رسله بإثبات مفصل ونفي مجمل، فأثبتوا لله الصفات على وجه التفصيل، ونفوا عنه ما لا يصلح له من التشبيه، والتمثيل.

بعث رسله بإثبات مفصل ونفي مجمل هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ۝ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر:22-23] هذا كله إثبات مفصل، أما النفي المجمل فكقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وهذا هو حقيقة الثناء والمدح، فإن الثناء والمدح إنما يكون بالإثبات المفصل، فــلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ نفي مجمل، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] إثبات مفصل، فالثناء الحقيقي والمدح اللائق أن يكون مفصلا والنفي يكون مجملا، فلو أردت أن تمدح أحدًا من العظماء والكبراء فقلت له كما يقول شيخ الإسلام -رحمه الله- وابن القيم، وينقله صاحب شرح الطحاوية يقول: لو قلت له: لست بزبال، ولا كناس، ولا لئيم، ولا شرير، ولا ساقط، فإنه يغضب[3]، ويقول: ما هذا المدح؟، لكن إذا قلت له: أنت كريم، فاضل، معطاء، وتذكر له أوصافًا كاملة، ثم في النفي تقول: لا يوجد في الملوك، أو الكبراء، أو العظماء، أو الرؤساء مثلك، فإن هذه هي الطريقة الصحيحة في المدح، فالذي جاء في الكتاب والسنة هو الإثبات المفصل، والنفي المجمل.

يقول: فأثبتوا لله الصفات على وجه التفصيل، ونفوا عنه ما لا يصلح من التشبيه والتمثيل، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ هذا نفي مجمل، نفي المماثلة، لا مماثلة في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.

القول في الصفات كالقول في الذات
قال -رحمه الله-: القول في الصفات كالقول في الذات، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله، فإذا كان له ذات حقيقية لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات حقيقية لا تماثل سائر الصفات.

القول في الصفات كالقول في الذات، هذه قاعدة يرد بها على من نفى الأسماء والصفات، مثل: الجهمية فهم يثبتون الذات، فنقول لهم: القول في الصفات كالقول في الذات، وهكذا المعتزلة الذين ينفون جميع الصفات يرد عليهم بهذه القاعدة، فكما أنكم تثبتون ذاتاً لا تشبه الذوات، فالمخلوق له ذات والله له ذات، فأنتم تقولون: إن ذات الله ليست كذوات المخلوقين، فنقول: أثبِتوا له أوصافاً لا تشبه أوصاف المخلوقين، فالقول في الصفات كالقول في الذات، إن قلتم: له ذات لا تشبه الذوات، فقولوا: له صفات لا تشبه صفات المخلوقين، هكذا يرد على المعتزلة والجهمية.  

القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر

قال -رحمه الله-: القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر.

وهذا يرد به على طوائف من المتكلمين كالأشاعرة والماتريدية والكُلابية وأمثال هؤلاء الذين يثبتون بعض الصفات وينفون بعضاً، سواء أثبتوا سبع صفات أو أكثر، يقولون: دلّ عليها العقل مثلاً، فنقول: القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، فإذا أثبتم له سمعاً، وبصراً، وإرادة، ومشيئة، وحياة، وكلاماً، تقولون: كل ذلك لا يشبه صفات المخلوقين، فنقول: أثبِتوا له أيضاً أن له يداً، ووجهاً، وأنه يضحك، وأثبِتوا الرحمة، والغضب وما إلى ذلك من أنواع الصفات، وقولوا مثلما قلتم في الصفات التي أثبتموها، أثبتم أن له صفات تقولون: لا تشبه صفاتنا، فالمخلوق له سمع وبصر، والله له سمع وبصر، أثبتم السمع والبصر وقلتم: لا يشبه سمع المخلوق ولا بصر المخلوق، المخلوق له إرادة، والله له إرادة، وقلتم: إن إرادة الله غير إرادة المخلوق، والمخلوق له مشيئة، والله له مشيئة، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30]، فأثبِتوا له أيضاً ما أثبته لنفسه، ونقول لكم: إن هذا الذي نفيتموه، وأثبته الله لنفسه يلزمكم، يعني حينما ينفون ذلك ويقولون: هذا تشبيه بالمخلوقين، نقول: إذن إثباتكم للصفات الأخرى هو تشبيه بالمخلوقين، فيقولون: لا، نثبتها إثباتاً لا يقتضي التشبيه على ما يليق بجلال الله وعظمته، نقول: أثبِتوا الباقي إثباتاً كذلك، فهذا يُرد به على من أثبت بعضاً ونفى بعضاً.

فنقول: القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، ولا حاجة لسرد الأدلة فيما أثبته الله من وصفٍ له وأثبته للمخلوق، وبين الصفة والصفة كما بين الذات والذات من الفرق والمباينة.

مباينة الله لخلقه
قال -رحمه الله-: فالسلف والأئمة وأتباعهم آمنوا بما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم الآخر مع علمهم بالمباينة التي بين ما في الدنيا والآخرة، وإن مباينة الله لخلقة أعظم.

يقول: "السلف : والأئمة آمنوا بما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم الآخر مع علمهم بالمباينة"، يعني علمهم بالمفارقة التي بين ما في الدنيا والآخرة، فالدنيا كما ورد عن بعض السلف ليس فيها من الآخرة إلا الأسماء، فالله حينما يذكر مثلاً الأنهار من اللبن، والعسل المصفى، أو الحور العين أو نحو ذلك فإن ذلك لا يقاس بما في الدنيا، فالأسماء وإن كانت متحدة إلا أن الحقائق متباينة غاية التباين، هذا في مخلوق ومخلوق، هل أحد يستطيع أن يقول بأن الحور العين مثل أجسامنا، ومثل الحال التي نحن عليها في الدنيا، أو أجمل نساء الدنيا؟، لا يمكن هذا.

هل يمكن أن يقال بأن الفواكه التي في الجنة مثل الفواكه التي في الدنيا؟.

أبداً، فإذا كان هذا بين مخلوق ومخلوق فكيف ما بين الخالق والمخلوق ؟!، فإذا كان الله له سمع وبصر والمخلوق له سمع وبصر إلا أن سمع الله وبصره لا يمكن أن يكون مماثلاً لسمع المخلوق وبصره، فبينهما من المباينة والمفارقة كما بين الخالق والمخلوق، فهذا الاشتراك في الاسم لكن الحقائق مختلفة تماماً، فحينما يثبت السلف لله ما أثبته لنفسه من الصفات الكاملة، أو أثبته له رسوله ﷺ فإن ذلك لا يقتضي التشبيه، أو التمثيل بحال من الأحوال.

لا تُضرب الأمثال لله تعالى
قال -رحمه الله-: والله تعالى لا تُضرب له الأمثال التي فيها مماثلة لخلقه، فإن الله لا مثل له، بل له المثل الأعلى، فلا يجوز أن يُشرك هو والمخلوقات في قياس تمثيل، ولا في قياس شمول تستوي أفراده، ولكن يستعمل في حقه المثل الأعلى، وهو أنه كل ما اتصف به المخلوق من كمال فالخالق أولى به، وكل ما ينزه عنه المخلوق من نقص فالخالق أولى بالتنزيه عنه.

هنا الشيخ -رحمه الله- يؤصل، لأن الذين نفوا أوصاف الله الكاملة في الواقع أنهم شبهوه أولاً بالمخلوقين ثم بعد ذلك عطلوا، يعني وقعوا في التمثيل أولاً أو التشبيه، ثم بعد ذلك وقعوا في التعطيل، يعني سبق إلى أذهانهم التشبيه ففروا منه إلى التعطيل، فهنا يقول: "الله -تبارك وتعالى- لا تضرب له الأمثال التي فيها مماثلة لخلقه فإن الله لا مثل له بل له المثل الأعلى"، والمثل الأعلى ما هو؟

هنا في باب الصفات هو كل كمال مطلق من كل وجه لا نقص فيه، ما اتصف به المخلوق فالخالق أولى به، هذا هو المثل الأعلى.

وهذا يذكره أهل السنة في مقام الرد على أهل البدع والكلام، لكن هل يثبتون به شيئاً من الصفات على سبيل الاستقلال لم يرد في الكتاب ولا في السنة؟

الجواب: لا، وإنما ذلك يذكر على سبيل الرد والإلزام لهؤلاء، هذه قضية نحتاج أن نتفطن لها، والأعلى هو الأفضل، والأطيب، والأحسن، والأجمل كما يقول ابن جرير[4].

يقول: فإن الله لا مثل له بل له المثل الأعلى، فلا يجوز أن يُشرك هو والمخلوقات في قياس تمثيل.

قياس التمثيل هو قياس الفقهاء، هو إلحاق فرع بأصل في حكم لعلة جامعة بينهما، كقولهم مثلاً: لو كان الله متصفاً بالصفات لكان جسماً -مثل قياس الفقهاء، هذا يسمى قياس التمثيل– قياساً على المخلوق، فهذا غير وارد على الله ، لا يمكن أن يجري على الله قياس التمثيل، إلحاق فرع بأصل؛ لأن هناك مباينة بين الخالق والمخلوق، لا يمكن أن يقاس الخالق على المخلوقين ثم بعد ذلك نثبت أو ننفي، فالله له المثل الأعلى، ولا في قياس شمول، قياس الشمول عند المنطقيين هو كل ما كان مركباً من مقدمتين، مقدمة صغرى ومقدمة كبرى، وربما أكثر من ذلك من المقدمات، يستعملون فيه لفظ "كلّ" الدال على الشمول، كقولهم مثلاً: المخلوق متصفٌ بالصفات، هذه مقدمة، وكل متصفٌ بالصفات فهو جسم، -لاحظ الآن الشمول من "كلّ"-، من أين لكم هذا؟!.  

فالله لا يعلم حقيقة ذاته ولا صفاته إلا هو، فكيف أجريتم عليه هذا النوع من القياس؟، كل متصف بالصفات فهو جسم، نقول: هذا يمكن أن يقال فيما تشاهدونه، وتعرفونه فقط من المخلوقين، وليس كل المخلوقين أيضاً، أما الله -تبارك وتعالى- فإنه لا يجري عليه قياس الشمول هذا.

فهذه الأقيسة هي التي ضل بها كثير من هؤلاء المتكلمين فصاروا يجترئون على الله جرأة عظيمة، والإنسان حينما يقرأ في كلامهم، وفي كتبهم يعجب من هذه الجرأة، ثم يرجع أحياناً وهو يقرأ إلى حال السلف، وما كانوا عليه من تعظيم لله وتعظيم للنصوص، ثم ينظر كيف صار هؤلاء يجترئون على الله فيثبتون له أموراً بهذه الأقيسة، وينفون عنه أشياء بهذه الأقيسة في صفاته وأفعاله، فيقولون: يجب عليه كذا، ويمتنع عليه كذا، فهذا سوء أدب مع الله وجرأة عظيمة عليه، فالله لا يجري عليه قياس شمول ولا قياس تمثيل.

فإذا كان لا يجري عليه قياس شمول، ولا قياس تمثيل إذن الله لا ند له، ولا نظير له، إذن نحن نتوقف على السمع، ما أثبته الله لنفسه أثبتناه، وما أثبته له رسوله ﷺ أثبتناه، والعقل قد يدرك بعض الصفات إجمالاً فيكون تابعاً للنقل، لا أن النقل يكون تابعاً له، لكن العقل قد لا يدرك كثيراً من التفصيلات، يتوقف عندها، ولهذا قالوا: إن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- جاءوا بمَحارات العقول ولم يأتوا بمُحالات العقول، ما جاءوا بشيء يحيله العقل، وإنما جاءوا بأشياء قد يتوقف العقل لا يبلغها، لا يصل إليها، محارات العقول تقول: حار الماء، أي توقف، لم يعد طريقه سالكاً.

وسيأتي في القواعد والفوائد التي نقلها من كتاب (العقل والنقل)، وهي من أطول القواعد التي نقلها والضوابط والفوائد في هذا الكتاب (العقل والنقل)، وكتاب (منهاج السنة) نقل أشياء كثيرة، وبعض الكتب لا ينقل إلا شيئاً يسيراً في صفحة أو صفحتين.

قال -رحمه الله-: وينبغي أن يُعلم أن النفي ليس فيه كمال ولا مدح إلا إذا تضمن إثباتاً، وكل ما نفى الله عن نفسه من النقائص، ومشاركة أحد له في خصائصه فإنها تدل على إثبات ضدها من أنواع الكمالات.

يعني النفي المجرد لا يكون مدحاً، حينما يقال مثلاً: هذه الطاولة لا تَجهل، ليس هذا إثبات العلم لها، وحينما يقال مثلاً: هذه السارية لا تَظلِم، ليس فيه إثبات العدل لها، وكما قال الشاعر عن قبيلته يذمها ويهجوها:

قُبيِّلةٌ لا يغدرون بذمةٍ ولا يظلمون الناسَ حبةَ خردلِ

هو لا يمدحهم، لكن يريد أن يقول: هؤلاء لعجزهم وضعفهم صاروا بهذه المثابة، لا لعدلهم ولا لنزاهتهم، فالمقصود أنك حينما تقول مثلاً: هذه السارية لا تَجهل أو لا تَظلم ليس فيه إثبات العلم لها ولا إثبات العدل، وأما الله -تبارك وتعالى- فإن كل نفي يتعلق به في صفاته تعالى مثلاً، أو الرسول ﷺ، أو القرآن فإن ذلك يقتضي ثبوت كمال ضده، فإذا قال: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ [البقرة:255] هذا نفي، متى يكون هذا مدحاً؟

الوارد فيما يتصل بالله يقتضي ثبوت كمال ضده، فهذا يقتضي ثبوت ما هو ضد السِّنة والنوم وهو ثبوت كمال حياته، وقيوميّته، فإذا قال: وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49] فيه ثبوت كمال ضده، ثبوت كمال عدله، دائماً إذا رأيت فيما يتصل بصفات الله مثل هذا النفي فكمال الضد ثابت له، حينما يقول عن القرآن: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [البقرة:2]، فإن هذا يقتضي ثبوت كمال ضده، وهو أنه قد تضمن كمال اليقين، أو اليقينيات، أو ما يورث اليقين بحسب ما يذكر بالتفسير.

وإذا قال في صفات النبي ﷺ مثلاً في النفي قال:  وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم:3]، "ليس بفاحشٍ، ولا سخّاب في الأسواق"، إلى آخره فهذا فيه ثبوت كمال ضده، ماهي أضداد هذه الصفات؟ ليس بسخاب: ضدها كمال الوقار، والمروءة وما أشبه ذلك من الصفات التي تقابل هذا، وهكذا؛ لأن النفي بمجرده ليس بمدح، إذن عندنا صفات الله، وصفات النبي ﷺ، وصفات القرآن كلما وجدنا نفيًا فإنه يقتضي ثبوت كمال ضده.

قال -رحمه الله-: ما أخبر به الرسول عن ربه فإنه يجب الإيمان به سواء عرفنا معناه أو لم نعرفه؛ لأنه الصادق المصدوق، فما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به، وإن لم يفهم معناه، وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها، مع أن هذا الباب يوجد عامته منصوصاً عليه في الكتاب والسنة متفق عليه بين سلف الأمة.

فما أخبر به الرسول ﷺ عن ربه فإنه يجب الإيمان به، سواء عرفنا معناه أو لم نعرف معناه، هنا في قوله -تبارك وتعالى- في آية آل عمران: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7] على الوقف هنا، يعني حقائق الأشياء، حقائق الأمور الغيبية، وإذا وصلتَ فالوصل صحيح، وكلاهما ثابت عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ، يعني الله يعلم والراسخون في العلم يعلمون، وهذا محمول على المعنى، إذ إنه لا يوجد في القرآن شيء لا يفهم أحد معناه، لا الرسول ﷺ ولا غير النبي ﷺ؛ لأن الله ما خاطبنا بطلسمات ولا أحاجٍ ولا أمور غير مفهومة، وإنما جعله تبياناً لكل شيء.  

وقال: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [القمر:17]، يسره ولم يجعله في حال من الإبهام، فلا يوجد شيء في القرآن يخفى معناه على جميع الأمة إطلاقاً، لكنه يوجد منه أشياء هذا الذي يكون من قبيل المتشابه في المعاني، هو متشابه نسبي، يعني قد يخفى على زيد ويعرفه عمرو، هذا على الوصل في الآية: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ الراسخون يعلمون لكن غير الراسخين قد يلتبس عليهم، فماذا يفعلون؟ يفوضون ذلك إلى عالِمه آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، لا يتعرض إليه بالتكذيب، ولا بالتحريف، وإنما يَكِل علمه إلى عالمه، يعني يفوض علم ما جهل إلى عالمه، لكن ليس معنى ذلك أن مذهب السلف التفويض، لا، فهم يثبتون ما أثبته الله لنفسه، ويعرفون المعاني ويثبتونها، نحن نعرف معنى العزيز، ونعرف معنى الوجه، ومعنى اليد، ومعنى القدم، ومعنى الرحمة، ومعنى الغضب، ومعنى المقت، فقد خاطبنا الله بلغة العرب، ولكن ما حقائق هذه الأشياء، ما كنهها؟ هذا أمر لا نعلمه؛ لأنه غيب، ومَن جهل شيئًا من ذلك، التبس عليه شيء مما يتصل بصفات الله ، أو غير هذا، حينما يقول الله بأنه لا يكلمهم، ويقول في موضع آخر: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات:24]، فيلتبس فنقول: تكل هذا إلى عالمه، لا تكذب به، ولا تضرب بعضه ببعض.

وحينما يقول: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4] ويقول في موضع آخر في سورة السجدة: أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة:5] فهل هذا اليوم هو هذا اليوم؟ أو أن الخمسين ألف سنة هي يوم القيامة، وهذا يوم آخر؟

فالعلماء يعرفون هذا ويكشفون عنه، لكنه قد يلتبس على بعض الناس فيكون متشابها في حقه، فماذا يفعل؟

يكل العلم إلى عالمه سواء كان في باب الصفات، أو في أفعال الله ، أو في أحكامه الكونية، أو في أحكامه الشرعية، فهذا حال المؤمن.

قال -رحمه الله-: وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها، مع أن هذا الباب يوجد عامته منصوصاً عليه بالكتاب والسنة متفق عليه بين سلف الأمة.

يعني يجد الشفاء والجواب لو طلبه، الأمة لا يمكن أن تجهل هذا جميعاً، ولا يُعرف المراد به.

قال: وما تنازع فيه المتأخرون نفياً وإثباتاً فليس على أحد بل ولا له أن يوافق على إثبات لفظه أو نفيه حتى يعرف مراده، فإن أراد حقًّا قُبل، وإن أراد باطلاً رُد، وإن اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقاً، ولم يُرد جميع معناه، بل يوقف اللفظ ويفسر المعنى.

هذه مشكلة في الألفاظ المحدثة، المجملة التي تحتمل حقًّا وباطلاً، أهل السنة لا يعبرون بها ابتداء ولا يقرونها، وإنما يلتزمون ما ورد في الكتاب والسنة، لكنهم ابتلوا بطوائف من أهل البدع اجترءوا على الله كما سبق، وصاروا يوردون ألفاظاً مجملة تحتمل الحق والباطل، مثل: لفظ الجهة والتحيز، هل نثبت لله الجهة أو لا نثبت لله الجهة؟.

نقول له: هذه العبارة لم تثبت، لم ترد في صفات الله لا في الكتاب ولا السنة، فماذا تقصد بالجهة؟ إن كنتَ تقصد العلو، وأن الله فوق العالم، وأنه على العرش استوى فهذا ثابت صحيح، فأحياناً يقولون: هذا يقتضي إثبات الجهة، أو نحن لا نثبت الجهة، ويقصدون نفي العلو، فنقول لهم: لا، ما ادعيتم باطل مردود بنصوص الكتاب والسنة، وإن كنا لا نُقر هذا اللفظ، وإن كنتم تقصدون بالجهة أو التحيز أن الله -تبارك وتعالى- يحويه شيء من خلقه فإن الله أجلّ وأعظم من ذلك، وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام:91]، فنستفصل هؤلاء، لا نرد هذه الألفاظ التي تحتمل الحق والباطل ونقول: نرد ذلك مطلقاً، ونقول: الله ليس في جهة، أو نقول: الله في جهة، نثبت، وإنما نستفصل ولا نقر التعبير باستعمال مثل هذه الألفاظ، وهكذا لفظ الجسم، اجترءوا على الله ، هل هو جسم أو ليس بجسم؟ هل تحل به الحوادث أو لا تحل به الحوادث؟ ، نقول: نحن لا نثبت شيئًا من هذا، لكن ماذا تقصدون بذلك؟  

إن قصدتم مثلاً بحلول الحوادث أنه متصف بصفات الكمال المتعلقة بالمشيئة والإرادة فنحن نثبت لله ما أثبته لنفسه، مثل: أنه يتكلم متى شاء، وأنه ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة في ثلث الليل الآخر، إلى غير ذلك مما أثبته الله لنفسه.

الاستواء معلوم والكيف مجهول

قال -رحمه الله-: سُئل الإمام مالك -رحمه الله- وغيره من السلف عن قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] كيف الاستواء؟

فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فبيّن أن الاستواء معلوم وأن كيفية ذلك مجهول، وهكذا يقال في كل ما وصف الله به نفسه.

هذه العبارة عن الإمام مالك -رحمه الله- مشهورة، وهو مسبوق أيضاً إلى ذلك، فهي منقولة عن جماعة من السلف، قال بها قبله شيخه ربيعة، وهي منقولة أيضاً عن بعض الصحابة، فيقول: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وهذا ينطبق على جميع الصفات، لكن لما كان السؤال هنا عن الاستواء جاء الجواب عنه بخصوصه، فالاستواء معلوم من جهة المعنى، وليس مقصوده بذلك أنه معلوم الثبوت كما يقوله بعض أهل البدع، ممن ينتسب إلى الإمام مالك -رحمه الله- في المذهب الفقهي، أو ينتسب إلى غيره فيقول: معلوم الثبوت، وإلا فمذهب السلف التفويض مثلاً، لا، وإنما معلوم من جهة المعنى، نعرف معنى الاستواء، استوى بمعنى علا وارتفع، قال: والكيف مجهول، لا نعرف كيفية الاستواء، والإيمان به واجب نثبت ما أثبته الله لنفسه، والسؤال عنه بدعة؛ لأن هذا لا يصح السؤال فيه عن الكيف، والإمام مالك -رحمه الله- غضب لما سمع السؤال، وأمر بإخراج الرجل من مجلسه.

قال -رحمه الله-: والله تعالى لا يُعْلِم عبادَه الحقائق التي أخبر عنها من صفاته وصفات اليوم الآخر، ولا يعلمون حقائق ما أراد بخلقه وأمره، فيجب الإيمان بأن الله خالق كل شيء، وربه، ومليكه، وأنه على كل شيء قدير، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وقد علم ما سيكون قبل أن يكون، وقدر المقادير، وكتبها حيث شاء.

قوله هنا: والله تعالى لا يُعْلِم عبادَه الحقائق التي أخبر عنها من صفاته وصفات اليوم الآخر، هذا كما سبق: حقائق الأشياء وكنه هذه الأمور الغيبية لا نعلمها، نحن نعلم معنى الصفة، ونعلم أن في الجنة الحور العين، وأن فيها الأشجار والبساتين وما إلى ذلك، لكن ما مركباتها؟

كيف هي حقائقها؟

لا نعلم؛ لأنها من أمور الغيب، فهنا الله -تبارك وتعالى- لا يُعْلِم عبادَه الحقائق التي أخبر عنها من صفاته وصفات اليوم الآخر، ولو قُرئت لا يَعلم عبادُه الحقائق التي أخبر عنها من صفاته وصفات اليوم الآخر، ولا يعلمون حقائق ما أراد الله بخلقه وأمره، يعني من الحكمة، إلا ما أطلعهم الله -عز وجل- عليه، ولا حقائق ما صدرت عنه من المشيئة والقدرة، يعني لا يعلمون حقيقة الحكمة في الخلق، وحقيقة المشيئة العامة والقدرة الشاملة، لا يعلم بذلك إلا هو ، ولما قال للملائكة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30] إلى آخره.  

ثم بعد ذلك قال لهم: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ فالشاهد أن الله -تبارك وتعالى- لا يعلم عباده حقائق ما أراد بخلقه وأمره من الحكمة، ولا حقائق ما صدرت عنه من المشيئة والقدرة، كما أنهم لا يعلمون حقائق الصفات كلها، وهذا الكلام يذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في التدمرية عند الكلام على المتشابه، والتشابه يكون مطلقاً في آية آل عمران: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ فنقف، هذا التشابه المطلق الذي لا يعلمه إلا الله، وهذا في حقائق الصفات، وحقائق الأمور الغيبية، وأما إذا وصلتَ فالتشابه في المعنى، وهو تشابه نسبي يعلمه بعض الخلق، ويجهله آخرون، أو قد يخفى عليهم.

فشيخ الإسلام -رحمه الله- يتكلم عن موضوع المتشابه فيقول: إن حقائق الصفات من قبيل المتشابه المطلق الذي لا يعلمه إلا الله، كحقيقة حكمته وما إلى ذلك مما لم يُطلع عليه خلقه.

وهذه القاعدة مع التي قبلها هنا في الطبعة التي عندي الذي أخرج الكتاب قسمهما، وهي في كلام الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- في سياق واحد، وهي في كلام شيخ الإسلام في سياق واحد، فهي قاعدة واحدة فيما يجب في باب الشرع والقدر، يقول: فيجب الإيمان بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه على كل شيء قدير، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وقد علم ما سيكون قبل أن يكون -هذا القدر- وقدر المقادير، وكتبها حيث شاء، فهنا فصلُ هذه عن التي قبلها أوضح في المعنى، تلك في الحقائق والصفات في باب المتشابه، وهنا يتكلم عن قضية أخرى فيما يجب في باب الشرع والقدر، أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه على كل شيء قدير، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه عليم، وللقدر أربع مراتب، هي:

الأولى: العلم، يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون.

والثانية: أن الله كتب ذلك في اللوح المحفوظ، قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.

والثالثة: شاء.

والرابعة: خلقه وأوجده.

هذه أربع مراتب، وبعض الناس لما يتحدث عن القدر، ويقربه من الآخرين، يقول: مثل المعلم الذي يدخل في أول الفصل الدراسي ثم بعد ذلك يستطيع أن يأتي للطلاب، ويقول: هذا سيأتي بتقدير ممتاز، وهذا جيد جدًّا، وهذا جيد، وهذا مقبول، وهذا راسب، وهذا محروم، وتأتي النتائج كما قال، لا قصداً منه وظلماً، وإنما بحسب معرفته بحالهم، فيقول: الله له المثل الأعلى علم من خلقه ذلك، نقول له: لا، ليس فقط هذا، علم وكتب وشاء وخلق، هذه غير موجودة في المعلم، والمثال المضروب، مع أن هذا المثال يفشوا كثيراً في تقريب القدر، لكنه غير صحيح، خطأ.

قال -رحمه الله-: ويجب الإيمان بأن الله أمر بعبادته وحده لا شريك له، كما خلق الجن والإنس لعبادته، وبذلك أرسل رسله وأنزل كتبه، وعبادته تتضمن كمال الذل والحب له، وذلك يتضمن كمال طاعته.
التحسين والتقبيح العقليان
قال -رحمه الله-: فما أخبرت به الرسل من تفاصيل اليوم الآخر، وأمرت به من تفاصيل الشرائع، لا يعلمه الناس بعقولهم، كما أن ما أخبرت به الرسل من تفصيل أسماء الله وصفاته لا يعلمه الناس بعقولهم، وإن كانوا يعلمون بعقولهم جُمل ذلك.

هنا شيخ الإسلام -رحمه الله- يتكلم عن هذه القضية في التدمرية عند الكلام على مسألة التحسين والتقبيح العقليين، بمعنى هل العقل له قدرة على أن يحسن أو يقبح؟ أو لا؟

هذه المسألة فيها تفصيل عند أهل السنة، أهل البدع انحرفوا في ذلك، فالمعتزلة قالوا: إن التحسين والتقبيح للعقل، فما حسنه العقل فهو حسن، وما قبحه فهو قبيح، فاعتمدوا العقل وجعلوا النقل تابعاً له، وهم مطردون مع أصلهم في تحكيم العقل وتقديم العقل على النقل.

والأشاعرة مساكين كالعادة يتناقضون، فهم يحاولون الرد على المعتزلة فيقعون في حفرة، فهذه أحد المواضع التي سقطوا فيها، تناقضوا، هم يقدمون العقل في الجملة على النقل، ويقولون: إن النقل تابع له، وما عارض العقل فيقولون: إما أنه غير صحيح، أو يحتاج إلى تأويل، لكن في باب التحسين والتقبيح يقولون: المعول على النقل فقط والعقل لا يحسن ولا يقبح، وجاءوا بالعجائب قالوا: لو أن الشرع حسن الزنا والكذب والظلم والفجور والإجرام لكان حسناً، فالعقل لا مدخل له في ذلك، ولو أن الشرع قبح الصدق والعفاف والعدل لكان قبيحاً، والعقل لا مدخل له في ذلك.

أما أهل السنة -ولله الحمد- فهم يقولون: إن العقل والنقل لا يتعارضان، ولهذا فإن أهل السنة لا يقولون: الدليل الشرعي والدليل العقلي؛ لأن الدليل العقلي الصحيح هو من جملة أدلة الشرع التابعة، ولكنهم يقابلون العقل بالنقل ولا يقابلونه بالشرع، لا يقولون: الدليل الشرعي والدليل العقلي، دل على ذلك الشرع والعقل، أهل السنة لا يقولون هذا، وإن كان بعض أهل العلم يتجوز في العبارة، وإنما يقولون: دل عليه النقل والعقل، النقل: الوحي، والعقل.

وخلاصة ما يقول أهل السنة في باب العقل والنقل في مسألة التحسين والتقبيح: إن العقل قد يدرك حسن بعض الأشياء أو قبحها، كالظلم يدرك قبحه، والفجور والبغي والفساد والزنا والرذيلة وأنواع الفواحش يدرك قبحها، والعدل والصدق والعفاف يدرك العقل حُسنها، ولهذا قيل لأعرابي: بم عرفت أنه رسول الله؟، قال: ما أمر بشيء فقال العقل: ليته نهى عنه، ولا نهى عن شيء وقال العقل: ليته أمره به، لكن العقل قد يتوقف في بعض الأشياء فلا يبلغ ذلك، يعني لا يدركها، فالشرع هو الفيصل، نعرفها عن طريق الشرع، هذا مذهب أهل السنة في باب التحسين والتقبيح, أما الأشاعرة فيلغون العقل تماماً، وكلامهم هذا لا يقبل في العقل، يناقضون عقولهم.

والمعتزلة يجعلون المعوّل على العقل، وأهل السنة وسط في باب التحسين والتقبيح بين هؤلاء وهؤلاء، فكلام شيخ الإسلام هنا يقول: ما ذكر من تفاصيل اليوم الآخر، وأمرت به الرسل من تفاصيل الشرائع لا يعلمه الناس بعقولهم، صحيح؛ لأن العقول لا تصل إلى تلك التفصيلات المتعلقة بالغيب، أو قضايا تفاصيل الشريعة، هذا يؤخذ عن طريق الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، يمكن للعقل أن يشرِّع ويجعل أربع ركعات في الظهر، وثلاث ركعات في المغرب وركعتين في الفجر؟، هذا يؤخذ عن طريق النقل، لماذا كانت ثلاثًا في المغرب، وأربعًا في العشاء، وأربعًا في العصر؟

فهذا قد لا يصل إليه العقل، وهكذا ما يتعلق بتفاصيل أسماء الله وصفاته، العقل يدرك أن الله كامل مستحق لأوصاف الكمال، وهناك بعض الصفات يدركها العقل، لكن بقية التفاصيل لا يدركها، هل يمكن للعقل أن يعرف ويدرك أن الله يضحك؟

لا، هل يمكن للعقل أن يدرك أن الله ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر؟

لا يمكن أن يصل إلى هذا، هل يمكن للعقل أن يدرك أن الله استوى على العرش؟

الجواب: لا، والاستواء علو خاص.

فعل المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور
قال -رحمه الله-: المؤمن مأمور بأن يفعل المأمور، وأن يترك المحظور، ويصبر على المقدور.

هذا واضح، وهذا كله راجع إلى الصبر، الصبر على طاعة الله  وترك معصيته، والصبر على أقداره المؤلمة.

قال -رحمه الله-: وجماع ذلك أنه لا بد له في الأمر من أصلين، ولا بد له في القدر من أصلين، ففي الأمر عليه الاجتهاد في امتثال الأمر علماً وعملاً، فلا يزال يجتهد في العلم بما أمر الله به، والعمل بذلك، ثم عليه أن يستغفر ويتوب من تفريطه في الأمر وتعديه للحدود.

هذا في باب الأمر فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وفي باب القدر، قال -رحمه الله-: وأما في القدر فعليه أن يستعين بالله في فعل ما أمر به، ويتوكل عليه، ويدعوه، ويرغب إليه، ويستعين به، ويكون مفتقراً إليه في طلب الخير وترك الشر، وعليه أن يصبر على المقدور ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وإذا آذاه الناس علم أنه مقدر عليه.

يعني هذا الكلام: وأما في القدر.. هو متصل بالكلام الذي قبله في كلام شيخ الإسلام، لكن بينهما كلام حذفه الشيخ عبد الرحمن -رحمه الله-، في القدر عليه أن يستعين بالله في فعل ما أمر به ويتوكل عليه، يعني يفعل السبب ثم بعد ذلك يرغب إلى الله ويفوض أمره إليه، ويصبر على أقدار الله -تبارك وتعالى-، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11] "يعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم"[1].

قال -رحمه الله-: على العباد أن ينظروا إلى القدر في المصائب، وأن يستغفروا من المعائب.

ينظروا إلى القدر في المصائب: نزلت به مصيبة، مات له محبوب، فينظر هذا أمر قدره الله لا حيلة فيه، حصل له أمر يكرهه، نزل به مرض فهذا ينظر إلى القدر في المصائب فيرضى ويُسلم، ويعلم أنها من الله فيرضى ويسلم، وهذا أنواع: نوع يمكن مدافعته فيدافع القدر بالقدر، مثل الجوع والعطش قدر، فيدافعه بالقدر فيأكل؛ لدفع الجوع، ويشرب لدفع العطش، ويتداوى لدفع المرض، وهناك أمر لا طب فيه، مات له ولد أو محبوب أو نحو ذلك، ما عليه إلا التسليم، هذا أمر لا يمكن مدافعته، غرقت تجارته، احترقت داره، فهنا ينظر إلى القدر في المصائب، وأن يستغفروا من المعائب، هذا الإنسان الذي وقعت له معصية لله هل له أن يحتج بالقدر، ويقول: الله قدر هذا عليّ؟   

يزني ويفجر ويشرب الخمر ويقول: الله قدر هذا عليّ، نقول: ليس لك أن تحتج بالقدر على المعائب، وإنما على المصائب، تنظر إلى القدر في المصائب، وأما في المعائب فلا، وإنما عليك أن تتقي الله ما استطعت، وما بدر منك فعليك أن تبادر إلى التوبة، فالمعائب -يعني المعاصي والذنوب- لا يحتج عليها بالقدر، لكن حديث الاحتجاج بين آدم وموسى -عليهما السلام-، موسى يقول لآدم : أخرجتنا من الجنة، فآدم رد عليه وقال: أتلومني على أمر قدره الله عليّ قبل أن يخلقني؟، قال النبي ﷺ: فحجّ آدمُ موسى[2]، هنا هل آدم يحتج بالقدر على المعصية؟.  

لا، وإنما نظر إلى المصيبة التي حصلت من جراء ذلك الأكل من الشجرة، وهي الإنزال إلى الأرض دار الشقاء والكبد، فهو يحتج على المصيبة، وإلا فآدم ﷺ تاب من معصيته: قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا [الأعراف:23]، فالله تاب عليه، قبل توبته، فآدم ﷺ لم يكن يحتج على المعصية، ويبرر معصيته بالقدر، كما يفعل بعض الناس، وإنما أراد المصيبة، فقال النبي ﷺ: فحجّ آدمُ موسى.

فليس لأحد أن يحتج على المعاصي والذنوب التي يقارفها بالقدر ويقول: الله مقدر عليّ بالشقاء، وما يدريك؟، ونحن نقول لهؤلاء الناس الذين يقعدون عن العمل الصالح ويجترئون على المعاصي: إذن لماذا تأكل وتشرب؟ لا تأكل ولا تشرب، مقدر لك ما قدر، لماذا الأكل والشرب؟ 

يقول: لأدفع الجوع والعطش، نقول: إذن لماذا لا تقول ذلك أيضاً في باب الطاعة والمعصية بأن عليك أن تفعل الطاعة وتترك المعصية؟، لماذا يحرك رجليه ويمشي يذهب ويجيء، ويسأل أسئلة تدل على انحراف في هذا الباب؟

نقول: ابق مكانك لا تتحرك، يقول: لا، لا بد أن أحرك رجلي لأصِلَ، هذا من باب السبب، نقول: وعليك أن تطيع الله وتترك معصيته، فهذا من باب السبب الذي يتوصل به إلى مرضاته.

قال -رحمه الله-: وقد جمع الله بين هذين الأصلين: العبادة والتوكل في غير موضع، كقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود:123] فما لم يكن بالله لا يكون، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وما لم يكن لله لا ينفع ولا يدوم ولا بد في عبادته من أصلين: إخلاص الدين لله، وموافقة أمره الذي بعث به رسله.

هو هذا، كما قال الله : عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ۝ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:2-3]، يعني كافيه، إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:3] فالعبادة لله والاستعانة به كما يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فيفعل هذا وهذا، العبادة والاستعانة، فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ فما لم يكن بالله لا يكون، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وما لم يكن لله لا ينفع ولا يدوم، ولا بد في عبادته من أصلين: إخلاص الدين... إلى آخره.

فالإنسان يحتاج إلى هذا وهذا، قد يوجد عند بعض الناس توكل واستعانة، ولا يوجد عندهم عبادة، كما يوجد عند بعض قطاع الطرق والمجرمين كما ذكر شيخ الإسلام في بعض كتبه، وقد يوجد عند بعض الناس عبادة ولكنه لا يوجد عنده استعانة ولا توكل، وينكسر لأدنى ما يقع له من المكروه، والمؤمن يجمع بين هذا وهذا، فإنه لا يتمكن من عبادته والقيام بفرائضه إلا بالاستعانة به، فمن أعانه الله حصل له كل خير ومطلوب، ومن لم يعنه فإنه لا يمكن أن يحصل على مطلوبه، -والله تعالى أعلم-.

هذا ما يتعلق بالتدمرية، ولا يقاس عليها غيرها، يعني نحن نحتاج أن نعلق على هذه الأشياء، لكن بعض كلام شيخ الإسلام في كتبه الأخرى قد لا يحتاج إلى هذا التعليق، ونحتاج إلى أن نمضي إلى أكثر من هذا لكن مع المقدمات، والتدمرية تحتاج ما لا يحتاج غيرها من الكتب، فاحتجنا إلى هذا الوقت، والله المستعان، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

  1. انظر: السنن الكبرى للبيهقي، برقم (7133).
  2. أخرجه البخاري، كتاب القدر، باب تحاجَّ آدمُ وموسى عند الله، برقم (6614)، ومسلم، كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى -عليهما السلام-، برقم (2652).

مواد ذات صلة